يتخذ الشاعر عبد السلام دخان في ديوانه «ضد الجاذبية» الصادر عن دار الكتاب العربي الإلكتروني بلبنان، من الكتابة مجالا لأطيافه المتمردة، فالشاعر عبد السلام دخان يكتب قصائده لتفريغ الكلمة والحرف، ليغوص في جنون إبداعي، وقصيدته الموسومة ب»لا يهوى إلا الخراب» أنموذجا لرغبة الشاعر في كتابة تتجه نحو رسم عوالمها الشعرية عبر صور مكثفة تروم تحقيق تواصل مع المتلقي عبر استعارات تبدو مألوفة بمعجمها، لكنها مخصوصة على مستوى إنتاج المعنى الشعري عبر الصورة العامة للديوان، وعبر الصور الجزئية لقصائده التي تعكس رؤية الشاعر لذاته ولهواجسها، وللمكان الذي يشكل مكونا أساسيا في ديوان ضد الجاذبية الذي يعد باكورة هذا المبدع الآتي إلى الشعر من موطن الأدب، ونقصد بذلك مدينة القصر الكبير التي ارتبط ذكرها بسيرة عدد من الشعراء والشواعر. وهذه القصيدة خير شاهد على هذا القول. وأول ما يثير انتباهنا في هذه القصيدة هو عنوانها «لايهوى إلا الخراب» والذي سنقوم بمقاربته تركيبيا ودلاليا. فقد جاء هذا العنوان عبارة عن جملة فعلية تتصدرها أداة نفي «لا» فعل «يهوى» وأداة استثناء «إلا» التي تشي أن الشاعر له مغزى من هذا الحب الذي قارنه بالخراب. ومن الناحية الدلالية يتكون من كلمتين أساسيتين هما «الهوى» الذي يحيل إلى الحب والعشق والهيام والغرام. وكلمة «الخراب» التي تحيل إلى الدمار والهلاك. ومن هنا نتساءل لماذا جمع الشاعر بين متناقضين: الهوى الذي يفترض الراحة والطمأنينة والتلاحم، والخراب الذي يعانق فيه الإنسان الحروب والوحشة وعدم الاستقرار. فما مدى نجاعة هذا العنوان في مقاربة هذه القصيدة؟ وعند سبر أغوار هذه القصيدة، نجد الشاعر يتحدث عن الحب والعشق الذي جمعه مع محبوبته ويردف بالحديث عن معاناته ومآسيه اتجاه محبوبته ثم ينتقل لوصف حالة الفراق التي لا يرغب فيها ولايحب أن يهيئ خطبة وداعه لها لأنه تقاسم معها الحب ومضى الشاعر في وصفها فوصفها بالضوء المتوهج ويختم في الأخير، أيعشقها ويتعلق بها ويأنس بها أم تذهب به الغربة وينقطع ما كان بينهما. أما على المستوى التركيبي: فقد اعتمد الشاعر في هذه القصيدة على مجموعة من الجمل الفعلية التي تصور لنا حالته المتحولة والمتقلبة حالة الغرام والهيام والتي تتجسد في قوله (تزينت هذا الصباح)، (نجيتك من حرقة الدمن)، (وهبتك نجوم صدري). كما استعمل أيضا جملا اسمية تقرر وتفصح عن الصورة الخفية التي يتواجد عليها الشاعر صورة الحرقة والوجد وذلك من قبيل (أنت الأبهى)، (أنت الأسمى)، (الضوء القادم) ومن خلال هذه الجمل نلاحظ هيمنة الجمل الفعلية لأنه في حالة انفعال وحرقة وكأنه بداخله نار مشتعلة ومتأججة يحاول أن يطفئها ويسكنها. كما وظف الشاعر أزمنة متنوعة منها الزمن الماضي في (تزينت، منحتك، وهبتك، رسمت، تركت...) والزمن المضارع في (يورق، يمضي، تحمليني). أما زمن الأمر فلا نكاد نجد له أثرا، اللهم في (قم، هيئ) والناظر لهذه الأزمنة يجدها متواشجة ومتداخلة فيما بينها، مغزاها وفحواها توصيل الخطاب.كما نلاحظ هيمنة الزمن الماضي الدال على الثبات والسكون والهدوء وتلازما مع حالة الشاعر مع محبوبته التي يأنس إليها والتي منحها نعومة الوجد ووهبها قلبه. وزمن المضارع، تقلبت فيه نفسية الشاعر وعانت ويلات الحب وتوجعاته لينقل لنا حالته من الثبات والسكون إلى الإنفعال النفسي العاطفي. أماعلى المستوى المعجمي فقد استعمل الشاعر مجموعة من الألفاظ الدالة على ذاته وتتجلى في التاء الدالة على ضمير المتكلم وكأن حضوره ضروري لنقل لواعج نفسه وعاطفته الجياشة (نجيتك، وهبتك، تركت، رسمت) وألفاظ تدل على الآخر (أنت الأسمى، ببريق عينيك) كما وظف ألفاظ دالة على الطبيعة تتجلى في (الصباح، الربيع، ورود، اليمام، الغمام، الندى...) هذه الحقول الدلالية أسهمت في تنوع المشهد الشعري وإضفاء جمالية ورونق على القصيدة. أما على المستوى الصوتي فنلاحظ أن القصيدة كسيت بإيقاع صوتي ينفتح فيه الشاعر على العالم. وهذا الصوت المتنوع والمنخفض أحيانا والمرتفع أحيانا أخرى ساهم في نقل إحساس الشاعر ومأساته وهو صوت يعكس الحياة الروحية التي ينعم بها الشاعر .