بداية، أحيي عاليا الشاعرة الكبيرة الأستاذة أمينة المريني، على حضورها الإنساني الوارف، وأيضا على منجزها الإبداعي الشعري المتميز، عبر كل ما قدمته للقصيدة المغربية، ولديوان الشعر العربي، من عطاء إبداعي كبير، بمثل ما أحييها على ما أسدته للمجال التربوي وللعمل الجمعوي ببلادنا، من خدمات جليلة يشهد بها الجميع، متسلحة في مباشرة ذلك، بما تملكه شاعرتنا من إصرار، وصدق، وتفان، ونكران ذات، وعلى مدى عقود زمنية، من الحضور والعمل والمثابرة، فكانت أمينة المريني وستظل تلك المرأة المناضلة والمتسامحة والطيبة، والشاعرة التي لم تبخل على وطنها بنثر ورود المحبة والمؤازرة والتضامن والألفة والوفاق، لنجدها قريبة من قضايا وطنها وأمتها العربية والإسلامية، بعيدا عن النمائم المقيتة، والحروب الصغيرة، تلك التي ارتضاها البعض سبيلا لتبرير عجزهم وتهاونهم عن مواصلة أداء رسالتهم وتحقيق مشاريعهم. من هنا، فمحظوظ كل من أدركته صداقة شاعرتنا، في صفائها الروحي وصدقها الإنساني. من هنا، فحين فكرتُ في كتابة هذه الشهادة عن الشاعرة أمينة المريني، وجدت أنه من الصعوبة أن أتحدث عنها في أبعادها المتضافرة والمتداخلة فيما بينها، سواء كإنسانة أو باعتبارها أختا وصديقة للجميع، وشاعرة ومربية وفاعلة جمعوية، فقد يلزمنا وقت كثير لكي نقتحم هذا الأفق الإنساني في رحابته وصفائه، فآثرت أن نقترب ولو قليلا من أفقها الإبداعي المترسخ في وجداننا، بما يتسم به هذا الأفق من عمق وزخم ودينامية وتجدد. فشاعرتنا ما فتئت تغمرنا بمشاعر الود والسكينة والثقة والمحبة، دون أن نستطيع نحن مجاراتها في ذلك، فقط لأن الأستاذة أمينة المريني، بأصولها الزناتية وبنشأتها الفاسية، تبقى من طينة أولئك السيدات الأصيلات، بكل ما يحمل اللفظ، هنا، من معاني النبل والشموخ والرقي والتواضع، وغيرها من الصفات العالية والخصال الحميدة التي اجتمعت فيها وتفرقت في غيرها… فضلا عن هذا كله، فأمينة المريني، تعتبر من طينة أولئك الشاعرات اللواتي بصمن المشهد الشعري العربي بأصواتهن المتفردة وبتجاربهن الشعرية الاستثنائية، إبداعا وفكرا وإنشادا، فقد تمكنت التجربة الإبداعية لشاعرتنا أن تشد إليها أنظار القراء والنقاد والأكاديميين، وقد اخترق صداها مجموعة من الجغرافيات، واتسعت دائرة تلقياتها وتنوعت. ويكفي أمينة المريني فخرا أن تكون دواوينها محط عديد من القراءات والدراسات والأبحاث، وضعتها جنبا إلى جنب مع شاعرات عربيات كبيرات، من قبيل فدوى طوقان ونازك الملائكة وسعاد الصباح، وغيرهن. من هنا، صعوبة الحديث عن الشاعرة أمينة المريني، أمام تعدد المداخل المؤدية إلى عوالمها الإبداعية وإسهاماتها المؤثرة في تحريك المشهد الشعري العربي وإثرائه وتطويره. أليست شاعرتنا طالعة إلينا من سلالة عريقة، ومن أسرة أصيلة، حفاظة للشعر ومتذوقة له، بشكل جعلها تنخرط كليا في الجو الروحاني لمدينتها فاس، وتفتتن بمآذنها ومزاراتها وبطقوسها الدينية، فحصل أن تمكنت من ناصية الشعر في سن مبكرة، في ستينيات القرن الماضي، مذ كانت طفلة وهي في المدرسة، وأيضا بتوجيه من والدتها التي كانت بدورها حفاظة للشعر، متذوقة له… حفظت شاعرتنا ألف بيت من عيون الشعر العربي القديم، ثم تملكت بحوره، فتملكتها