شكلت المسألة التربوية موضوعا للتأمل الفلسفي ومجالا من المجالات التي حظيت بحيز هام في حقل الدراسات الاجتماعية والإنسانية، وهي نفس الدراسات التي مثلت مرجعية نظرية وابستمولوجية قامت على صرحها ما يصطلح عليه بعلوم التربية بمختلف مشاربها وتنوع خلفياتها، علاقة بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأنساق الثقافية التي حددت مسارات تطور المجتمعات الحديثة والمعاصرة. من هذا المنطلق يتضح أن مقاربة المسألة التربوية ترتبط بحكم الضرورة العضوية بقضايا ومجالات تطال مختلف أشكال وأنماط الممارسة الاجتماعية، ومن ضمنها مجال التجديد الثقافي وتحقيق النهضة الفكرية الشاملة. وفي هذا السياق يمكن الإدلاء بملاحظة أولى مفادها أن السياسات التربوية التي تم إقرارها منذ عقود من الزمن ومشاريع الإصلاح التي واكبتها والإمكانات الهامة التي تم رصدها لتأهيل المدرسة المغربية، لم تعر جميعها كثير الاهتمام لمسألتين أساسيتين تتعلق الأولى منهما بعلاقة المدرسة بمحيطها المجتمعي، في حين تحيل المسألة الثانية إلى علاقة الشأن التربوي بالوضع الثقافي العام وانعكاساته الإيجابية أم السلبية على إصلاح منظومة التربية والتكوين. ينضاف لهذه المسألة الثانية، مقاربة تسعى لاستثمار مكتسبات العلوم الإنسانية الحديثة لإقرار سياسة تربوية تتلاءم مع خصوصية وحاجيات المجتمع المغربي، اعتمادا على دراسات رصينة علاقة بسوسيولوجيا المعرفة وسوسيولوجيا التربية وتاريخ تداول المعارف وآليات تصريفها وأشكال احتضانها من طرف القبائل وسكان الحواضر خلال المرحلة ما قبل الاستعمارية. إن البحث في أركيولوجيا المعرفة والأنساق الثقافية المغربية، لمن شأنه أن يكشف عن مصادر وأصول العوائق السوسيو- ثقافية التي ما زال البعض منها يحول دون بلورة فلسفة تربوية تحدد الإطارات المرجعية الموجهة للسياسات التربوية، وفق مقتضيات الحداثة الفكرية ومستلزمات النهضة الثقافية الشاملة. ولقد اهتمت المقاربة التقنية بالمسألة الأولى من خلال الدعوة لانفتاح المدرسة على محيطها الاقتصادي والاجتماعي، وملاءمة التكوين لحاجيات سوق الشغل ومتطلبات النشاط الاقتصادي على مستوى المهارات المهنية والكفاءات التدبيرية. كما أن نفس المقاربة التقنية تدعو إلى تنشيط الفضاء المدرسي اعتمادا على الأنشطة الموازية الثقافية والفنية التي يمكن أن تندرج ضمن مشاريع المؤسسات التربوية، والتي بإمكانها دعم الممارسة التربوية التعليمية. والحال أن مقاربة المسألة التربوية علاقة بالوضع المجتمعي لا يمكن بتاتا اختزالها في البعد الاقتصادي رغم الأهمية القصوى التي تتخذها مسألة تأهيل وإدماج خريجي المدارس والمعاهد في عالم الشغل. إن المؤسسة التربوية إذ تعتبر إحدى المؤسسات التي تتكفل بالتنشئة الاجتماعية وإدماج الأفراد داخل المجتمع، فإن هذا الواقع يلزم بالتفكير في العوائق التي تحول دون أن تقوم المؤسسات الأخرى بنفس تلك الأدوار وعلى سبيل المثال وليس الحصر وجب التفكير في الموانع التي تحول دون مساهمة نسبة هامة من الأسر المغربية في متابعة المسار الدراسي لأبنائها وبناتها، ومن ضمن هذه الموانع ارتفاع نسب الأمية والفقر وتحلل أنساق القيم الحاملة للبعد التربوي بمضمونه المجتمعي وما يترتب عن ذلك من ممارسات مشينة تخترق مختلف مجالات الحياة الاجتماعية بمختلف القطاعات، وتخل بشروط ضمان العيش المشترك كما تحول دون تحقق الوعي بضرورة الحفاظ على المرفق العمومي وتلازم الحقوق والواجبات. إن الإلحاح على ضرورة تلازم الإصلاح التربوي بمعالجة مختلف الآفات الاجتماعية إذ يبدو من البداهة بمكان فإنه يطرح في نفس الآن تحديات كبرى تفرض توفر شروط تعبئة اجتماعية شاملة تستند على تعاقد مجتمعي يتوق لتحقيق بدائل جريئة على جميع المستويات. وتبعا لما سلف يمكن أن نعتبر أن موضوعة "التجديد الثقافي والإصلاح التربوى" تتأطر تبعا لعاملين أساسيين يتعلق أولهما بالسياق العام الذي كان له بالغ الأثر على مسارات السياسات التربوية الحديثة والمعاصرة منذ مطلع القرن الماضي، في حين يحيل العامل الثاني إلى خصوصية الوضع الثقافي المغربي وأشكال التأثير أو الانفصام التي تتحدد