يراودُني حلم بأني لست موجودة، أستيقظ في منتصف الليل فزعة خائفة، أُضيء مصباح غرفتي وأتحسس أطراف يديّٕ وقدمي، أسارع بالوقوف أمام المرآة، أحدّق بملامح وجهي، نعم هذي عيناي وفمي، هذا شعري، حواسي جميعها موجودة، لكنني رغم هذا لازلت خائفة، مرّ وقت طويل والحلم لازال يطاردني، يوقظني رغم شعوري بأنني طيلة الوقت مستيقظة، الأمر يبدو غريب جداً، تنهيدة تليها تنهيدة، شيء ما عالق بحنجرتي، أشعر بالغثيان، برودة غريبة تسيطر على جسدي، يا الله ما هذا الثقل القابع في رأسي؟!! ماذا يحدث معي، سارعتُ لأمسك بهاتفي لأحادث صديقتي علها تخبرني تُفسّر لي ما يحدث معي، لكن هاتفي ملأه الغبار وخارج نطاق التغطية!! ما هذا الخراب الذي سادَ غرفتي؟ ما هذه الفوضى! لا أستطيع استيعاب الأمر، لقد وضّبتُها صباحاً.. فتحت نافذتي ووقفت أراقب المارّة علّي أجد تفسيراً لكل هذا.. وإذا بأحدهم يطرُق بابي، تسابقت خطواتي لأفتح الباب لكنه مقفل بإحكام، تباً هل أنا سجينة في حجرتي؟! أم أنني مكبلة خلف قضبان؟ أين أنا، لا أدري؟ هل أنا ماض انتهى؟ أم أنني لم آت للحياة بعد؟ أين أنا، سأفقد عقلي؟ رباه هذا الصوت ليس صوتي..!! لماذا نكرهُ ذواتنا إلى هذا الحد؟ لماذا نُصَنِّفُ خطأً عابِرًا على أنه وصمةُ عارٍ أبَديةٍ حُفِرَت على جبينِ التاريخ؟! لماذا نتَعامَلُ معه على أنه التِوائةٌ في خَطِّ حياتنا المستقيم؟! في نهاية المطاف، ليس أمامي خيارٌ سوى أن أحِبَّ ذاتي، أن أحتَضِنَها بقلبٍ مفتوح، وأن أخَصِّصَ لها جَناحًا مُريحًا بين جُدرانِ ذاكرَتي. أعلمُ أنها كثيرة، وهذا لا يُزعِجُني ولا يُزَعزِعُ كِبريائي قيدَ أنمُلة. فتلك الأخطاء المُتَراكِمة هي التي تَمنَحُنا أجنحةً لنُحَلَّقَ في سماءِ التجربة. هي التي تصنعُ لي ذكرَيات ظريفةً ومُحرِجةً أحيانًا لأتَسَلّى بها في أوقات الفراغِ القاتلة، ذكرياتٍ تُسامِرُني في ليالي الأرَقِ الطويلة. تلك الأخطاءُ الفادِحةُ هي التي كتبَت حبكةَ قصَّتي. وإن كنتُ لا أُصيب دومًا إلا أنني لا أصافح بقبضةٍ نّاقصة؛ ولا أُقدّم ودًا مخلوطًا، أو أذى مقنّعًا، ولا ألفةً زائفة … لا أخوض حديثًا ناعمًا في فمهِ مرارة القصد، ووخز التلميح … لم أقترب يومًا لألذع .. ولا انتظرتُ سقطةً لأشمت؛ ولا أرى في المراوغة سوى وجهها القبيح .. كل شيء داخل عقلي وخارجه يثير حيرتي وشكي.. كل شيء من حولي يطرح علي التساؤلات الدائمة.. عن حقيقته ومغزاه، بل وماهية وجوده أصلاً .. كل شيء قابل للمراجعة.. لإعادة الفهم.. للنظر من زوايا مختلفة.. وأوجه عدة .. كل شيء يحتمل قراءات جديدة، وتفسيرات أخرى، غير تلك التي عشت عمري أؤمن بها.. حالة من الريب المعذب المتواصل، التي تصل لحد التشكيك في ماهية الأشياء.. وهل هي موجودة فعلاً أم مجرد خيالات.. ووسط كل هذا التيه الذي يعتريني في كل لحظة.. هنالك أمران في داخلي لا يمسهما هذا الجنون.. أمران راسخان في وعيي كالجبال الرواسي.. موجودان وحقيقيان.. ثابتان رغم كل شيء آخر.. وباقيان لو تزلزل واختفى كل شيء آخر.. مسلماتي التي تسند عقلي.. منبع سكينتي.. وحقائق قلبي المؤكدة التي أعود إليها في نهاية كل معركة لأبدأ من جديد.. موقناً كل اليقين أنها موجودة وباقية وقوية .. هذا صوابي ويكفيني..! وفي كل مرة يعيدني غيابي لأول الطريق .. مترددة، خائفة، أتململ كسكيرة أثقلها الشرب، ثم أتعرى من حاجتي للسقوط فوق أي رصيف يحمل هذه الجثة الثملة، وأتسلق جسدي في خيالي.. يا لهذه الرغبة في رؤيتي، آه ما أتفه ما يحاصرني حين أسكر، حين تغلب علي اللذة فأنشطر وأتكرر وأتماهى وأتعفن وأدهس وأنكسر وأتلملم ويعاد تركيبي من جديد .. لا أريدني أن أفهم أنني الفكرة المصغرة و العظيمة عن العالم .. لا أريد أن أفهم لما سجلت صوتي وأعيده كل ليلة وأنا أريد قتلي .. لا أرغب أن يقفل الخط في وجهي، وأن أضطر لإصياد موضوع من الجانب المظلم لعقلي لكي أحادثني مرة في العقد لا أحب أن أفهمني مثل هذه الأمور السخيفة، وأبني قناعاتي عليها.. بإمكاني تجاوزي مثل حاجز لا يعيق عداءً متمكنا .. بإمكاني غلق أبواب حياتي على أصابعي كلها، وابتكار نوافذ أخرى لا تطل على حدائقي .. لا أرغب في أن يصلني صوت أعماقي الداخلي .. وأنا أردد "أين أنا مني " طبعا لا أحبني وأقصد أني أحب حبي لي .. أحب أن أبحث عني أين لا أكون، أن أشم رائحة الفقد في ثيابي .. أن أراني من بعيد كالمجنونة أفتش بين وجوه المارة، وأشق قلوبهم .. أحب هذا الهوس، هذه الشدة في التعامل مع الأشياء حين أنهزم .. هذه الانفعالات التي تنتابني .. عجزي عن الاستمرار بدوني أو من دوني .. لكني لا أحبني طبعا، وأقصد أني أحب ضعفي،رقتي، حاجتي للانهيار بقربي .. أحب هذه اللامبالاة مني، هذا القرف المتمثل في محاولة نسياني دائما وأخبرني بعدها أنا لا أنساني ما حييت .. هذه الألاعيب التي أبتكرها، لكي لا أعثر على حقيقتي، هذا اليأس الذي صيرني شريرة منهكة .. لا أحد يعثر عليّ بسهولة .. أحب فزعي حين لا أصادفني أثري .. قلقي.. آه كم أحب قلقي عليّ، في الصباح الباكر، في المساء وفي الليل حين أكون نائمة في الحانات .. لا أحبني طبعا، وأعني أني لا أعرف كيف أحبني، كيف أفسر لي هذه الاضطرابات …… في نهاية كل يوم، أجلس مكاني وحيدة، قليلة الحِيلة، الدموع تملأ عيني والجُملة ذاتها تتخبّط بجُدران رأسي بكل فزع أرددها: "لقد ظننتُ أنني نجَوتُ من كل هذا، لا يُعقَل أن أعيشُهُ ثانياً".. أجلِس كأسير نالَ حريته أخيراً، يُشاهد على شريطِ مُسجّل كيفَ تمّ تعذيبُه..! كم هو مؤلِم يا سادة رؤية شيئ يجعلك تُدرِك أنكَ لازلتَ عالِق بذات التجربة وأنك لن تنجو منها أبداً…. (تبا إنه الضياع) (ڤورايا تقية أمازيغية من بجاية)