ولا غرابة في القول أن القصيدة المحللة ذات أبعاد مختلفة في الدلالات ونحن ارتأينا محاولة الوصول إلى المعنى الذي اصطنعه الشاعر، وما لاحظناه أن الشاعر لم يفصح عن محبوبته فهل هي من البشر أم كناية عن الدنيا، أم هي أرض وطنه التي خربها المستعمر وترك عليها آ ثار الغزو فلا هواء فيها ولاضياء. أما في قصيدته «برج الأسد» فالشاعر يصور لنا تجربة شعرية تخالف المألوف تتمثل في استحضاره لفلسفة الحياة بعوالمها المختلفة المتناقضة، تحت مجهر الشعر وكلمة الدفء والشعور. يترجمها شعر يتولد من رحم الأشعار الممزوجة بنفحات الأحاسيس والإصغاء إلى خلجات القلب. فقد وظف الشاعر في قصيدته صورا شعرية عبر انزياحات كثيرة تخدم غايته وفكره في الحياة. ففي بداية القصيدة يطالعنا الشاعر بعبارة «برج الأسد» التي تكتنز بمعاني الشموخ والعلو وأنفة الشجاعة خاصة وأن هذا البرج يتجه نحو الأعالي ولا يرضى بالنظر إلى الأسفل ولعل هذا البرج هو كناية عن ذات الشاعر وتعبير عنه. هذا البرج العاجي طالته يدا الشوق لسماع أهازيج الحياة المتلونة في زحمة الدنيا المليئة بالأحداث والوقائع التي تعبر عنها الأشعار الموصوفة بالمشمسة، وهنا نقف وقفة مع هذا الوصف ولماذا وصفت بالمشمسة يقول الشاعر إنه يرى فيها روحا تسطع بالأمل المشرق بخيوط الشمس، ليعبر عن الذات الإنسانية بأفراحها وأتراحها، لتغزو هذه الأشعار المذكرات وتخترق صفحات الإنسانية المسطرة فيها، بدءا من الإصغاء إلى صوت الرشاشات في الحروب عليها والمقامرة حسابا على حياتها لتدمر الأرض ويبعثوا فيها فسادا، تميل السنابل على بعضها وتفقد الحياة رونقها وتذبل أزهارها ويضمحل لونها. ثم يجعل الشاعر من الأشعار محطة يقف عندها السجناء، وهنا تصغي الإنسانية لمن ظلموا وحشروا في زنزانة الغدر والظلم سلواهم فيها محاوراتهم وتنفيس المصيبة بأخرى، ثم ينتقل الشاعر ليصور لنا بعدا إنسانيا آخر يتجلى في زيف الحقائق وافتقادها، فإن فقدت الصحافية بين وكالات الأنباء فكيف بمن يتلقاها، هكذا يقف الشاعر يتابع هذه الحلقات المفقودة في الحياة ليشاهد استشهاد الشعراء في شعرهم لايقيد كلماتهم شيء، يطلقون سهام المعاني بعيدا عن القيد المكبل لحرياتهم ويرفضونه حتى الموت. ومن خلال هذه المعاني الدلالية التي تتخلل القصيدة، نجدها قد تميزت بلغة إيحائية وشعرية متميزة، كما تزخر هذه القصيدة بالرموز والاستعارات التي أضفت البعد الجمالي على القصيدة والتي تبرز رؤية الشاعر للحياة، وهذه الإنزياحات هي خروج عن المعنى المألوف والمباشر إلى معاني إيحائية بعيدة تستلزم من المتلقي إعمال الذهن وتتبع العبارة لاستخلاص مقصدية الشاعر ويتجلى ذلك في قوله: «لأمراء الحروب وهم يوزعون الرشاشات على سنابل الأرض»، حيث جمع بين ثنائيتين متناقضتين وهما تيمة الحرب والسلام ثم (سنابل الأرض) التي ترمز إلى الخصب، والخيرات وهذه الأوصاف إحالة إلى اغتصاب الخيرات وسلب الحقوق من أهل الأرض. بالإضافة إلى هذا نجد هناك انزياحات أخرى تتمثل في قول الشاعر «الشاعر مات غرقا في بحر بلا زحاف أو علل»، فالمتلقي عندما يسمع كلمة بحر يذهب خياله إلى الواقع العيني المحسوس، ولكن عند مقارنته الشاعر بلفظ «بلا زحاف أو علل» فإنه يفتح أمامنا أبوابا نسرح من خلالها بخيالنا بعيدا عن أضواء المعنى المألوف إلى ماوراء الكلمة. ثم لايفوتنا كذلك الإستعارات في القصيدة من بينها قول الشاعر «ستصغي للأشعار المشمسة» فالشاعر استعار لبرج الأسد لفظة «ستصغي» وهي استعارة مكنية حذف المستعار منه (الإنسان) وذكر بعض لوازمه (ستصغي) للمستعار له أي الإصغاء وهي صفة إنسانية. ثم نصادف استعارة أخرى لا تقل جمالا عن سابقتها وهي «حين يغازل الضباب الحفيف» فالشاعر استعار لفظ يغازل للمستعار له الضباب، والمعلوم أن المغازلة تكون من طرف الرجل للمرأة لا من الضباب لضوء الأعمدة. ومن خلال هذه الاستعارات قدم لنا الشاعر صورا شعرية انزياحية تخالف المتداول والمبتذل.