وفقهما انعكاسات هذا الوضع على المؤسسة التربوية بمختلف مستوياتها. ومن المعلوم علاقة بالعامل الأول أن النظريات التربوية الحديثة قد تمت بلورتها على الصعيد الأوربي اعتمادا على ثلاثة مكونات أساسية حكمتها جدلية الاستمرارية والتجاوز. تجسدت هذه المكونات بالأساس من خلال النموذج الإنسي الكلاسيكي والنموذج التنويري والنموذج التربوي المعاصر. ولقد تميز النموذج الأول بتحديده لنظام المعارف الأساسية التي يجب اكتسابها علاقة بعلوم اللغة والآداب والرياضيات والفنون ومختلف العلوم الطبيعية والفلكية. أما النموذج التنويري فقد تأسس على اعتبار أن كلا من الحضارة والثقافة والتنوير هي بمثابة صيرورات لا يمكن الفصل فيما بينها. كما تتحدد غاياتها جميعها بالارتقاء بالكائن الإنساني إلى أعلى مراتب التسامي الروحي والمعرفي. كما تتوخى تحرير الإنسان من كل أشكال الوصاية وإقرار حرية الفكر وتحرير العقل الإنساني من قيود الجهل وأغلال الانصياع للمعتقدات التي تمس بكرامة الإنسان. ولعل ما يميز النموذج التنويري كذلك الاهتمام الكبير الذي حظيت به المسألة التربوية من لدن كبار فلاسفة عصر الأنوار، والذين اهتموا كذلك بدور الجامعة على مستوى إنتاج المعارف ونشرها وعلى مستوى تحقيق انبعاث الروح القومية وتأهيل المواطن وفقا لمستلزمات العصور الحديثة. ولقد تمثل النموذج الثالث من خلال التصورات البيداغوجية المعاصرة والتي حكمها منطق الاختلاف تبعا لمرجعيتها النظرية وخلفياتها الإيديولوجية. ومن المفيد أن نشير في هذا الصدد إلى أن البعض من هذه الخلفيات تمثل بالأساس في التنكر لفكر وقيم التنوير على المستوى التربوي، كما تمثل في السعي الحثيث لاختزال دور المدرسة وظيفيا في خدمة اقتصاد السوق وترسيخ مختلف أشكال الاستلاب الفردي والجماعي. إن الإشارة إلى التراث التربوي الغربي لا يهدف بتاتا إلى تبخيس قيمة نماذج التراث التربوي التي أنتجتها حضارات وفضاءات ثقافية أخرى، ومن ضمنها الحضارة العربية الإسلامية، بل إن هذه الإشارة لذلك التراث مبررة تاريخيا على اعتبار أن الحداثة الغربية ما فتئت تبسط قيمها على الصعيد الكوني، وهي نفس القيم التي تفاعل معها فكر النهضة على صعيد العالم العربي والإسلامي. إن التراث الأنسي العربي الإسلامي بمختلف تجلياته الفلسفية والأخلاقية والسياسية، حافل بأعلام فكرية تنويرية، لم تحض بالاهتمام على مستوى دراسات تاريخ الفكر، كما لم يتم استلهامها في إقرار المناهج التعليمية، في حين تم اختزال هذا التراث في غالب الأحيان في رموز فكرية تميزت بطابعها الدوغمائى الوثوقي والتي مثلت في حينها انتكاسة للعقلانية الإسلامية وتراجعا عن القيم الإنسية المشار إليها سابقا. وبقدر ما تتحدد مسألة الإصلاح التربوي والتجديد الثقافي بالمغرب بهذا الإطار العام المرتبط بالتراث الغربي التربوي وانعكاسات ذلك على نشأة وتطور المدرسة العصرية المغربية، بقدر ما تتحدد نفس تلك المقاربة بخصوصية الوضع الثقافي المغربي وانعكاساته على واقع ومآل المدرسة المغربية. وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى واقعة أساسية تتمثل بإيلاء قليل الاهتمام بمخزون الذاكرة الثقافية الوطنية ومما تتضمنه من بعد تنويري ميز العديد من الإنتاجات الفكرية سواء تعلق الأمر برواد الفكر الإصلاحي المغربي منذ مطلع القرن الماضي، أو تعلق نفس الأمر بمفكرين مغاربة معاصرين احتلت المسألة الثقافية وامتداداتها التربوية حيزا هاما في إنتاجاتهم الفكرية. إن البعد التنويري الذي ميز أهم مكونات الفكر المغربي المعاصر منذ مطلع القرن الماضي، تجلى بالأساس في اعتبار فكر التنوير حاملا لقيم إنسانية كونية لا يمثل التنكر لها سوى تكريسا لواقع التخلف والانحطاط. كما تجدر الإشارة في هذا الصدد بالأهمية القصوى التي أولتها الحركة الوطنية، إبان عهد الحماية للعمل التربوي سواء تعلق الأمر بإنشاء المدارس الحرة واستلهام الطرق التربوية الحديثة في إقرار البرامج التعليمية وإعطاء عناية خاصة لتمدرس الفتيات. وسواء تعلق الأمر بالتوجهات السلفية المتنورة أو بالتوجهات العصرية التي شكلت إطارا مرجعيا لتوسيع العرض التربوي إبان