في هذه الحلقة الثانية نواصل تسليط الضوء على موضوع قرينة البراءة من خلال بحث للأستاذ حسن بويباون، منشور في موقع الكتروني من إعداد محمد توفيق التريدي. واعتبر البحث أن قرينة البراءة تطرح عبر جميع المراحل التي تمر منها الدعوى حتى تصبح جاهزة للنطق بالحكم فيها. تناولت الحلقة الأولى قرينة البراءة مفهوما وتاريخا، وقرينة البراءة من خلال وضع المتهم أمام الضابطة القضائية والنيابة العامة. ويذكر، إن أوضح البحث أن فقهاء القانون أجمعوا أن التمتع بقرينة البراءة هو حق، يدخل ضمن أحد أهم ضمانات الحرية الشخصية للمتهم، ومن تم إن كل مشتبه فيه أو متهم بجريمة مهما بلغت جسامتها، يجب معاملته بوصفه بريئا حتى تثبت إدانته بحكم قضائي. في هذه الحلقة، فكيف يتعامل قضاة التحقيق مع المتهم الخاضع لإجراءاتهم؟ قضاء التحقيق وقرينة البراءة: تعتبر مهمة قاضي التحقيق خطيرة لما يمكنه ان يتخذه من أوامر و قرارات من شانها المس بحريات الأفراد والزج بهم في السجن وهي تعتبر شاقة لما تتطلبه من إجراءات دقيقة للوصول إلى الحقيقة، وأمام هذين الأمرين بات واجبا على قاضي التحقيق التروي واخذ الحيطة عند اتخاذه للأوامر القضائية حتى لا تمس بالحريات وحقوق الدفاع ويستعمل الأوامر في غير محلها تطبيقا لمبدأ «كل متهم بريء الى أن تثبت إدانته» هذا وأن أهم ما استجد في هدا الميدان، يقول البحث، هو أوامر قاضي التحقيق المتعلقة بانتهاء التحقيق كالأمر بعدم الاختصاص الذي يماثل الأمر بعدم المتابعة في القانون القديم في الحالة التي تكون فيها الوقائع المنسوبة للمتهم رغم ثبوتها لا يمكن المتابعة بها لأنها ذات طابع أو صبغة مدنية مثلا أو فاقدة لأحد الأركان أو حدث سبب من أسباب سقوط الدعوى العمومية بشأنها، ومع بدء العمل بثنائية التحقيق فقد أصبح قاضي التحقيق لدى المحكمة الابتدائية له صلاحية التصريح بعدم الاختصاص. ومن أهم الضمانات كذلك التي كرسها قانون المسطرة الجنائية بطلان إجراءات التحقيق، وذلك ضمانا لتطبيق المسطرة وعدم المساس بحقوق الدفاع... كما أن قانون المسطرة الجنائية، يضيف البحث، لم يجز متابعة المتهم من اجل نفس الأفعال إلا اذا ظهرت بعد صدور الأمر أدلة جديدة وهو ما اعتبر بحق ضمانة من ضمانات المحاكمة العادلة. ومن جهة أخرى فان المشرع الجنائي ونظرا لما تمثله مرحلة التحقيق في أطوار المحاكمة فانه اخضع عمل قاضي التحقيق للمراقبة القضائية وهي المراقبة التي كانت موكولة لغرفة الاتهام بمحكمة الاستئناف في ظل قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959، وهذا المبدأ كرسته مدونة المسطرة الجديدة التي أسندت مهمة مراقبة التحقيق الإعدادي قضاء وتأطيرا إلى الغرفة الجنحية باعتبارها أكثر ضمانة من غرفة الاتهام. ...وإذا كانت شروط المحاكمة العادلة وصيانة براءة الإنسان تستلزم ضمان الحق في الدفاع، فان المقتضيات القانونية التي حددها المشرع وخص بها المحامي في علاقة مع المسطرة الجنائية أمام قاضي التحقيق وردت في الفصول 134 إلى 140 ق.م.ج. بالإضافة إلى الفصول الأخرى المتفرقة كالفصل 179 في شان تقديم طلب الإفراج المؤقت أمام قاضي التحقيق والفصل 470 المتعلق بالتحقيق مع الأحداث. غير أن التمعن في ما جاء به الفصل 139 يؤكد على أن مؤازرة المتهم بواسطة محام أمام قاضي التحقيق غير إجبارية وغير إلزامية مادام أن هذه المؤازرة تكون بناء على اختيار أو بناء على طلب التعيين أو في حالة انتفاء الاختيار أو طلب التعيين وفي حالة التنازل عن مؤازرة الدفاع الذي يجري الاستنطاق الأولي حول الهوية وكذا الاستنطاق التفصيلي والمواجهة في غيبة المحامي. وتستثنى مما ذكر الجرائم التي يصل الحد الأقصى فيها للعقوبة إلى خمس سنوات فأكثر. وسجل البحث بشكل سلبي ما يمس بحقوق المتهم خلال هذه المرحلة، وهو ما يتمثل في شكلية حضور المحامي أثناء التحقيق دون أن تتوفر لاتصاله بموكله شروط ضرورية وذات فعالية في تحقيق شروط محاكمة عادلة، والدفاع عن براءة موكله، حيث لا يمكن لمحام المتهم والطرف المدني أن يتناول الكلمة إلا لتوجيه الأسئلة أثناء المواجهة والاستنطاق