جلالة الملك يدعو لتطوير الجامعات العربية والاستثمار الأمثل لإمكاناتها تمكين الجامعة من أداء دورها كفاعل أساسي في إعداد النخب القادرة على خدمة بلدها ومصدرا لإبداع الفكر المتنور وقوة اقتراحية بناءة في مرحلة تاريخية مطبوعة بشتى التحولات العميقة والمتسارعة ذلك هو الطموح الكبير الذي عبر عنه جلالة الملك محمد السادس في رسالة سامية إلى المشاركين في الدورة الخامسة والأربعين للمؤتمر العام لاتحاد الجامعات العربية التي انطلقت أول أمس الثلاثاء بمدينة فاس. وجاءت رسالة جلالة الملك لتبرز ضرورة «الانخراط الإيجابي» في دينامية المتغيرات العربية والتحولات العالمية، حيث دعا جلالته إلى تضافر جهود الجامعات العربية ودعم تطوير أدائها وتعزيز استقلالها والاستثمار الأمثل لإمكاناتها ووضع آليات للتنسيق والتكامل والتفاعل فيما بينها. وفيما يلي نص الرسالة الملكية السامية التي تلاها عبد الحق المريني مؤرخ المملكة: «الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه، حضرات السيدات والسادة، إنه لمن دواعي الاعتزاز أن يحتضن المغرب، الدورة الخامسة والأربعين للمؤتمر العام لاتحاد الجامعات العربية، الذي ينعقد تحت رعايتنا السامية، برحاب جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. ومما يضفي على مؤتمركم أهمية خاصة، كونه ينعقد بفاس، العاصمة الروحية والعلمية للمملكة، هذه المدينة العريقة التي عرفت تأسيس أقدم جامعة في العالم، وهي جامعة القرويين، التي ظلت منذ عشرة قرون خلت، مركز إشعاع فكري وثقافي، وملتقى للتفاعل والتعايش الحضاري، وجسرا للتواصل العلمي والمعرفي بين المشرق والمغرب. ونود التنويه بانتظام انعقاد هذا الملتقى الهام، باعتباره آلية للتشاور والنقاش، حول مختلف القضايا والإشكالات المرتبطة بالجامعات العربية، ولاسيما في هذه المرحلة التاريخية، التي يجتازها العالم العربي، والمطبوعة بشتى التحولات العميقة والمتسارعة. وإن اختياركم لموضوع «مستقبل الجامعات العربية في ظل المتغيرات في العالم العربي» إنما يعبر عن تزايد الوعي بضرورة أن تنهض الجامعات العربية بأدوار محورية، في سبيل تحقيق التنمية، والمساهمة في تكوين وتأهيل الشباب العربي، لرفع مختلف التحديات التي تواجه بلداننا، لما فيه صالح شعوب أمتنا الشقيقة. وكما لا يخفى عليكم فإن تقدم الأمم والشعوب يقاس اليوم بمدى نجاعة أنظمتها في مجال التعليم العالي والبحث العلمي وإشعاع جامعاتها ومؤسساتها ومراكزها العلمية. بيد أن وضعية الجامعات العربية ومكانتها في الترتيب الدولي للجامعات، من حيث البحث العلمي وتخريج الكفاءات العالية والاستحقاقات العلمية في ميادين الابتكار والتكنولوجيا، توجد، مع كامل الأسف، في مراتب متأخرة بفعل تداخل العديد من الأسباب والمعوقات الذاتية والموضوعية. واليوم، وقد أصبح العالم يتطلع إلى عولمة أكثر إنسانية وإنصافا وتعددية، فإن الجامعات العربية مدعوة إلى تكريس قيم ومبادئ الديمقراطية والحكامة الجيدة والمشاركة الإيجابية والعقلانية والفكر النقدي المتنور وحرية التعبير والاجتهاد وتشجيع البحث والابتكار والتنافسية وترسيخ هذه القيم المثلى والانفتاح على محيطها الاقتصادي والاجتماعي، وذلكم هو سبيلها القويم للانخراط الإيجابي في دينامية المتغيرات العربية والتحولات العالمية. ومن هذا المنظور، ما فتئنا نعمل عل جعل الجامعة المغربية في صلب نموذجنا الديمقراطي التنموي وذلك بحرصنا القوي على إصلاحها وتحديثها والرفع من جودتها لتكون فاعلا أساسيا في إعداد النخب القادرة على خدمة بلدها ومصدرا لإبداع الفكر المتنور وقوة اقتراحية بناءة للاستراتيجيات القويمة وللمساهمة في صنع التوجهات الكبرى للسياسات العمومية والاندماج في مجتمع المعرفة والتواصل في حفاظ على هويتنا الحضارية. ومهما تكن الجهود التي يبذلها كل قطر عربي في سبيل الارتقاء بجامعاته، فإن ذلك يظل رهينا بمدى التعاون الجامعي على