الحماية، فلقد ساهمت جميعا في إذكاء الحس الوطني وإشاعة الوعي بأهمية التربية والتعليم للانعتاق من ربق الاستعمار وتوفير شروط النهضة الاجتماعية الشاملة. إن هذه التعبئة الوطنية قد أسهمت إلى حد بعيد في إطلاق حملات محاربة الأمية إبان الاستقلال والتي لقيت إقبالا شعبيا وجماهيريا، لم يتم تأطيره وفق سياسة عمومية متناسقة على المدى البعيد، كانت لا محالة في حالة توفرها قد تسمح للمغرب بالقضاء على آفة الأمية التي استفحلت علاقة بالنمو الديموغرافي للسكان ومحدودية التمدرس لعقود من الزمن. وتحيل الواقعة الثانية إلى مجموع العوائق البنيوية التي تحد من تطور المنتوج الثقافي الوطني على المستويين الكمي والنوعي وما يترتب عن ذلك من مؤشرات سلبية ترتبط بمحدودية انتشار المعرفة بمختلف أشكالها، وبضآلة الاستمتاع بالإبداعات الثقافية والفنية على الصعيدين الاجتماعي والتربوي بالمغرب. إن واقع الحال هذا ليعبر عن محدودية الوعي بأهمية العمل الثقافي، وبأن الثقافة بمختلف تجلياتها هي في نفس الآن منتجة للمعرفة وحاملة للمبادئ التربوية والقيم الأساسية التي تساهم بالسمو بالكينونة الإنسانية إلى مستويات المعرفة الصائبة بمحددات الوضع البشري وإشاعة مثل الخير والجمال. إن الأولوية التي حظيت بها المقاربة التقنية في توجيه السياسات التربوية بالمغرب أدت بالضرورة إلى اختزال الرؤية الإصلاحية للمنظومة التربوية وفق المقاربة التي تراهن على البيداغوجيا على حساب التمكن الرصين والمستمر من المعارف الأساسية، كما تعتبر القيم الاجتماعية المرجعية والثوابت الوطنية كفيلة بمفردها بأن تحدد الإطار الفلسفي العام الموجه لمختلف أشكال الممارسات التربوية والضامن لوحدة الأمة المغربية ولانخراطها في الفعل التاريخي وفقا لمتطلبات العصر وتحديات العولمة. إضافة لما سبق يمكن القول كذلك بأن من نقائص تلك المقاربة التقنية اختزالها لمشاريع الإصلاح التربوي في إطار القطاع المدرسي وعدم بلورتها لخطة إصلاحية شمولية تحدد واجبات مجموع مكونات الدولة والمجتمع اتجاه المدرسة ليس على المستوى النظري بل وأساسا على المستوى العملي – الإجرائي. إن الوثيقة التي أصدرها المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي والتي أقرت رؤية استراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين في أفق إرساء مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء، تكتسي أهمية خاصة على مستوى الغايات الكبرى والإجراءات المصاحبة لها. وتصبو هذه الوثيقة لتحديد ممكنات توفير شروط تحقيق الإنصاف وتكافؤ الفرص لولوج المؤسسة التربوية، وتحسين جودة التعلمات وانخراط المدرسة في الارتقاء بالفرد والمجتمع، وإقرار ريادة ناجعة لقيادة وتدبير المنظومة التربوية. وفي هذا السياق يجب التذكير بالآمال الكبرى التي صاحبت صدور الميثاق الوطني للتربية والتكوين خلال مطلع القرن الماضي والإجماع الذي حصل بشأن دعائم الإصلاح التي كان من المفترض أن يقوم على صرحها الإصلاح التربوي المنشود. كما يجب التذكير بنفس الآمال التي أحياها مخطط البرنامج الاستعجالي والذي سعى في حينه لإعطاء نفس جديد لتأهيل المدرسة المغربية. ولعل ما ميز مشاريع الإصلاح السالفة وما يميز كذلك مشروع الرؤية الاستراتيجية الراهنة هو تحديدها جميعها للمدد الزمنية التي كان من المفروض أن تتحقق خلالها مجموع الخطط الإصلاحية سابقا وآنيا ومستقبلا. وفي هذا الإطار تم تحديد العشرية الأولى من القرن الحالي لتطبيق مقتضيات الميثاق الوطني للتربية والتكوين، كما تم تخصيص ثلاث سنوات لإنجاز مجموع مشاريع البرنامج الاستعجالي، في حين تم إقرار المدة الفاصلة بين سنتي 2015-2030 بمثابة الأفق الزمني الذي سيمكن عمليا من تحقيق مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء. والجدير بالملاحظة أن ثلاثة وزراء تعاقبوا على مسؤولية قطاع التربية الوطنية إلى حدود تعيين الحكومة الحالية، مما يدل على تذبذب السياسات المتعلقة بتدبير هذا القطاع الحيوي. ولقد حددت الحكومة الحالية أفقا زمنيا يمتد من سنة 2022 إلى حدود سنة 2026 لتأهيل المدرسة المغربية من خلال إقرار