جلالة الملك يدعو إلى المزيد من التضامن والتعاون بين بلدان العالم الإسلامي وجه جلالة الملك محمد السادس، رسالة إلى المشاركين في الحفل الذي نظم أول أمس الخميس بالرباط بمناسبة تخليد المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) للذكرى الثلاثين لتأسيسها، دعا من خلالها جلالته، إلى المزيد من التضامن والتنسيق والتعاون بين بلدان العالم الإسلامي في مجالات التربية والتكوين والعلوم والتقنيات الحديثة للاتصال والتنمية المستدامة وذلك لتأهيل الأجيال الصاعدة والمقبلة للانخراط في الحضارة الكونية، حتى تكون واثقة من نفسها، معتزة بهويتها العريقة، ومساهمة في ترسيخ قيمها الخالدة، وتحصينها من التطرف والفراغ الروحي، ومن السقوط في التبعية والاستلاب. وفي ما يلي نص الرسالة الملكية السامية التي تلاها رئيس الحكومة عبد الإله ابن كيران: «الحمد لله وحده والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه، أصحاب المعالي والسعادة، حضرات السيدات والسادة، يسعدنا أن نتوجه إليكم بمناسبة احتفال المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة بالذكرى الثلاثين لتأسيسها. وقد أبينا إلا أن نضفي رعايتنا السامية على هذه التظاهرة الهامة، تكريما لهذه المنظمة، المنبثقة عن منظمة التعاون الإسلامي، وتقديرا لرسالتها الحضارية في الحفاظ على الهوية الإسلامية، ولإسهامها في النهوض بالعمل الإسلامي المشترك. فمنذ تأسيسها بمدينة فاس، في الثالث من شهر مايو سنة 1982، برعاية كريمة من والدنا المنعم جلالة الملك الحسن الثاني، طيب الله ثراه، ما فتئ المغرب يحتضن هذه المنظمة العتيدة، مقرا ودعما، لتحقيق أهدافها النبيلة، بما يستجيب لتطلعات شعوبنا الإسلامية الشقيقة، التواقة إلى المزيد من المعرفة والعلوم والثقافة لرفع التحديات الراهنة والمستقبلية. لقد شكل تأسيس هذه المنظمة، كمؤسسة متخصصة، تطورا نوعيا في العمل الإسلامي المشترك، من أجل بناء قاعدة متينة للنهضة الحضارية للعالم الإسلامي، وخدمة أهداف التنمية التربوية والعلمية والثقافية والإعلامية، وذلك وفق رؤية شمولية، وفي إطار من التعاون والشراكة، وتنسيق الجهود وتكاملها بين الدول الأعضاء. وإننا لنسجل بكل تقدير، الإنجازات الهامة التي حققتها المنظمة، خلال العقود الثلاثة الماضية، بفضل الخطط والاستراتيجيات التي اعتمدتها لتطوير مناهج التربية والتعليم في البلاد الإسلامية، ومواكبة المستجدات العلمية وتشجيع البحث العلمي والنهوض بالثقافة الإسلامية، فضلا عن إسهامها الفاعل في حوار الثقافات وتحالف الحضارات والتعايش وقبول الآخر، والتربية على مبادئ حقوق الإنسان والمواطنة المسؤولة، وإشاعة قيم الشورى والتعددية. كما نشيد بما تقوم به كفضاء للتفكير وتبادل الآراء والخبرات، يجمع عددا من المفكرين والأكاديميين والشخصيات الإسلامية والدولية المرموقة في مجال تخصصها، بالإضافة إلى توفير الدعم المالي والتقني والأكاديمي للدول الأعضاء، وللأقليات والجاليات الإسلامية، وتقديم منح دراسية لطلبة هذه الدول. وبفضل هذا العمل المنظم والتخطيط المحكم، أصبحت الإيسيسكو اليوم، إحدى المنظمات الإقليمية المتخصصة الأكثر إشعاعا ونجاحا في النهوض برسالتها الحضارية، والمشهود لها بالمصداقية، وبالحضور الفاعل في الساحة الدولية، وذلك في إطار من التعاون والشراكة مع المنظمات الدولية والإقليمية ذات الصلة. وفي هذا الصد، نود التعبير عن عميق تقديرنا لمعالي الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري، لما يبذله من جهود مخلصة على رأس الأمانة العامة للمنظمة، بما