تتركز قراءتي حول الرؤية السردية والأبعاد الدلالية في رواية الكاتب المغربي مصطفى لغتيري دون أن أقف عند رواية «أحلام النوارس» باعتبارها عملا مستقلا قائما بذاته، «عائشة القديسة» رواية تحتفي بالحكاية الشعبية في قالب سردي مشوق بلغة فصيحة ومتواليات سردية متنوعة تتداخل فيها زوايا الرؤية والحكي، مرة من داخل النص بلسان إحدى الشخصيات ومرة بسيطرة الكاتب على فعل الحكي. إذا كانت الرؤية في الخطاب الروائي تقوم على عنصرين أساسين هما الراوي والمروي له، فهذا يفرض على الدارس للمتن الروائي كشف العلاقة التي تجمع بين هذين الطرفين انطلاقا من مضامين الرواية وأحداثها. إن رواية «عائشة القديسة» تطرح موضوعة اجتماعية ذات بعد نفسي ميتافيزيقي فعائشة القديسة سكنت العقول قبل أن تسكن القلوب، فهي شدت إليها شريحة مهمة من المجتمع المغربي في فترة الاستعمار، وكما جاء في المتن فعائشة مناضلة ساهمت في تحرير الوطن بتوظيف جمالها الباهر وذكائها الثاقب فكانت تغوي الجنود البرتغاليين وتقتلهم بمجرد ما تأخذهم إلى الأمكنة المعزولة عن تواجد عيون المستعمر المستبد أو عيون المتلصصين. يندرج هذا العمل الروائي في أطار خلق زوبعة ذهنية لدى المتلقي حتى يسائل نفسه ويموقعها من خلال تماهيه مع الشخصيات، البعض سيكون مع الخرافة والبعض الآخر مع الإيمان بوجود عائشة القديسة كشخصية حقيقية، كل حسب مستواه الفكري والثقافي والإيماني أيضا. إن الكاتب مصطفى لغتيري اعتمد تقديما بانوراميا لعمله الروائي، إنه ملم بكل الجزئيات والتفاصيل، قدم موضوعه معتمدا طابعا تصويريا لفضاءات الأحداث ونفسية الشخوص وظروف نمو الأحداث، يقول في الصفحة 7: «حول منضدة، تقبع بالقرب من البوابة الكبرى للمقهى، تحلقت ثلة من الأصدقاء، في جلسة مسائية، دأبوا على عقدها كواجب يومي، فرضته ظروف عملهم بهذه القرية القابعة على مشارف البحر». وانطلاقا من هذا المقطع يمكن الإشارة أيضا إلى هيمنة المعرفة الأحادية على هذا العمل الإبداعي ويتمظهر ذلك من خلال التركيز على شخصية «سعد» باعتبارها شخصية مركزية، حيث اعتبرت هذه الشخصية المرآة التي يرى من خلالها القارئ التفاصيل الدقيقة لعالم عائشة القديسة. عمل الكاتب مصطفى لغتيري على تعريف متلقي عمله بشخوصه فأشار إلى ميولاتهم واهتماماتهم إما بطريقة مباشرة أو ضمنية حيث اعتمد عنصر الحوار لكشف دواخلهم ومستواهم الفكري والثقافي بتقنية سارد يعي لعية السرد ويعرف كيف يحرك دماه على مسرح الأحداث، الشخصيات صنفت نفسها بنفسها عندما كانت تتحاور فيما بينها، ولا بأس من الوقوف عند هذا المقطع الذي يتضمن أيضا إشارة إلى موضوعة الرواية والتي استأثرت باهتمام الشخوص.» إن رواية «عائشة القديسة» عمل يقوم على صراع أبدي بين الحقيقة والأسطورة، الواقع والخيال، العقل واللاعقل المحسوس والملموس، العجيب الغريب والمألوف العادي. إن الكاتب مصطفى لغتيري وهو يضع هندسة لخطابه السردي فضل أن يقدم في البداية شخوصه رغبة منه في في تقريب المتلقي من سيرورة الأحداث وليدرك هذا الأخير الدلالات الصادرة عنها أثناء التلفظ، وهذا ما تحقق حواريا بين الجمركي وموظف البلدية والممرض، ثم المعلم «سعد». ولحظة هذا الحوار أيضا تولد الحدث المحرك المؤشر على خرافة أو حقيقة عائشة، حيث نجد «سعد» المعلم تكلف بتقديم معلومات تاريخية عن أصل الحكاية باعتباره مثقفا ومتعلما، وانطلاقا من السياق الذي دار فيه هذا الحوار يظهر الصراع الفكري بين الشخصيات لأن هناك من اقتنع بكلام «سعد» والبعض الآخر امتعض من مضمون كلامه. يمكن القول إن «سعد» لم يكن يخاطب أصدقاءه فقط، بل كان الكاتب يمرر على لسانه للمتلقي معلومات قد تكون غائبة عنه حول قصة عائشة وأصل وجودها، تعتبر عائشة جزء من التراث المغربي ومن