المستوى الدولي بصفة عامة وبين الجامعات العربية بصفة خاصة. وفي هذا الصدد ندعو إلى تضافر جهود الجامعات العربية ودعم تطوير أدائها وتعزيز استقلالها وإلى الاستثمار الأمثل لإمكاناتها ووضع آليات للتنسيق والتكامل والتفاعل فيما بينها، ولا سيما من خلال الرفع من مستوى تبادل الأساتذة والطلبة، والخبرات والتجارب، وفتح آفاق أرحب للتعاون بين جميع مكوناتها، بما يؤهلها لرفع التحديات الراهنة والمستقبلية وتأهيل الشباب العربي، الرصيد الحقيقي لبلداننا الشقيقة. كما ندعوكم لمواصلة العمل على تحقيق أهداف اتحاد الجامعات العربية، وخاصة ما يتعلق منها بتشجيع إنشاء مراكز البحوث، ودعم البحوث العلمية المشتركة وتبادل نتائجها، والعناية بالبحوث التطبيقية، وربط موضوعاتها بخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتوثيق التعاون بين الجامعات العربية، وتنسيق جهودها فيما بينها، ومع الجامعات والمؤسسات الإقليمية والدولية ذات الصلة، ولا سيما فيما يساير مستجدات العصر، وتقنيات التعليم وأنماطه الحديثة. حضرات السيدات والسادة، إذا كان للجامعات دورها الاساسي في الميدان الأكاديمي، فإن هذا الدور لا يقل أهمية في ميدان البحث العلمي، الذي نعتبره خير ضمان لمستقبل الأجيال القادمة، فالعلم والبحث العلمي هما السبيل القويم لتمكين الإنسان العربي من القيام بدوره الريادي في تقدم وطنه وتنمية ثرواته، والإسهام بنصيبه المستحق في بناء الحضارة الإنسانية. وفي هذا السياق، ينبغي العمل على خلق أقطاب علمية عربية، وشبكات للبحث العلمي بين مختلف الجامعات العربية، على غرار مثيلاتها بالبلدان المتقدمة، وإلى الاهتمام بالتميز والابتكار والإبداع بصفة عامة، وتشجيع الموهوبين في مختلف التخصصات والحقول المعرفية، وفتح باب المستقبل أمامهم. ونهوض الجامعات العربية بدورها على أكمل وجه، رهين بتعاونها على تقليص الفجوة بين بلدان العالم العربي والدول المتقدمة في ميدان التكنولوجيات الحديثة، ومواكبة المستجدات في هذا المجال. وهو ما يقتضي دعم الجامعات العربية بالأطر والكفاءات العليا، وتمكينها من العتاد العلمي والأكاديمي اللازم، وبالموارد المالية الضرورية. وإذا كانت مختلف الدول العربية تقوم بمجهودات كبيرة، من أجل تمويل جامعاتها، فإن هذا التمويل ينبغي أن يتبلور في إطار تعاقدات وشراكات مضبوطة، وفي نطاق حكامة جيدة، لضمان الالتزام بالأهداف المسطرة. وبموازاة ذلك، يجب على الجامعات العربية أن تعمل على تنمية قدراتها التمويلية الذاتية، عن طريق السعي إلى الحصول على موارد وإمكانات خاصة بها، ولاسيما من خلال الخدمات التي توفرها للقطاعين الخاص والعام. كما يتعين تضافر الجهود والتنسيق بين التعليم العالي العام والتعليم العالي الخاص، من أجل بلوغ الجودة المنشودة في البرامج وفي التكوين، وبالتالي نهوض الجامعة بدورها في تحقيق أهداف التنمية، في إطار من المساواة وتكافؤ الفرص والاستحقاق، والتضامن والعدالة الاجتماعية، وفي التزام بالمقاييس والمعايير المتعارف عليها دوليا. حضرات السيدات والسادة، إننا لواثقون بأن النقاش العلمي والأكاديمي البناء، والآراء والمقترحات الوجيهة، التي ستصدر عن هذا المؤتمر الهام، لما هو مشهود للمشاركين فيه، من كفاءة وغيرة على الجامعات العربية، ستساهم في إيجاد أجوبة خلاقة لمختلف القضايا والإشكالات المرتبطة بها، والارتقاء بمستواها في مجالات التعليم العالي، والتكوين والبحث العلمي، لتكون منارة للعلم والمعرفة، ودعامة لتوطيد البناء الديمقراطي وقاطرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتوفير الموارد البشرية المؤهلة، والانخراط في المجتمع العالمي للمعرفة والاقتصاد الجديد. وإذ نرحب بكم ضيوفا كراما في بلدكم الثاني المغرب، متمنين لكم طيب المقام بين ظهرانينا، فإننا ندعو الله تعالى أن يكلل أعمالكم بكامل التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته».