تتعدد القراءات ويبقى المعنى في بطن صاحبه: سأبدأ هذه الدراسة من حيث انتهى الراوي ...أما أنا فقد غادرت مهنة الصحافة، تخلت عني جريدة كئيبة..... وذلك حين فشلت في أن أصطف خلف مدير الجريدة ص333 ففي هذا التصريح الواضح مؤشر لما ستعرفه أحداث الرواية من أشكال وأنواع الفشل، فشل الراوي في علاقته بليديا وفشل محمد الطنجاوي في علاقته بجيرترود، وفشل الراوي في ربط حبل السرد الروائي وتمييزه عن السيرة الذاتية، وفشله في الصحافة، وفشله في السرد الروائي وفشله في علاقته بالقراء. وقد برر الراوي أسباب هذا الفشل بقوله ذعرت من أن أتحول فجأة إلى عبد فيصبح قلمي قلما للكراء، لقد كان شعري دائما دليل براءة فكيف يصبح في لحظة طارئة شبيها بسلاح جريمة - ص24 فعند تصفحنا لرواية جيرترود للأديب حسن نجمي نشعر منذ الوهلة الأولى ومن خلال عتبة الغلاف أنها رواية تجمع بين رؤيتين رؤية تعيش الحاضر وأخرى تعيش زمن الماضي، وذلك من خلال طبيعة الألوان ومن خلال بورتريه جيرترود، حيث إن أعلى الغلاف جاء باللون الأحمر والكتابة بالأبيض والأصفر، أما البورتريه فقد جاء بالأبيض والأسود مع شروخات على مستوى حاشية اللوحة للدلالة على قدم اللوحة وكأنها تحكي ماضي البطل محمد الطنجاوي. فالسارد يعيش الحاضر والبطل يعيش زمن الماضي، غير أننا عندما نتعمق قليلا في الرواية نجد أن الراوي عندما يسرد أحداث الرواية فإنه يسردها في زمن ولى هو زمن الوقائع، وفي هذا الزمن كان السارد يلتقط جزئيات الرواية من الواقع الواقعي إلى واقع من نوع آخر هو عالم المتخيل، وعندما اختمرت أحداث الرواية نقلها الكاتب أدبا في زمن جديد هو زمن الرواية أو زمن الكتابة الروائية. وكل من الراوي ومحمد الطنجاوي يسيران في خطين متوازيين كلاهما يعيش نفس التجربة مع اختلاف في الزمن،زمن الراوي الذي يتوارى وراء زمن البطل، فتصبح زاوية الرؤية واحدة تتغلغل في عمق الشخصيات المؤثثة لفضاء الرواية وإن كانت الرواية تعرف شكلا واحدا في السرد هو السرد المعتمد على الوصف مع تتبع تفاصيل الأحداث بدقة متناهية وكأن الراوي يصف الأمكنة للقارئ ليجعله في عمق الرواية ومتفاعلا مع تفاصيلها. يمكن أن نقول بأن هذا المنجز الروائي (جيرترود) يدخل ضمن ما يسمى ب(صدى السيرة الذاتية) التي تجمع بين الترجمة الذاتية للراوي والترجمة الغيرية للبطل/محمد وإن كان في النهاية الراوي والبطل شخص واحد، فالراوي يعبر عن نفسه من خلال استخدامه لضمير المتكلم، وكذلك اعتماده تقنية الاسترجاع والتذكر، وتشظي الأحداث بين الأزمنة الماضية والحاضرة، ومتابعة الشخصيات عن قرب بالتدخل في سير أحداث البطل وتوجيهه الوجهة التي يريد مستخدما آلية الرؤية من الخلف، حيث يكون الراوي حرا في تسيير حياة البطل بما في ذلك رصد علاقاته الحميمية داخل غرفة النوم. فالراوي كان في قلب البطل وفي ذاكرته يعرف نواياه وخباياه، فعندما يتحدث عن محمد الطنجاوي يخترق ذهنه ويعرف نواياه وما كان يخفيه على جيرترود نفسها، لكن عندما كان يتحدث عن جيرترود كان يتحدث عنها انطلاقا مما يحكي عنها محمد وليس من خلال ما تحكي جيرترود عن نفسها، وإن كان الراوي يملك كل الأوراق التي تترجم حياة جيرترود، لكن تبقى حياتها محفوفة بالسرية والكتمان إلا في بعض العموميات التي يرويها عنها أصدقاؤها أو يرويها عنها محمد نفسه. فما روته كان يدخل في إطار التعميم وليس في إطار التخصيص ولهذا السبب لم تنجح الرواية كسيرة غيرية، لأن السيرة الغيرية والسيرة الذاتية تخص العظماء الذين حققوا إنجازات على مستوى التاريخ. ولهذا السبب فإن الراوي يحكي صدى سيرة ذاتية يترجم فيها حياته وحياة محمد الطنجاوي الذي لم تتحدث عنه جيرترود كثيرا، وإنما ذكرته بشكل عابر لأنه كان شخصا ثانويا بالنسبة لها، كان يؤدي وظيفة معينة وهي إشباع غريزة جيرترود الجنسية وكأنها تريد تجريب الرجل الشرقي -ربما لأنها كانت تبحث عن لذة شرقية، بمعنى كانت تريد أن تجرب الغامض أو المجهول- ص108، بعدما شبعت من الرجل الغربي، الذي كان حاضرا في حياتها بشكل ضمني من خلال شخصية بيكاسو الذي ظل ملازما لها يعيد رسم بورتريها لعدة مرات، وكذلك الشاعر أبولينير المعروف بنزعته التحررية و الذي كانت معجبة بشكل كبير بأشعاره. وكانت علاقتها بهذين الشخصين البارزين في حياتها تثير غيرة محمد الطنجاوي الذي كان يشعر بغيرة الرجل الشرقي على من يحب وباعتزازه بفحولته. إن الراوي ومحمد الطنجاوي وجهان لعملة واحدة،إن لم نقل إن الراوي هو محمد الطنجاوي نفسه، إنهما يؤديان نفس الوظيفة وهي ممارسة الجنس مع الأمريكيتين الراوي مع ليديا ومحمد الطنجاوي مع جيترود، فالراوي يصف تفاصيل بيت ليديا واللوحات المعلقة على جدران بيتها ويصف تفاصيل حياتها، غير أن الراوي كان خجولا في ذكر تفاصيل حياته -ولا حاجة لأقول بالكلمات ما حدث بعد ذلك- ص69، عكس محمد الطنجاوي الذي كان أكثر جرأة من الراوي، فمحمد كان يتحدث عن علاقته الحميمية الساخنة مع جيرترود داخل غرفة النوم. فالراوي استغل موت محمد الطنجاوي لكتابة سيرة غيرية،هي في الحقيقة سيرة ذاتية أو صدى سيرة كما سبق الذكر، لأن السيرة الذاتية يكتبها العظماء الذين تركوا بصمة في العالم أما الراوي أو محمد الطنجاوي ما هما إلا رقمان ضائعان من الأرقام الضائعة في هذا العالم المليء بأمثالهما. ففي موت محمد الطنجاوي حياة للراوي الذي -يجرب أن يفكر ولو من خارج نفسه وأن يكتب ولو بغير صوته- ص111 فالراوي يكتب صدى سيرة ذاتية من خلال الأوراق التي تركها محمد الطنجاوي بيد الراوي، صدى سيرة ذاتية يتقاطع فيها الذاتي بالغيري وها أنا أكتب الكتاب الآن له... ولنفسي... سأكون كاذبا إن لم أقل إنني أكتبه للآخرين أيضا -ص309 وفي السيرتين رصد لكل أنواع الفشل والتدمر والرفض لواقع لم يعد مرضيا لهما يحاولان نسيانه، لأنه واقع يتنافى مع ما يحملانه من قيم اجتماعية وأخلاقية ظهرت فجأة عندما صدما بحقيقة ما يفعلان،فمحمد الطنجاوي في لحظة من لحظات حياته بدأ يشعر بالندم لأنه أحس بأنه أداة لإشباع رغبة جيرترود الجنسية،فحاول محمد التخلص من كل ما يربطه بها، حاول اتخاذ الماء وسيلة لتطهير الجسد من عهر العلاقة الوسخة التي تجمعه بها أراك تبالغ في غسل وجهك كأنك تريد أن تمحوه،ويداك تفركهما كثيرا قد لايبقى منهما شيء، ولكن الماء لا يغسل كل شئ -ص118 فالراوي حاول مسح كل ما علق في الذاكرة من ذكريات لا يحبها، وحاول الاكتفاء بموهبة الشعر التي تعوضه عن كل شئ وأنه لم يعد يثق في الأخرين لعدم الوفاء أنا أيضا لم أعد أثق في وفاء الكلاب- ص332 وفي الأخير يمكننا القول بأن الراوي حاول أن يمازج بين السيرة الذاتية وبين السرد الروائي، مستندا في ذلك على اللغة الشعرية المنتشرة في جسم الرواية، ولكن هذا المنجز الأدبي يقترب إلى السيرة الذاتية منه إلى السرد الروائي، لأنه ينقل الواقع الشخصي للراوي ولمحمد الطنجاوي، ولم ينجح في نقل الواقع الذي تشترك فيه فئات عريضة من الشعب.