القصيدة، فأرهف ذلك حاستها الموسيقية، هي التي تمرست، منذ وقت مبكر، على طقوس الكتابة، وخبرت تضاريسها الصعبة، واكتشفت أسرارها الدفينة، مزاوجة، وبكل اقتدار وخبرة وحرفية، بين القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، بعيدا عن أي تعصب لهذا الاتجاه أو ذاك، وعن أي نظر متطرف وعدائي للأشكال، ومن دون الدخول في صدامات من أجل شكل القصيدة، والذي تعتبره شاعرتنا ضربا من العبث والمزايدة الفارغة، موازاة مع تنويعها الجميل في موضوعات قصائدها، بما تستوعبه من قضايا ورؤى وصور وموسيقى وترانيم… كل ذلك أضفى على التجربة الشعرية لأمينة المريني تميزا خاصا، وأكسبها عمقا جماليا ودلاليا، وبعدا روحيا، فهي شاعرة تمتح من التجربة الإنسانية الكونية بشكل عام، في أبعادها وملامحها الوطنية والعربية والإسلامية والسياسية والصوفية والروحية والاجتماعية والذاتية والوجدانية والنفسية والأخلاقية، عبر ما تنشده أشعارها من مطلق وحقيقة ورؤيا عرفانية وحب إنساني وعشق إلهي، وهو ما يجعل من شاعرتنا "كائنا صوفيا" بامتياز، بما وجدته في القصيدة الصوفية من "ملاذ روحي، ومن حاجات جمالية وإشراقات لا تخلو من مكابدة وكشف". يحدث هذا، موازاة مع اكتواء شاعرتنا بهموم العصر وحياة الناس ومعاناتهم، في إصغائها الحثيث لآلامهم وأوجاعهم، وأيضا في تعبيرها عن أحوالهم وآمالهم، فكان للأمة وللمرأة نصيب لافت في أشعارها، بمثل ما امتدت قصيدتها في تربة الأمكنة التاريخية العتيقة، من فاس إلى القدس فمكة، ومن البوسنة إلى العراق، مرورا بغيرها من الأمكنة الساخنة والملتهبة، وتبقى "فاس"، هي "مسكن الذات" و"حاضرة القلب والروح"، لدرجة أحست شاعرتنا بأن فاس هي "الأم الثانية" التي ألهمتها شعرا، والملاك الذي حفزها على القول الشعري، فخصتها بديوان كامل "خرجت من هذه الأرخبيلات"، ف "أمر طبيعي أن أستمد شعري من هذه الأمكنة التي تقبع في أعماق خيالي أو في سراديب اللاشعور أو في ثنايا الروح"، تقول شاعرتنا في حوار أجريته معها، نشر بمجلة "العربي"، عدد يوليوز 2019… وفي صلب هذا الحضور النوعي المؤطر للمسار الإبداعي لشاعرتنا، الطافح بالتراكم والمعرفة والانزياحات والاستعارات والرموز والصور والمعاني والدلالات والمتعة، والمولد لعديد من القراءات والتآويل، لم يحصل أن سعت شاعرتنا إلى الأضواء، أو إلى التهافت خلف شهرة زائفة، أو مهرولة، هنا وهناك، نحو أماسي الجعجعة والتفاخر بالألقاب الوهمية، بل بقيت شاعرتنا، عكس ذلك، وكما عهدناها دائما، مقيمة في القصيدة، تحياها، وتستضيء بمعانيها، وتجترح أغراضها. فالشعر هو الذي يأتي إلى شاعرتنا متدرجا في أدواته وموسيقاه ورؤاه، من غير أن تسقط هي في فخ التنكر للأب، كما فعل شعراء آخرون، في هرولتهم غير المبررة، نحو الرداءة والارتماء في بئر حداثة معطوبة. ومن بين ما يمكن استنباطه، من خلال متابعتنا لهذه التجربة الشعرية الرصينة، أنه لم يحصل أن توقفت شاعرتنا عند كتابة القصيدة فقط، كما يفعل غيرها من الشعراء والشاعرات، ممن يعوزهم رجع الصدى، بل نجد أن تجربتها الشعرية تتميز بملمح آخر ذي أهمية خاصة، يتجلى أساسا في قدرتها على الاستفادة من موسوعية ثقافتها ومقروءاتها المتعددة، في سعي شاعرتنا المتواصل إلى