وافانا، مشكورا، الناقد والكاتب والصديق محمد أديب السلاوي بنص المداخلة التي ألقاها بمناسبة حفل توقيع الإصدار الجديد للباحث الدكتور عبد الرحمان بنزيدان «التشكيل المغربي، بلغة الذاكرة»، الذي أقيم بمدينة مكناس خلال شهر ماي الماضي.. وهي مقالة تقربنا من مضامين الكتاب بشكل سلس، وتعكس في ذات الوقت قراءة عاشقة تختزل ولع أديب السلاوي بالفنون التشكيلية ووفاءه لصداقاته مع عدد من الأسماء والأماكن ومن بينها المسرحي عبد الرحمان بنزيدان ومكناسة الزيتون... إليكم هذه الورقة الرائعة: المحرر بداية، علي أن أتوجه بالشكر الجزيل للذين نظموا هذا الحفل الثقافي المتميز، حيث أتاحوا لي الفرصة ثانية، بأن ألتقي بهذه النخبة من الأصدقاء والأحباب، في مقدمتهم الصديق المحتفى به وبإصداره الجديد، «التشكيل المغربي، بلغة الذاكرة» للدكتور عبد الرحمن ابن زيدان، الذي تجمعني به أكثر من علاقة، إذ اعتبرته دائما مرجعا موثوقا في الورش الثقافي المغربي، وبالأخص في الحقل الإبداعي، لا محيد لطلاب العلم من الرجوع إليه، والاعتماد على صدقية معينه. في إصداره الجديد «التشكيل المغربي بلغة الذاكرة»، يضعنا الدكتور عبد الرحمن بن زيدان، أمام قضية في منتهى الأهمية والخطورة، وهي علاقة الفنون التشكيلية بالتاريخ، بالهوية/ وبعلم الجمال من جهة، وعلاقة الباحث المؤرخ بالنقد التشكيلي من جهة ثانية... ففي هذا الكتاب المتميز، ينقب الباحث في الذوق الجمالي، وفي ذاكرة مدينة مكناس الإبداعية، ويفتح الباب على مصراعيه للتراث التشكيلي الحديث في علاقته بالمعمار والإنسان والبيئة، كما يفتح الباب أمام ترسانة من المصطلحات والمفاهيم النقدية في القاموس التشكيلي لتأطير الفضاءات الإبداعية للعاصمة الإسماعلية ولمبدعيها، ومن ثمة يتحول «التشكيل المغربي بلغة الذاكرة» إلى مرجعية متعددة المواصفات العلمية، تفرض نفسها على كل باحث في التاريخ كما في علم الجمال... والفلسفة. قدم هذا الكتاب بالكثير من التأني، قراءات نقدية لنخبة من الفنانين المغاربة: لطيفة التيجاني، حسين موهوب، على الشرقي، الحسين السخون، بنيونس عميروش، محمد مغليف، وفاء مزوار، سعيد قدر، زهرة عواج، ليدخل المؤلف بذلك في مغامرة البحث والاكتشاف، لا في ألوان وأساليب واتجاهات هذه النخبة من الفنانين فحسب، ولكن في العلاقة القائمة بين إبداعاتهم، وهويتهم الثقافية، أحيانا بطبيعة بيئتهم. من خلال هذه القراءة التي تجمع بين نخبة من فناني مدينة مكناس، وغيرهم من الفنانين المغاربة، يؤكد الباحث على أن التوجهات البصرية الجديدة، سواء بالنسبة للفنانين الذين أضاءتهم الكتابات النقدية من قبل كتاب ونقاد آخرين، أو الذين بقيت إبداعاتهم في الظل لسبب من الأسباب، تلتقي هذه التوجهات حتما، مع قيم الحداثة، ولكنها توجهات ظلت مشبعة بقلق السؤال: كيف لها أن تتجدر في الطموحات الثقافية؟ هل من خلال الإيقاعات الفكرية الغربية التي تقود الفنون التشكيلية نحو الاندماج في العولمة المتوحشة؟... أم من خلال التحولات التاريخية/ الحضارية/ الاجتماعية، التي تقود الحضارة العربية الإسلامية اليوم إلى قيم مغامرة..؟ القراءة التي يقدمها الدكتور ابن زيدان لهذه النخبة من الفنانين، تؤكد، بما لا يدع مجالا للشك، أن فهم مشكلات الفن التشكيلي المغربي، تختلف إن قليلا أو كثيرا عن فهمنا لمشكلات الفن المسرحي، الذي اشتغلنا عليها ردحا طويلا من الزمن. إن الأمر، لا يتعلق فقط بتمثل الأشياء في فن التصوير، أو بفهم قيم الإشارة في الألوان والخطوط والأشكال، بل أكثر من ذلك، الأمر يتعلق بربط كل هذه الأشياء بالتموجات الثقافية في عالم اليوم، وربطها بقيمنا التي تواجه الاستعصاء... ما يعطي هذه المسألة أهمية قصوى في الفنون التشكيلية المغربية/ العربية/ الإسلامية، حركة الوعي الفكري للغة البصرية في عالمنا اليوم، وهو ما عبر عنه الأستاذ ابن زيدان بالكثير من الدقة والعمق في الطروحات الأكاديمية، المعبر عنها في مقدمة هذا الكتاب. من هذه الزاوية، أجدني جد معجب بمبادرة الصديق العزيز، الدكتور ابن زيدان الذي ربط قراءاته البصرية بحمولتها الثقافية، ربط حساسيتها الجمالية بحاضرة مكناس، وتاريخها وحضارتها، وهو ما أدى بهذه القراءات إلى اكتشاف أساليب وأشكال قد تغير الكثير من المفاهيم الجمالية التي اعتاد عليها النقد التشكيلي في السابق. ولاشك أن غنى وتنوع النص التشكيلي لدى الأسماء التي أخرجها ابن زيدان إلى الضوء، واكتضاضها بالسمات الجمالية، سيدفع بها لتصبح فاعلا هاما على الساحة الثقافية عامة... والساحة التشكيلية على وجه الخصوص. لا بأس من التذكير هنا، أنه في سياق المتابعات النقدية المحدودة، التي واكبت الحركة التشكيلية المغربية، خلال الخمسين سنة الماضية، ظهرت أعمال تنظيرية لعدد من الكتاب والباحثين، حاول البعض منها الإجابة عن الأسئلة الفلسفية التي يثيرها الإبداع التشكيلي، وحاول بعضها الآخر البحث في العلاقة الجدلية القائمة بين اللغة البصرية... واللغات الأخرى، ولكن القليل القليل منها من توجه إلى البحث عن الهوية الثقافية لهذا الفن... وعلاقة هذه الهوية بالموروث الثقافي. هكذا يتضح أن الحركة التشكيلية في مدينة مكناس، والمتمثلة فيما رصده ابن زيدان من أسماء وأعمال وإنجازات، لا تقدم لقارئ هذا الكتاب، ما تجذر من إبداعات في قيم الحداثة فقط، ولكنها إضافة إلى ذلك، تقدم له بجلاء الخاصية الجمالية التي قامت عليها أركان هذه المدينة العتيقة والمتجذرة في تاريخنا الوطني. وبالنظر إلى الأسماء والأعمال والإنجازات الفنية التي قدمها لنا هذا المصنف، والبعض منها يعود إلى ما قبل الفترة الكولونيالية، والبعض الآخر ينتمي إلى ثقافات مغايرة، نجد أنفسنا أمام وضعية ثقافية متميزة، تدعو المؤلف بإلحاح إلى المزيد من البحث والتنقيب، لا لكونها تنتمي إلى مدينة مسكونة بالتجاذبات التاريخية، ولكن لأنها تلتقي على جدارية تكاثفت حولها شتى أصناف الصراعات والانكسارات، التي أعطت صيغا مغايرة للثقافة، كما للفنون في فترات عديدة من التاريخ، ومنها الفترة الراهنة، والتي قبلها. من هذه الزاوية، أجدني أدعو الصديق العزيز الدكتور عبد الرحمن ابن زيدان، لمواصلة بحثه في الورش التشكيلي بهذه المدينة الرائعة التي قدمت وما تزال تقدم صورة حية عن الحس الجمالي المغربي، فالأزقة والدروب والزوايا والمدارس والأسوار والقصور والدور، كالصنائع والحرف والمصوغات، بهذه المدينة الرائعة، جميعها تنتمي إلى هذا الورش المشع بالإبداعات الهندسية والجمالية، والذي يشكل مرجعية أكيدة لأجيال المبدعين الذين احتضنتهم هذه المدينة بصمت في الماضي، أو الذين أنجبتهم من رحمها في مغرب اليوم. مرة أخرى، هذه تحية مخلصة، لصديقي العزيز ولكافة الأصدقاء الذين أشرفوا على تنظيم هذا الحفل الثقافي المتميز.