خارطة طريق لإصلاح المدرسة العمومية ترتكز على أربعة مكونات أساسية تتحدد أولا من خلال وضع ثلاث أهداف استراتيجية في أفق 2026 تركز على التعلمات الأساسية. والأنشطة الموازية والحد من الهدر المدرسي. كما تتحدد ثانية بإقرار ثلاث محاور للتدخل متعلقة بثلاثية المنظومة التعليمية المتكونة من التلميذ والأستاذ )ة( والمؤسسة التعليمية. أما المحدد الثالث فيتعلق بصياغة اثنى عشر التزاما ملموسا لإحداث تغيير ملحوظ على التلاميذ والأساتذة والمؤسسات التعليمية، أما المحدد الرابع لخريطة الطريق المشار إليها فيشير إلى ضمان ثلاث شروط للنجاح في تحقيق الالتزامات المشار إليها، ترتبط بمسائل الحكامة والتزام الفاعلين، وضمان توفير الموارد المالية. إن الملاحظة الأولية التي يمكن الإدلاء بها بشأن خريطة الطريق التي تم إقرارها باعتبارها تحدد معالم السياسة العمومية في مجال قطاع التربية الوطنية في أفق 2026، أن هذه الخريطة تعيد صياغة نفس الأهداف التي أقرتها المخططات الإصلاحية السابقة، وبالتالي إن الارتكاز على تقويم التعلمات الأساسية للتلاميذ وفق التقارير الوطنية والدولية، التي تؤكد جميعها الضعف الكبير الذي يسم تلك التعلمات كما أن التذكير بالإحصائيات المتعلقة بالمستويات القياسية للهدر المدرسي وغيرها من القضايا، لا يمكنها بتاتا أن تبرر عدم التشخيص الموضوعي لفشل المخططات الإصلاحية السابقة منذ مطلع القرن الحالي إلى حدود الآن سعيا وراء تجاوز العوائق البنيوية التي حالت ومازالت دون تأهيل المدرسة المغربية. إن العائق الأساسي ليتمثل في فشل السياسات التربوية العمومية في تدقيق وسائل تنزيل المخططات الإصلاحية بطرق عملية وإجرائية من شأنها أن تسهم في خلق تعبئة اجتماعية لإنقاذ المدرسة العمومية، وتمكن من وضع السياسة الإصلاحية في مجال التربية والتكوين في صلب اهتمامات مجموع القطاعات الحكومية ومكونات المجتمع المدني لإقرار مشروع إصلاحي مندمج يتحقق وفق جدولة زمنية محددة تحدد الأولويات وفق الحاجيات المجتمعية ومستلزمات التنمية البشرية وتحديات التنافسية الدولية. إن خريطة الطريق 2022 -2026 رغم حرصها على استلهام بعض المؤشرات التقويمية لصيانة أهدافها، فإنها لم تتجاوز سقف البرنامج الحكومي في قطاع التربية خلال الولاية الحكومية السارية، ولا ترتقي لصياغة خطة إصلاحية شمولية بأبعادها، المجتمعية والثقافية والفلسفية، والاقتصار الصوري على صياغة خريطة الطريق وفق العقد – البرنامج الذي يستنسخ الأهداف التي رسمت للنهوض بالمدرسة المغربية منذ مطلع الاستقلال إلى حدود الآن. إن التذكير بتلك الكرونولوجيا التي تشمل عمليا ثلاثة عقود، يطرح بالضرورة التشخيص الموضوعي لآثار مشاريع الإصلاح على واقع المؤسسة التربوية وهي نفس الآثار التي يتوافق الجميع على محدوديتها وضعف مردوديتها علاقة بتأهيل المدرسة المغربية. إن الإشارة لتلك الكرونولوجيا تلزم ثانية بإعادة النظر في مقاربة الزمن التربوي وارتباطاته العضوية بصيرورة الزمن الاجتماعي في شموليته. إن القرار التربوي بقدر ما يرهن مستقبل جيل بكامله بقدر ما يمكن من تسريع وثيرة التغيير الاجتماعي عندما يتوافق نظريا وعمليا مع متطلبات هذا التغيير، كما أن نفس القرار التربوي قد يكون ليس فقط كابحا للنهضة الاجتماعية بل معيقا لها عندما يختزل في إجراءات لا تتوفر لها شروط التحقق الفعلي وتتخذ شكل صنافة تتضمن أهدافا وغايات مثلى لا تأخذ بعين الاعتبار تعقيدات الواقع السوسيو-ثقافي وتخلف البنيات الاقتصادية والاجتماعية وتدهور منظومة القيم المجتمعية. إننا نأمل من خلال مقاربة مسألة التجديد الثقافي والإصلاح التربوي إلى طرح بعض التساؤلات تتحدد على المستويين النظري والمنهجي كالتالي: 1- ما هي معالم فلسفة التربية المحددة للقيم الأساسية والغايات الكبرى المؤطرة للممارسة التربوية بالمدرسة المغربية، وما هي العلاقات المحتملة بين مكونات هذه الفلسفة والتراث المعرفي الإنساني وأنماط تصريف السلطة العالمة وشروط تحقق التعليم القويم؟ 2- هل المعارف المتضمنة في المقررات والمناهج التعليمية بمختلف الأسلاك الدراسية بالمغرب، تتوافق مع مستوى تطور المعارف الأكاديمية التي تعتمدها الأنظمة التربوية المشهود لها بنجاعتها ومواكبتها لمواصفات مجتمع المعرفة والتواصل على الصعيد العالمي؟ 3– هل الطرق والمرجعيات البيداغوجية المقررة مؤسساتيا على صعيد المؤسسة التربوية المغربية يتم تكييفها مع خصوصية ومعيقات الممارسة التعليمية، أم على العكس يتم إفراغها من مضمونها المنهجي والأداتي وذلك بالركون لتطبيقات شكلية لا تتوفر لها العدة الديداكتيكية الملائمة والوسائل التعليمية الحديثة؟ 4– هل القيم الاجتماعية المرجعية المستدمجة في مختلف المواد الدراسية تقوم على تكامل مكوناتها وتناغمها، أم على العكس من ذلك إن المواد الحاملة لهذه القيم تكرس وضعية التنافر والتنافي بين هذه المكونات، وتحول دون قيام المدرسة المغربية بأدوارها التربوية على مستوى تكوين الشخصية المتزنة نفسيا والمتفتحة معرفيا وثقافيا والحاملة للوعي المدني وروح المواطنة؟ 5- هل تم تقويم المعارف والكفايات الأساسية لمدرسي مجموع الشعب والمواد التعليمية بمختلف الأسلاك التربوية وكفاءات الموارد البشرية المكلفة بتدبير المنظومة التربوية على جميع الأصعدة، وما هي طبيعة برامج التكوين التي تم وضعها لتجاوز الاختلالات التي تم تشخيصها على هذا المستوى؟ 6- هل تم اعتماد دراسات متخصصة تحيط بكل المؤشرات الموضوعية والميدانية سعيا لتشخيص حالة منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، واعتماد نتائجها لإقرار مخطط الرؤية الاستراتيجية باعتبارها تمثل المحطة الثالثة في مسلسل الإصلاح التربوي الذي سيمتد إلى نهاية العقد الثالث من القرن الحالي؟ وعلاقة بهذا التساؤل تجدر الإشارة إلى كون التقرير التحليلي الذي سبق وأن أصدره المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، إذ يقدم مجموعة من المعطيات الأساسية لتشخيص واقع المدرسة المغربية، غير أن منهجية التشخيص التي تم اعتمادها على هذا المستوى رغم حرصها على استقراء الواقع التربوي اعتمادا على مؤشرات إحصائية وتنظيمية وبيداغوجية وتدبيرية، فمع ذلك إن هذه المؤشرات إذ تقدم معطيات هامة على المستوى الكمي، فإنها مع ذلك لم تكشف بشكل كاف عن الاختلالات النوعية التي تسم المنظومة التربوية. إن هذه الاختلالات النوعية تحيل إلى المجالين المعرفي والبيداغوجي كما تسم بشكل سلبي نسق القيم التربوية والأخلاقية والمدنية، وما صاحب ذلك من تفشي لممارسات مشينة تتعلق بتراجع الوعي بالواجب المهني لدى بعض الفاعلين التربويين، وتفاقم ظواهر الغش المدرسي والعنف الذي لم يعد يطال فقط مرافق المؤسسات التربوية، بل أصبح يمس بحرمة هيئة التدريس وطاقم الإدارة التربوية. 7- هل تم تشخيص وضعية الجامعة المغربية ومختلف مؤسسات التكوين العليا أخذا بعين الاعتبار المواصفات الأكاديمية والعلمية المتعارف عليها عالميا، مع الكشف عن العوائق البنيوية التي تسهم على مر السنين في استفحال أزمة التعليم الجامعي، مما يصنف الجامعة المغربية في مؤخرة الترتيب الدولي للجامعات المعترف لها بالتفوق الأكاديمي ونجاعتها على مستويات البحث العلمي، سواء تعلق الأمر بمجالات العلوم التجريبية أو مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية إضافة لدورها في مجال الابتكار التقني بمختلف أصنافه. إن استفحال أزمة الجامعة المغربية إذ ينعكس بالضرورة على مجموع مكونات منظومة التربية والتكوين، ويسهم في إعادة إنتاج المعيقات التي تحول دون تأهيل المدرسة المغربية، فإنه في نفس الآن يسهم في تكريس واقع التأخر الثقافي وتراجع البحث العلمي إلى مستويات تقف حاجزا منيعا يحول دون تأثير الجامعة في محيطها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. صحيح جدا أن ضعف مؤهلات الوافدين على الجامعة من مختلف مسالك التعليم الثانوي – التأهيلي – يمثل عاملا من العوامل التي تضاعف من تنامي مؤشرات أزمة الجامعة المغربية، ولكن هذا العامل لا يمكن بمفرده أن يحجب معيقات التأطير الأكاديمي، سواء تعلق الأمر بمواصفات المكونين، ومدى تكامل برامج التكوين وتناسقها أو بنجاعة التجهيزات التربوية والمعدات البيداغوجية. لقد مرت حقبة من الزمن على إقرار خطة الإصلاح الجامعي واعتماد نظام التكوين بالوحدات، ولم يتم آنذاك الأخذ بعين الاعتبار بمجموعة من المؤاخذات التي أثارت في حينه نقائص الخطة الإصلاحية وسبل تجاوزها في إطار مقاربة شمولية لمنظومة التكوين الجامعي. إن الفترة الزمنية التي استغرقها الإصلاح الجامعي أبانت بشكل جلي أن الإجراءات التي تم إقرارها على المستويات التنظيمية والبيداغوجية والتكوينية لم تسهم فعليا في الارتقاء بمستوى التكوين الجامعي كما لم تسمح بملاءمة مواصفات الخريجين من الجامعات مع حاجيات المحيط الاقتصادي والاجتماعي. إن واقع الحال هذا يفرض تقييما موضوعيا ودقيقا لتلك الخطة الإصلاحية وتشخيص مختلف العوائق والاختلالات التي تحول دون تأهيل الجامعة المغربية لكي تسهم في العملية التنموية وتحديث مختلف البنيات الاجتماعية والارتقاء بالعنصر البشري باعتباره العنصر الأساسي لتحقيق التغيير الاجتماعي المنشود. إن الحديث عن وضعية الجامعة والمؤسسات العليا العمومية، لا يجب بأي حال من الأحوال أن يحجب واقع التردي الأكاديمي وضعف التأطير البيداغوجي، اللذان يصفان الجامعات والمؤسسات الخصوصية، والتي تحظى في نفس الآن بترخيص السلطات الوصية على قطاع التعليم العالي لممارسة مهامها ويتم الاعتراف رسميا بالشهادات التي تسلمها. والحال أن هذا القطاع الخصوصي على مستوى التعليم العالي، كما هو الشأن بالنسبة للتعليم المدرسي والثانوي الخصوصيين، لا تخضع جميعها لأية سلطة تربوية رقابية فعلية من طرف الجهات المختصة. إن واقع الحال هذا إذ يمثل حيفا للأسر التي تستثمر موارد مالية هامة لتدريس أبنائها وبناتها في القطاع الخصوصي، فإنه يحول في نفس الآن من تحفيز الامتياز على مستوى التكوين العلمي والتأهيل المهني المتعدد التخصصات. 8– تميزت اللحظة السياسية مؤخرا بالدعوة إلى التفكير الجماعي لتنزيل النموذج التنموي الجديد الذي يسمح بتوفير شروط نهضة اقتصادية واجتماعية تتلاءم مع الحاجيات الآنية والمستقبلية لمختلف الفئات الاجتماعية وتمكن من تجاوز الفوارق التنموية بين مختلف الجهات الترابية مع ضمان انشغال مختلف الخطابات السياسية بالتساؤل عن مواصفات هذا النموذج التنموي، وبغض النظر عن التفاوت الحاصل على مستوى القوة الاقتراحية بين مختلف الفاعلين السياسيين، فإن ما يثير الانتباه هو غياب المبادرة الاستباقية للتفكير في طبيعة هذا المخطط وأهدافه ووسائل تحقيقه من طرف قطاع التربية الوطنية والتعليم العالي والبحث العلمي والتكوين المهني. والحال أن المخططات التنموية مهما كانت غاياتها فإنها تضع العنصر البشري في مركز اهتماماتها، مما يلزمنا بالتساؤل عن طبيعة الإجراءات التي يعتزم قطاع التربية والتكوين القيام بها بتنسيق مع مختلف القطاعات العمومية والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني والهيئات المنتخبة، وذلك بغية الاضطلاع بدوره المحوري لإرساء نموذج تنموي جديد يستلزم حتما تأهيل العنصر البشري وتحسين جودة ومردودية منظومة التربية والتكوين. 9– يحيل هذا التساؤل لطبيعة المقاربة الإصلاحية التي تم اعتمادها منذ عقود ومازالت منطلقاتها إلى حدود الآن توجه أفق الإصلاح التربوي المستقبلي، ما يميز هذه المقاربة هو مراهنتها على النهوض بمجموع أوراش الإصلاح التربوي باعتبارها تتخذ نفس الأهمية وتتخذ طابعا استعجاليا لا تقبل التأجيل نظريا لكن دون الاستشعار القبلي بقابلية العملية الإصلاحية من التحقق على المستوى العملي. إنه لمن سبيل تحصيل الحاصل التذكير بالمقولات المرجعية التي انتظمت من خلالها الخطابات التربوية الإصلاحية منذ منتصف القرن الماضي، والتي تجسدت عموما عبر الدعوة للتعميم والتعريب والمغربة والتوحيد. فبعد ما يناهز ستة عقود يلاحظ أن تعميم التمدرس إلى حدود بداية القرن الحالي لم يشمل مجموع الأطفال في سن التمدرس، كما أن المكتسبات التي تم تحقيقها على المستوى الكمي في هذا المجال لم يتم تحصينها بضمان جودة التعليم وتطوير المردودية الداخلية للنظام التعليمي، الشيء الذي نتج عنه استفحال ظاهرة الهدر المدرسي وضعف كفاءات المتمدرسين على جميع المستويات. أما فيما يتعلق بالسياسة اللغوية فمازالت إلى حدود اليوم تتأرجح بين خيارات لا يحكمها التخطيط البعيد المدى الذي يراعي أولا وحدة المسار التعليمي عبر مختلف الأسلاك ويأخذ بعين الاعتبار ضرورة التملك الفعلي لمختلف اللغات الفاعلة في مجال الانتاجات المعرفية بمختلف أصنافها على الصعيد الكوني بالإضافة الى إتقان اللغات الوطنية. وعلاقة بمسألة التوحيد واعتبارا للاختلالات التي راكمتها المدرسة العمومية، فلقد تفاقمت حالة الانشطار والتعدد على مستوى المؤسسات التربوية الخصوصية منها، وتلك التابعة لبعثات أجنبية وغيرها من مؤسسات التكوين التي لا تخضع لأي رقابة فعلية من طرف السلطة الحكومية الوصية على هذا القطاع علاوة لحالة الانشطار التي مازالت تميز النظام التعليمي المغربي، منذ عهد الحماية وإلى حدود الآن ذلك أن التعليم العمومي مازال يتوزع بين ثلاثة أصناف تحيل إلى التعليم العصري، والتعليم الأصيل والتعليم العتيق، مع العلم أن هذا الصنف الأخير يخضع لوصاية الأوقاف والشؤون الإسلامية. أما بخصوص المغربة على صعيد العنصر البشري، فإن إملاءات صندوق النقد الدولي خلال الثمانينات من القرن الماضي، ألزمت السلطات العمومية على تبني سياسات التكوين السريع للأطر التربوية والتي تمحورت بالخصوص على الجانب البيداغوجي دون الاهتمام بالتكوين الأساسي، مما ساهم إلى حد كبير في تراجع جودة التعليم على صعيد مجموع الأسلاك التعليمية. وسواء تعلق الأمر بالتعريب أو بالمغربة، فلقد تم اختزال مسألة التعريب في نقل مضامين البرامج التعليمية من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية، علما أن المناهج التعليمية مهما كانت لغة التدريس التي تعتمدها يلزمها أن تتكيف مع خصوصيات المجتمعات وأولوياتها الاجتماعية والثقافية وطبيعة المواصفات التي يجب أن تحدد نوعية إنسان المستقبل وإسهاماته للارتقاء ببلده إلى مصاف البلدان الفاعلة في التاريخ الكوني على جميع المستويات. وفيما يخص المغربة فلقد بدأت تخفت على مر السنين روح الحماس الوطني التي ألهمت نساء ورجال التربية منذ مطلع الاستقلال، كما توالت عوامل شتى ساهمت في تراجع المكانة الاعتبارية التي كان يحظى بها أولئك المربون والمربيات لدى سائر فئات المجتمع المغربي، وهكذا تضاءل الدور التربوي لنساء ورجال التعليم، وتحولت الوظيفة التربوية بكل ما تحمله من قيم سامية، إلى وظيفة مهنية تثابر في أحسن الأحوال على تدبير واقع تعليمي مأزوم وبوسائل وإمكانات محدودة على مستويات التكوين المستمر والتجهيز البيداغوجي، وضعف مؤهلات المتمدرسين علاقة بأصولهم الاجتماعية الهشة وضآلة مكتسباتهم الثقافية. علاوة لما سلف تجدر الإشارة إلى المناظرات التي تعاقبت منذ الستينات من القرن الماضي والتي كانت تتوخى تحقيق توافق وطني بشأن إصلاح منظومة التربية والتكوين، وهي نفس المناظرات التي اقترنت بإصدار توصيات اتصفت بطابعها العام وعدم بلورتها لبدائل بإمكانها الإحاطة الشاملة بالأزمة التربوية بكل تعقيداتها وإيجاد الحلول المناسبة لها. إن مبررات هذا التذكير تحيل إلى مفارقة الخطاب الإصلاحي لصيرورة تطور المنظومة التربوية الذي راكم ولايزال يراكم الاختلالات البنيوية التي تسم تلك المنظومة، والتي تقترن في نفس الآن بفشل السياسات العمومية في مواجهتها، مما نتج عنه فقدان المدرسة العمومية لمكانتها الاعتبارية لدى فئات اجتماعية لم تعد تتمثل المدرسة كمؤسسة تضمن التربية الناجعة وتسهم في تحقيق الارتقاء الاجتماعي والإندماج المهني. إن توالي المخططات الإصلاحية ناذرا ما يرتكز على التقييم الدقيق للإنجازات والاختلالات التي ميزت خطة إصلاحية خلال فترة زمنية محددة، وهذا ما يوحي بأن تناسل وتواتر الخطابات الإصلاحية على مستوى منطوقاتها وغاياتها ووسائل تحقيقها يمثل عملية استرجاعية لنفس هذه المكونات على مستوى المضمون وإن تنوعت أساليب صياغتها على مستوى الشكل منهجيا وتقنيا. لقد أشرنا في مستهل هذه الورقة للثابت الكرونولوجي الذي تتحدد بموجبه المخططات الإصلاحية والتي تتحدد سماتها المشتركة في تأجيل مراحل الإصلاح إلى أجل معلوم. من هذا المنطلق تمحور خطاب الإصلاح منذ مستهل القرن الحالي حول عشرية