ترويضها، بغاية تسخيرها لإضاءة بعض الجوانب النظرية والمفاهيمية والنقدية المؤطرة لتجربتها الشعرية بشكل عام. فلو كتب لشاعرتنا أن تتفرغ لصوغ بيانات أو لوضع حاشية أو نصوص موزاية لتجربتها الشعرية، لجاءت بيانات ونصوصا مضيئة لعديد القضايا والمواقف والمفاهيم والحالات الشعرية والرؤى، المتعلقة بكتابة الشعر وفهمه وتلقيه. ويكفينا الاطلاع على بعض حوارات الأستاذة أمينة المريني، كي نلمس عن كثب مدى ما تتسم به ثقافتها من اتساع وكثافة وتنوع وجرأة، ومن إدراك وتمثل لقضايا الإبداع الشعري بشكل عام، عبر خوضها الموازي في قضايا ملحة، من قبيل "الأدب النسائي" و"الشعر الإسلامي" و"الشعر الإنساني"، و"قصيدة النثر"، و"التجربة الصوفية"، و"القصيدة الموزونة"، و"الحداثة الشعرية"، ومسألة "الجفاء للماضي"، و"الشعر القومي"، و"القصيدة الصوفية"، وقضايا "العنوان"، و"التجريب"، و"الشعرية الخلاقة"، و"الرؤيا الشعرية"، و"التعايش الشعري"، و"التحقيب الأجيالي"، و"الاهتمام بالجوهر"، و"صمت الأدباء"، وغيرها من القضايا والأسئلة والمفاهيم التي ظلت شاعرتنا تواكبها بالرأي والسؤال والتأمل والإحاطة. ويتم الحديث عن هذه القضية وغيرها، من قبل شاعرتنا، من خلال ما تمتلكه من لغة واصفة عالية، بمثل علو كعبها الشعري ورقي لغتها الشعرية، في تنوع مصادرها ومراجعها القديمة والحديثة، وذلك بشكل ينم عن مستوى ثقافي وفكري ونقدي لافت لدى شاعرتنا، أو بتعبيرنا الدارج، فهي شاعرة "قارية"، وكما نلمس ذلك، على سبيل المثال، في استشهاداتها المعضدة لأفكارها ولطروحاتها وآرائها، المستقاة من القرآن الكريم، ومن الأحاديث الشريفة والحكم والفلسفات والأمثال، من طاغور والجرجاني والجاحظ وابن رشيق وابن عربي وطه حسين وشوقي ضيف ومحمد الحلوي وأدونيس وعبد الكريم الطبال ومحمد السرغيني ومحمد علي الرباوي وإليوت وغوتة وبودلير ومالارميه وباشلار وجان كوهن وسوزان برنار، وغيرهم من شعراء الإنسانية وفلاسفتها ومفكريها ومتصوفتها، ممن قرأت لهم شاعرتنا وتأثرت بهم، وممن تفاعلت مع أعمالهم الشعرية والنظرية وأفكارهم وهواجسهم… وتأسيسا على ما سبق وغيره، يحق لنا أن نفخر جميعا بشاعرتنا الأصيلة أمينة المريني، وبتجربتها الشعرية الكبيرة، فهي ليست شاعرة المغرب فحسب، كما يرتضي البعض تسميتها، بل هي شاعرة الإنسان في كل مكان، واسمها اليوم يندرج ضمن خانة الشاعرات الأصيلات اللائي بصمن القصيدة الإنسانية، بأسلوبها الشعري الأخاذ، في استناد مسيرها الشعري إلى تجربة حياتية وروحية صافية، وفي قدرتها على ركوب المغامرة الشعرية، بكل أشكالها ووعيها النقدي، فهي التي ظلت منتصرة لمختلف الحساسيات الإبداعية، وخصوصا الشبابية منها، بمثل وفائها لرسالتها التربوية والتعليمية وإخلاصها لها، وتفانيها في أدائها. فشكرا لكل تلك الأيادي المخلصة التي أخذت شاعرتنا إلى جنة الشعر، شكرا لتلك الأسرة الكريمة التي ترعرعت شاعرتنا في كنفها، ووفرت لها الأمن والدفء والأمان، لتزهر شعرا، شكرا لهذه "الذات الجماعية" التي ساعدت شاعرتنا ووفرت لها الإمكانات والفرص، ودعمتها لتحقيق رغائبها والاستجابة لتطلعاتها، ليكسب وطنها اليوم شاعرة كبيرة، بحجم انتمائها لدينها ولأمتها. بقلم: د. عبد الرحيم العلام