هو مشهود له به من غيرة إسلامية صادقة، ومن كفاءة واقتدار، وحكمة وحنكة وبعد نظر، في سبيل الارتقاء بهذه المؤسسة إلى أعلى المستويات، والدفع قدما بالعمل الإسلامي المشترك، في نطاق اختصاصها. وإننا إذ نؤكد دعم المملكة المغربية الموصول للمنظمة، مثمنين مساهمات جميع الدول الأعضاء في بلورة وتجسيد خططها واستراتيجياتها على أرض الواقع، لندعو إلى المزيد من التضامن والتنسيق والتعاون بين بلدان العالم الإسلامي، في مجالات التربية والتكوين، والعلوم والتقنيات الحديثة للاتصال، والتنمية المستدامة لتأهيل أجيالنا الصاعدة والمقبلة للانخراط في الحضارة الكونية، واثقة من نفسها، معتزة بهويتها العريقة، ومساهمة في ترسيخ قيمها الخالدة، وتحصينها من التطرف والفراغ الروحي، ومن السقوط في التبعية والاستلاب. أصحاب المعالي والسعادة، حضرات السيدات والسادة، في عالم مطبوع بتسارع التحولات، وتواتر الأزمات، وباهتزاز المرجعيات، مع ما يترتب عن ذلك من تزايد نزوعات التعصب، والتطرف والانغلاق فإن الدوافع التي كانت وراء إنشاء منظمة الإيسيسكو، أصبحت اليوم أكثر راهنية، ولا سيما ما يتعلق منها بتحصين الشخصية الإسلامية وثقافتها، والحفاظ على هويتها، في إطار من الانفتاح على العصر، والانخراط في مجتمع المعرفة والاتصال. وأمام هذا الواقع المشحون بشتى التحديات، فإن المنظمة مدعوة، أكثر من أي وقت مضى، إلى التفاعل الايجابي مع تطلعات الشعوب الإسلامية، إلى المزيد من التضامن والتنمية البشرية والمستدامة، ودعم البرامج والأوراش الهادفة لمحاربة الأمية والجهل والانغلاق، التي تمس فئات عريضة من ساكنة مجتمعاتنا، والعمل على تعزيز التعاون العلمي والتكنولوجي والإعلامي بين الدول الأعضاء. وفي نفس السياق، ينبغي اعتماد مقاربات جديدة وفعالة، لمواكبة التطورات المتلاحقة التي يعيشها العالم في مختلف المجالات، وخاصة في ميدان المعلوميات والتكنولوجيات الحديثة، لما لذلك من ارتباط وثيق بالتنمية البشرية والاقتصادية والثقافية. فالتربية لم تعد اليوم شأنا منحصرا في دور الأسرة والمدرسة والمجتمع، بل أصبحت لها فضاءات جديدة وموازية، تتيحها الثورة التكنولوجية والرقمية التي يشهدها العالم، من خلال وسائل الاتصال والتواصل، بما لانتشارها الواسع والسريع من تأثير مباشر على ثقافة الأفراد والجماعات، وبالتالي على مجتمعاتنا. وأمام حجم التحديات الراهنة والمستقبلية، وخاصة في مجال التكنولوجيات الرقمية، فإن أمتنا مطالبة، دولا ومجتمعات ومنظمات، بالاعتماد على مؤهلاتها وقدراتها الذاتية، وانتهاج سياسة التضامن الفعال والصادق، لرفع التحدي المصيري لردم الهوة الرقمية بين الدول الإسلامية والبلدان المتقدمة، وبالتالي كسب رهانات العلم والابتكار، الذي يفتح آفاقا رحبة لتحقيق التنمية في جميع المجالات، باعتبارها أسبقية ملحة لشعوبنا، خاصة وأنها أصبحت وثيقة الارتباط بالميدان الرقمي. ووعيا منا بضرورة جعل تنمية الإنسان في صدارة الأولويات، التي يتعين على المجتمعات الإسلامية النهوض بها، فإن المنظمة مدعوة لتقديم مساهماتها في بلورة نموذج تربوي حضاري، يساير العصر، وينهل من الرصيد الغني لعلماء أمتنا ومفكريها الأفذاذ، ومن القيم الإسلامية الحقة، القائمة على الحوار والوئام والتسامح والسلام، والتي شكلت، على مر العصور، معينا لا ينضب استمدت منه مختلف الحضارات الإنسانية. وهو ما يقتضي العمل على إيجاد أنجع السبل والآليات للارتقاء بالعلوم والثقافة ورجالاتها في بلداننا الإسلامية، للنهوض بدورها المحوري، كقاطرة مجتمعية فاعلة في تحقيق النمو والتقدم، وترسيخ الديمقراطية. وفي هذا الصدد، ندعو إلى تكثيف الجهود الجماعية، ومواصلة دعم المنظمة في هذا المجال، ومدها بكل الإمكانات والوسائل اللازمة لتحقيق أهدافها النبيلة. وإننا لواثقون بأن هذه المنظمة العتيدة، التي اعتبرها والدنا المنعم، جلالة الملك الحسن الثاني، طيب الله ثراه، بمثابة «ضمير الأمة الإسلامية»، ستساهم بفضل دعم الدول الأعضاء، بعملها الجاد في تحقيق التنمية البشرية الشاملة والمستدامة، وتجسيد التضامن الإسلامي على أرض الواقع، والتعاون على «البر والتقوى» والعمل الصالح. أصحاب المعالي والسعادة، حضرات السيدات والسادة، إذا كانت منظمة الإيسيسكو تعمل جاهدة على النهوض بالتربية والعلوم والثقافة بدول العلم الإسلامي، فإننا نود الإشادة أيضا بمساهمتها الفعالة في الدفاع عن مدينة القدس، والحفاظ على هويتها الروحية والثقافية، وصيانة معالمها الحضارية والأثرية، سواء من خلال فضح الانتهاكات الإسرائيلية السافرة للمقدسات الدينية بها، وتماديها في تدمير المؤسسات التربوية والتعليمية والثقافية الفلسطينية بهذه المدينة السليبة، أو من خلال جهودها لتسجيل المواقع الأثرية والطبيعية الفلسطينية بها في قائمة التراث الإنساني العلمي. وبصفتنا رئيسا للجنة القدس، المنبثقة عن منظمة التعاون الإسلامي، ما فتئنا ندين تصرفات السلطات الإسرائيلية اللامشروعة في الأوقاف الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف، وممارستها العدوانية لتشويه وطمس الهوية الحضارية لهذه المدينة الصامدة، كأعمال الحفر والتنقيب في محيط المسجد الأقصى، وتصعيد عمليات البناء الاستيطاني على أراضي الفلسطينيين، وهدم منازل المواطنين المقدسيين، وترحيلهم القسري. وأمام هذا الوضع المقلق، نؤكد ضرورة تنسيق الجهود والمبادرات للتصدي لهذه التصرفات المرفوضة، التي تخالف قرارات الشرعية الدولية والمواثيق اللأممية، وتتنافى مع تعاليم الديانات السماوية ومع القيم الإنسانية المثلى. وسنواصل جهودنا واتصالاتنا مع القوى المؤثرة والفاعلة على الساحة الدولية، من أجل الضغط على الحكومة الإسرائيلية، لحملها على توقيف مخططاتها الهادفة لتغيير الطبيعة السكانية والعمرانية لهذه المدينة المقدسة، وصون معالمها الثقافية الروحية التي ترمز لتعايش الأديان السماوية. وستظل قضية القدس الشريف، بصفة خاصة، والقضية الفلسطينية بصفة عامة، في صلب اهتماماتنا، مؤكدين مواقفنا الثابتة، ودعمنا الموصول لكفاح الشعب الفلسطيني ومساندتنا لكل الجهود والمبادرات الخيرة الهادفة لإقرار سلام عادل وشامل ودائم، يضمن الحقوق الفلسطينية المشروعة، وإقامة دولته المستقلة، الكاملة السيادة، وعاصمتها القدس الشريف. دولة قابلة للحياة، تعيش جنبا إلى جنب مع دولة إسرائيل، في ظل الأمن والسلام والاستقرار والوئام لكافة شعوب المنطقة. أصحاب المعالي والسعادة، حضرات السيدات والسادة، إن تخليد الذكرى الثلاثين لتأسيس منظمة الإيسيسكو ينبغي أن يشكل لحظة قوية لاستشراف المستقبل، أكثر مما هو التفاتة إلى منجزات الماضي. ومن ثم، فإننا واثقون من أن هذا الملتقى، بما يتوافر له من فعاليات فكرية مرموقة، ومشاركة وازنة لأعضاء المنظمة من شعوبنا الشقيقة، سيتمكن من بلورة نظرة مستقبلية بناءة وواعدة لعمل هذه المنظمة العتيدة. وإذ نرحب بكم جميعا على أرض المغرب، بلد الحوار والملتقيات الدولية الكبرى، فإننا ندعو الله تعالى أن يوفقكم ويسدد خطاكم، ويعينكم على تحقيق ما تتطلع إليه أمتنا الإسلامية من موفور العزة والكرامة، واطراد التقدم والازدهار. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته».