لا أدري بأية لغة نتحدث. لا أدري بأية لغة أتحدث إليك حين أتحدث. لا أدري بأية لغة حين تتحدثين. هل تدركين ما أعني؟ هل تعنين ما أفهم؟ تتحدثين بلغات كثيرة: لجسدك لغة، ولفمك لغة، ولعينيك إذ تبتسمين لغات أخرى، يكذبها في الغالب لسانك. بالعربية حين أكتب إليك، ينحرف مسار الكتابة باتجاه الأدب، فأتخلى عن قول أشياء كثيرة، وأجمّل أخرى؛ وحين أحاول جاهدا بالإنكليزية، أشعر أن اللغة هي التي تملي عليّ، فأترك لآخرين، أبطال أفلام في الغالب، مهمة التعبير عن... (my frustration)، هذا الذي لا أجد له ترجمة شافية في العربية، فأصمت تغاضيا عن حيرتي واضطرابي وخيبتي، سعيا وراء اتساق الكلام. فكرت كثيرا بالصمت، صمتّ كثيرا، وأصمت عندما لا تكونين قريبة منّي. أتخذ بصمت قرارات كثيرة بأن أصمت في شأنك، وغالبا ما يجرني الصمت مثل صخرة في لجة القنوط والاكتئاب. ربما لأن الصمت قرين الحداد. فأنا لا أتكلم حين أفكر أن فقدانك حتمي، وأصمت حدادا عليك أو -وهذا من دروس سلافوي جيجاك- حدادا على فقدان الرغبة التي تشدني إليك، وتجعلني آرق حين تغيبين، وأعرق اضطرابا في حضورك، ويخفق قلبي مثل ورقة ممزقة كلما أقبلت عليّ. أجل، فقدانك يحزنني، لكن الخوف من فقدان الرغبة في حبك يرمي بي في مطاوي الكآبة. وجومي أو انطفائي المفاجئ مثل جمرة ألقيت في ماء قبل يومين، لم يكن بسبب حكايتي مع صاحبتي السابقة، وإنما بسبب فكرة تجلت لي بوضوح وأنا أنظر إليك في طريقنا إلى بار الناشنال هاربر، تتأبطين ذراع صديقنا المشترك: فكرت أنني قادر على نسيانك، وبأنني أستطيع أن أواصل حياتي من دون هذا الهراء، وبأن وقتي يضيع ومشاعري تبتذل. إذ لم أفهم المقصود من ذلك التقارب الجسدي غير المبرر، ولم يفهم هو مغزى ليبراليتك الصارخة. وألقت أمك باللائمة على النبيذ. فقالت، تتعذر، إنه يفقدك رشدك. أعرفك ليبرالية في الاتصال الجسدي مع الآخرين وقد نبهتك مرارا. قلت لي: «إنه تعبير بريء عن المودة.» وقلت لك: «إن للجسد لغة بابل عتيدة لا تخطئ مقصدها، ويتقن فك رموزها الجميع.» لكنك لا تفهمين، وتقولين أشياء يكذبها جسدك، ويقول جسدك أشياء يجهد في تكذيبها لسانك. تسألينني ساخرة إن كان عليك الامتناع عن لمس كلبك أيضا. وأسألك ساخرا إن كان الآخرون من كلاب أهلك، فتضحكين إعجابا بالفكرة. أسألك ونحن في السرير، إن كنت تحبينني، فتسحبين يدي إلى صدرك وتجيبين ب»كلا»، فأضمك وألمك وأشم المخابئ اللدنة من جسدك، فتنقادين من دون مقاومة ومن دون استسلام، وأحيانا تستسلمين بشراسة ذئبة. لا أفهم. في متجر الملابس ملت بوجهك عني حين أردت تقبيلك على خدك. ورأيتك تنظرين إلى الموظف المحاسب، وكأنك تردّين أمامه تهمة علاقة بيننا. سألني الشاب إن كنت قد التقطتك من الطريق، أو لأكن أمينا، سألني إن كنت قد التقيت بك توا في السوق. كان بودي أن أقول له إننا، أنا وأنت، كنا قبل ساعة من الوقت ممدين على سريرك، فمي على عنقك ويدي تتمرغ مثل جرو أعمى في لحم صدرك. ستقولين إنك تنصاعين لإلحاحي، كما قلت لأمك. لا أفهم، ما علاقة الإلحاح بالجنس. قد تخرجين معي لتناول كوب قهوة أو حتى وجبة طعام، عشاء ليكن، لكن كيف تسلمين جسدك لإلحاحي؟ أم أن للإلحاح معنى آخر في قاموس لغاتك الكثيرة. حب أو إغراء مثلا؟ عنقاء تنهض من الرماد بأجنحة معطوبة، تستسلم للحب من دون حب، وتتحدث لحبيب عن استحالة الوقوع في الحب. لكنني أعرف سرها. كلماتها المطمورة في رماد علاقة سابقة تلتبس عليها وعلى بعضها البعض، لكن ندوب الرماد الناشبة في روحها تقول الكثير. كأنها تريدني أن أكونه، حبيبها السابق، لكي أهجرها وتسترده. لا لن أفعل ذلك، لن أهجرها كي تستعيد لحظة سقوطها في رماد غيابه. يسهل القول إن فيها مازوشية. لا، لا. إنها تسلك طريقا أكثر وعورة. فهي تستعذب، أحيانا، رؤيتي عند باب شقتها لاهثا ككلب سائب في أنصاف الليالي، تستعذب قولي لها «أحبك» وصمتها النافي. أفكر كثيرا أن الحب بالنسبة لها ليس توافقا والتئاما وتداخلا، إنه النقيض. ليس الجنس أو الشراكة أو الجسد. إنه جذوة لا يتوجب إخمادها، جذوة تسهر على اتقادها بلوعة الفقدان والسعي الحثيث اليائس بلا أمل أو غاية. حتى هو نفسه، حبيبها السابق، لو عاد إليها الآن، ستعيده على أعقابه، لأن عودته إليها قد تبطل أي أمل باتقاد الرغبة، رغبتها، وتتركها ضائعة في بحر من الرماد حيث لا شاطئ ولا مرفأ. حين أقول لها: «إنني أحبك»، يحبطها قولي؛ أعرف الآن لماذا، لأنني أعرف سرها ولا تعرف سري أو سرها. حين أخبرتني كيف كانت تقضي أياما وليالي بحثا عن بصارات في الأبنية المعتمة الرطبة المداخل والممرات في واشنطن، وكم من الأموال أنفقت على قارئات الكف والسحرة في أزقة جورج تاون لكي تعرف طريقه، كانت خجلة ويلوح على محياها إحساس بالضيق أحيانا وهي تتحدث، مع ذلك كانت عيناها تشعان رغما عنها ببريق غريب، مثل مصابيح في كهف مظلم، كانت مثل محتضرة تومض بين ثنايا احتضارها لحظات حياة هي حياتها كلها. لسبب ما افترقا، حاولت استعادته من دون طائل. تألمت كثيرا وحين شفيت من الألم امحت الرغبة ولم يبق منها سوى أثر امحا هو الآخر مع الأيام. لم يعد ذكره يحرك ساكنا فيها، وعندما يحدث أن يلتقيا في مناسبات عامة الآن، لا يخفق قلبها مثل ورقة كما كان، ولا تأرق أو تقلق من دون سبب في غيابه، لكنها قد تشعر بالأسى لأنها لم تعد تشتاق إليه أو تتألم لأجله. إنها الأسى الذي أخشاه. الأسى الذي ينغرز في روحي حين أتخيل أن مرورها قربي لن يتسبب بنشوب حريق، وأن قلبي لن يخفق مثل حجر مقذوف من صدري حين تقبل عليّ، ولن تسقط أوراقي وأزهر وتسقط أوراقي ثانية حين تلمس يدي يدها. أشعر بالأسى حين أفكر أنني في يوم ما لن أحمرّ وأصفرّ مثل إشارات المرور حين يأتي ذكرها، وأن دمي سيواصل تدفقه بهدوء ولن تغص رئتي بحفنة هواء عند سماع صوتها، وإذا رأيتها صدفة في مكان ما، لن ترتعش يداي ولن يختض جسدي ويغور صوتي في أحشائي مثل تلميذ في أول يوم مدرسة كما أنا الآن: لا أعرف بأية لغة أتحدث. بأية لغة تتحدث كي أفهم. لا أفهم وأصمت ويجرني الصمت مثل حجر في أعماق الاكتئاب.