أو الاستماع للطرف المدني. قضاء الحكم وقرينة البراءة: انتقد البحث المنطق الذي يتعامل به بعض رجال القضاء فيما يخص التعامل مع الظنين الذي قد يمثل أمام المحكمة على أساس ان الشخص متهم وعليه أن يثبت براءته أمام استحالة إثبات ما يخالف محاضر الضابطة القضائية. وذكر في هذا الصدد بالمحاكمات التي تلت أحداث 16 ماي 2003 الإرهابية، موضحا بان كافة المحاضر التي أنجزت في حق المشتبه فيهم قد تم اعتماد ما ضمن فيها، وهو ما دفع بالعديد من الجمعيات الحقوقية إلى التنديد بذلك حتى لا تستغل الظرفية للإجهاز على مكتسبات المحاكمة العادلة. وأضاف صاحب البحث أن الاتجاه السائد بالخصوص لدى المحاكم الابتدائية هو تعليل أحكامها كلما أرادت إصدار حكم بالإدانة اعتمادا على التصريحات الواردة بالمحاضر، وبكون هذه الأخيرة يوثق بمضمونها إلى أن يثبت العكس، الشيء الذي لا يتماشى والمقتضيات القانونية المتعلقة بالقوة الثبوتية لعمل الضابطة القضائية، أي إذا فقد المحضر قوته فلا يمكن الاعتماد عليه في الإثبات، ويبقى اثباث الجريمة بأية وسيلة من وسائل الاثبات الأخرى بما في ذلك الاقتناع الصحيح للقاضي وإذا لم تتوفر هذه الوسائل ولو لم تقتنع المحكمة بثبوت الجريمة يتعين التصريح ببراءة المتهم، وعلى القاضي إذا اثبت ما يخالف المحضر عليه أن يعلل الحكم الذي سيصدره. لذا، يرى البحث، أن أكبر بعد لقرينة البراءة يبقى هو بعدها المتعلق بإثبات الجريمة، حيث يعتبر كل متهم بريئا إلى أن تتم إدانته ولا تأتي الإدانة إلا عن طريق تقديم وسائل إثبات مقنعة تتم مناقشتها علنيا وشفهيا من طرف المحكمة، لذا فإن هذا البعد من قرينة البراءة ما يزال هو المميز لها إذ أن العبرة بالخواتم وأحسن الأحوال هي التي يتم فيها الاعتراف للمتهم ببراءته في نهاية المحاكمة. هيئة الدفاع وقرينة البراءة: يعرف المشرع المغربي المحاماة بأنها مهنة حرة ومستقلة تساعد القضاء في تحقيق العدالة والمحامون بهذا الاعتبار جزء من أسرة القضاء. بعد هذا التعريف أكد البحث على ما يلي: «أكد المشرع، كما أكدت التجربة الميدانية على ان المحاماة رسالة تلعب دورا أساسيا في حماية وفي الدفاع عن حقوق الإنسان في مواجهة الطغيان وفي الجهر بالحق و العمل الدائب من اجل سيادة القانون والاستقرار داخل المجتمعات، ولقد كان دور المحامي المغربي بارزا خلال مختلف المحطات النضالية للمغرب الحديث في الدفاع عن المقهورين ومناصرة ضحايا حقوق الإنسان والحريات الأساسية ومواجهة الظلم والمساهمة الفعالة في تطوير التشريع. غير أن تأدية هذه الرسالة الانسانية لا يمكنها أن تؤدي على أحسن وجه، إلا إذا كان المحامي ذلك المدافع عن الحقوق والحريات بدون هوادة ودون أن ينتظر جزاءا ولا شكورا، وأن يكون أيضا ذلك الساهر على تطبيق القانون وسيادته بجرأة وشجاعة تدفعه إلى الجهر بالحق ومواجهة الظلم والدفاع عن براءة الإنسان إلى أن تتبث إدانته بمقتضى محاكمة عادلة امن المحامي بعدالتها بعدما واكب جميع أطوارها وتأكد له ذلك. ...وفي الضفة الأخرى من هيئة الدفاع نجد محاميا لا يهمه إلا مقدار ما يكسبه منها، ولا يهمه أن يسود العدل أو يترسخ الظلم والفساد، ويفضل التفسخ والانحلال ويندمج في التلاعب بحقوق المواطنين أو في إهمالها، ويؤمن بان الغاية تبرر الوسيلة، فلا يدافع عن براءة موكله بقوة القانون بل بطغيان الفساد.إلا أن الزمرة التي ذهبت في هذا الاتجاه تبقى قليلة، ولا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تنال من عظمة الرسالة النبيلة لمهنة المحاماة والتي تجعل من المحامي ذلك المدافع عن قيم العدل والمدافع الجريء عن قرينة البراءة». وخلص البحث إلى أن العمل في هذا الميدان لا زال يحتاج إلى المزيد من الجرأة والبناء القانونيين: فبالنسبة للمتهمين ينبغي ان يحاطوا بضمانات كاملة تزكي براءتهم إلى حين ثبوت إدانتهم في محاكمة عادلة، وذلك عن طريق فتح المجال لمحاميهم لمؤازرتهم خلال مرحلة البحث التمهيدي، التي تشهد خروقات خطيرة تمس بحقوقهم وحرياتهم، مع الاستعداد المسؤول لرجال الدفاع للقيام بواجبهم المهني في هذا الإطار.