الحكاية الشعبية خصوصا، كانت حقيقة في وقت من الأوقات وأصبحت خرافة لاحقا يتداولها الناس، وهي ذات بعد غرائبي غيبي، والكاتب وظفها في روايته بحرفية معتمدا لعبة سردية متقنة، وأنت تقرأ الرواية تتلمس الانسجام بين فصولها فكان الانتقال سلسا من حدث إلى حدث ومن فضاء إلى فضاء وهذا ما يجعل القارئ يتتبع خيوط الأحداث دون ملل أو ضجر. إذا عدنا إلى الفصول الستة للرواية، نجد الكاتب مصطفى لغتيري يعتمد تقنية تبادل الأدوار مع شخوصه أثناء الحكي، فإذا كان الفصلان الأول والثاني حكرا على السارد لتقديم شخوصه وموضعة زمن الأحداث والفضاء المكاني لتبئير موضوعة خطابه السردي، ففي الفصل الثالث والرابع أعطى الفرصة لشخوصه بداية بشخصية «سعد»، هذا الأخير الذي نقلنا كمتلقين إلى العالم العجائبي، العالم الذي تعيش فيه عائشة القديسة، والفصل الرابع عرف ظهور شخصية «المعطي» الذي اكتشف المعلم «سعد» مصابا وبلغ رجال الدرك، ومرة أخرى يعود «سعد» إلى واجهة الأحداث في الفصل الخامس ودائما في عالم عائشة القديسة يتذوق مرارة الألم واليأس وفي الفصل الأخير يعود الكاتب إلى مهمته الرئيسية فيتحكم في الحكي، يسير شخصياته ويعرف حدود كل واحدة منها ويضبط عقارب الساعة على استتارتها وظهورها، وهذا التنوع جعل المتلقي قريبا من أحداث الرواية ومتفاعلا مع تفاصيلها ومتعاطفا مع شخوصها وفي لحظات أخرى متماهيا معها. إن الكاتب مصطفى لغتيري اعتمد في عمله على رؤية سردية واضحة تحكمت فيها ثلاثة محطات رئيسية: بداية، وسط، نهاية. البداية خصصها الكاتب لتقديم الموضوع وعناصر الحكي: الشخصيات، الزمان والمكان واندرج كل هذا في الفصلين الأول والثاني. الوسط شكل بؤرة الرواية، حيث تعقدت الأحداث وانتقل «سعد» إلى عالم عائشة القديسة وعاش أحداثا عجيبة وغريبة كانت بالنسبة له أوهاما وخرافة فإذا به يعيش داخل عالمها أحداثا تراجيدية. النهاية تميزت بالضبابية، رغم إشارة الكاتب إلى حالة سعد الصحية ،وهذا كان بغرض إعطاء فرصة للقارئ حتى يؤول ويتساءل هل فعلا «سعد» خرج من عالم عائشة أم عكس ذلك، وكان الفصل السادس والأخير هو مسرح هذه النهاية. من ناحية أخرى يمكن الوقوف أيضا عند التعالق اللافت الذي تميزت به رواية «عائشة القديسة» بين الفعل «الحدث» ورد الفعل «القول» فالحدث ارتبط بالمادة الحكائية للسارد )الكاتب( والقول تمظهر من خلال التفاعل والصراع الذي حصل بين الشخصيات حول حقيقة عائشة وكان هذا في الفصول الأولى للرواية، ولاحقا برز ذلك بدخول «سعد» إلى عالم عائشة، هذا العالم العجائبي الذي استأثر فيه «سعد» كشخصية رئيسية بفعل الحكي الذي جاء ممسرحا باعتماد الحوار. «سعد» عاش تجربة لم يكن يؤمن بوجودها أصلا، نجده يصطدم بوقائع غريبة زعزعت وعيه الفكري وضربت عرض الحائط بمستواه العلمي والثقافي، فالفضاء موحش والشخصيات خرافية خيالية، كل هذا أصبح حقيقة يتلمسها ويتذوق علقمها فجاء وصفه دقيقا ممزوجا بالألم والأسى وهذا ما رفع من درجة التشويق وشد المتلقي. وانطلاقا من هذه النقطة يمكن القول إن الكاتب مصطفى لغتيري توسل بعنصر الوصف لينقل للقارئ دقائق عالم عائشة القديسة فجاء وصفه سرياليا يحتفي بالشخوص الخيالية والفضاء اللااعتيادي. تبقى هذه الوقفة مجرد ملامسة لعنصر من عناصر الخطاب الروائي لهذا العمل الإبداعي الذي اكتشفت من خلاله روائيا ومبدعا يؤمن بالمبادئ الإنسانية، ويعتبر قلمه وسيلة لنقد الواقع وتعريته بغية إصلاحه كما أن الكاتب يستفز القارئ ليتخذ موقفا من فحوى خطابه السردي، ومن سلوكاته وسلوكات غيره في مجتمع ينخره الجهل والأمية، ويبقى الهدف النهائي العمل على دفن الخرافة وإعمال الفكر وتصحيح الرِؤى حتى يساهم الإبداع بكل أجناسه في الرقي بفكر الإنسان العربي عموما والمغربي خصوصا.