غط في نوم عميق، تلفه أحلام تطارد بعضها. بدأت تتراءى له وجوه، هي حقا وجوه، لكنها لم تكن تشبه الوجوه. كانت سريعة التحول، تأخذ صفة الذئاب فتطول، وتأخذ صفة الضباع فتتبعج، ثم تعود للطبيعة الآدمية، فتتلون بألوان الطيف. لم تكن سبعة وجوه بالتأكيد، لكنها كانت تتلون كطبيعة البشر. في الهزيع الأخير من الليل، بدأت الحبال الصوتية في حنجرته تعزف أناشيد، كانت تتلون وتتنوع عزفا حسب طبيعة الصفة التي تَشكّل منها الوجه. لم يكن شخيرا عاديا، كان مواء حينا وعواء أخرى أو صهيلا ممزوجا بنباح. مع اقتراب الفجر، تحول العزف أنينا بدأ يخفت ويخفت حتى هدأت جوقة العازفين، وعاد وجهه لطبيعته البشرية، وكان آخر حلم زاره، رأى فيه نفسه طائرا ضخما بجناحين ويدين طويلتين كأعمدة الإنارة، يمسك بواحدة منهما مكنسة والأخرى مجرفة. كان الطيران سريعا واليدان بخفة متناهية تكنس الشوارع والأزقة، وحين امتلأ الجراب الكبير الضخم، رمى محتوياته في البحر، ومن هناك جر خرطوما طويلا وعاد يغسل الأماكن التي مر بها كنسا، حتى غدت المدينة زاهية كعروسٍ ليلةَ زفافها. توقف العرض السينمائي في مخيلته مع تسلل أشعة الشمس عبر مشبك النافذة، تحسس جوانحه فلم يجد لها أثرا، وقام مسرعا لمرآة الحمام، جحظت عيناه مهما تبحثان عن وجه من الوجوه التي كانت تتراءى له، لم تعكس المرآة غير وجهه المألوف. لم يصدق نفسه؛ لم يصدق أنه لا يملك غير وجهه الحقيقي. ضغط على بشرة حنكه بالسبابة والإبهام وبدأ يجر محاولا خلع الوجه الآدمي لتظهر الوجوه الأخرى؛ لكن الوجه لم يكن غير وجهه. احتار في أمره بين مصدق وغير مصدق. نظف أطرافه ولبس ملابسه. في الشارع استوقفه التغيير، نظافة غير مألوفة بادية على وجه الحي، لا أثر للأتربة ولا لقصاصات الورق. أشجار النخيل مشذبة بعناية لافتة، وعلى جوانبها نمت أزهار وتفتحت، أعمدة الإنارة استبدلت بأخرى جديدة، جدران الواجهات تم تبييضها، والإسفلت لازال البلل يغطيه كعلامة على خضوعه لعملية غسيل في وقت قريب. وقف متأملا مسترجعا حلم الأمس، هاهو الحلم يراه رؤية العين وقد تحقق، ولأن وجهه لم يتحول، فالذي حدث ليس حلما عاديا إنما هو حقيقة. بدأ إحساس غريب يدبُّ في مخيلته، لعلها مُسحة الصلاح حلت به. هل يعلنها على الملأ ليُقام له ويُقْعد، وتتبرك بتلابيبه النساء، وتحملن إليه الذبائح والهدايا؟ أم يستر بركته كعادة الأولياء الحقيقيين؟ تدافعت الرغبتان في صدره، دخل هو بينهما في حيرة لم تخرجه منها غير أبواق سيارات الشرطة التي عج بها الشارع، وأجراس الدراجات النارية للدفاع المدني توقِفُ السيارات العابرة وتركنها على الحافة لتُخليَ الشارع. بعد توقف حركة السير تماما، مر َّ موكب رئيس الدولة تتقدمه سيارات الحراسة وتحفه دراجات الدفاع، وخلف الموكب، سحب رجال الوقاية المدنية شاحناتهم المحملة بالماء لتنظيف شارع سيمر منه الموكب في الغد. الآن فقط، تأكد له أن في حلمه نصيب من الحقيقة ؛على الأقل فقد رأى تقلُّب وجوه البشر بألوان الطيف.