الإصلاح باعتبارها أولوية وطنية، لكي ينشغل نفس ذلك الخطاب بالطابع الاستعجالي لما اصطلح عليه بالبرنامج الذي كان يروم إعطاء نفس جديد لإصلاح منظومة التربية والتكوين. وبعد توقف لمدة ثلاث سنوات، كانت مبدئيا كافية لاستخلاص الدروس والعبر، ثم الإعلان عن الرؤية الاستراتيجية لتحقيق مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء التي تمتد من سنة 2015 إلى نهاية العشرية الثالثة من القرن الجاري. لقد مرت سبع سنوات على إقرار هذه الرؤية الاستراتيجية وإلى حدود الآن لم تتخذ إجراءات فعلية تمكن عمليا من ترجمة مقتضيات مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء في حين لم ترق السياسات العمومية التربوية لمواكبة النهوض بالأوراش التي عرفها تنزيل البرنامج الاستعجالي رغم الإمكانات المادية الهامة التي رصدت له، والنهوض بالأوراش الكبرى التي بلورها الميثاق الوطني للتربية والتكوين. إن المؤشرات الدالة على تفاقم أزمة النظام التربوي وعلى جميع المستويات لتدعو لإعادة النظر وبشكل شامل في المقاربات الإصلاحية التي تم اعتمادها لحدود الآن، وذلك بالإقرار بأن الإصلاح التربوي لا يمكنه بتاتا أن يتخذ طابعا قطاعيا صرفا بقدر ما يستلزم بلورة مشروع تتدخل في تحديد منطلقاته وأهدافه على المدى القريب والمتوسط مجموع القطاعات الحكومية والهيآت المنتخبة ويحظى بدعم كل الفاعلين السياسيين ومنظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص. وفي هذا السياق يلزم أن يقوم المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي انسجاما مع الدور الدستوري المناط به ليس فقط على المستوى الاستشاري وتقويم المردودية الداخلية والخارجية للمنظومة التربوية بل وكذلك يلزمه إطلاق دينامية تمكن من إسهام الفعاليات الفكرية والعلمية المعترف لها بالكفاءة على الصعيدين الوطني والدولي في بلورة السبل الممكن نهجها على مستوى السياسات العمومية لبلوغ الإصلاح التربوي المنشود. 10- اعتبارا لما نص عليه مشروع القانون – الإطار رقم 17/51 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، والذي ينص على ضرورة: "إرساء مدرسة جديدة مفتوحة أمام الجميع، وتتوخى تأهيل الرأسمال البشري، مستندة إلى ركيزتي المساواة وتكافؤ الفرص من جهة، والجودة للجميع من جهة أخرى، بغية تحقيق الهدف الأسمى المتمثل في الارتقاء بالفرد وتقدم المجتمع". فمن منطلق هذا الاعتبار حدد مشروع القانون الإطار مجموعة من الرافعات تتلخص في تعميم وإلزامية التعليم الأولي والمدرسي مع ضمان جودته ومكافحة الهدر المدرسي والقضاء على الأمية، كما أقر نفس المشروع بضرورة : – تجديد مهن التدريس والتكوين والتدبير، – إعادة تنظيم وهيكلة منظومة التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي وإقامة الجسور بين مكوناتها، – مراجعة المقاربات والمناهج البيداغوجية، – إصلاح التعليم العالي وتشجيع البحث العلمي والتقني والابتكار، – اعتماد التعددية والتناوب اللغوي، – اعتماد نموذج بيداغوجي موجه نحو الذكاء، يطور الحس النقدي وينمي الانفتاح والابتكار ويربي على المواطنة والقيم الكونية. وقد ألزم مشروع القانون – الإطار الحكومة السابقة بوضع جدولة زمنية محددة لإعداد النصوص التشريعية والتنظيمية اللازمة لتطبيقه وعرضها على مسطرة المصادقة، مما سيمكن من إضفاء طابع الإلزام القانوني الذي يجب أن يوجه السياسات العمومية التربوية وفقا لمقتضيات هذا القانون – الإطار نصا وروحا. إن مشروع القانون – الإطار إذ يسعى لتفعيل الرؤية الاستراتيجية في أفق سنة 2030 على مستوى الغايات الكبرى، تربويا وتنظيميا وقيميا، فإنه يمثل في جوهره استعادة للتوجهات الكبرى التي أقرها الميثاق الوطني للتربية والتكوين والتي شكلت في حينها مرجعية أساسية لبلورة البرنامج الاستعجالي ولصياغة الرؤية الاستراتيجية المشار إليها سابقا. هذه الملاحظة لا تهدف بتاتا لإصدار حكم سلبي على صلاحية تلك التوجهات، بقدر ما تروم إثارة الانتباه لعدم إيلاء كامل العناية لتشخيص المعيقات التي حالت دون ترجمتها واقعيا بشكل يمكن من مراكمة الإصلاحات التربوية ويضع المدرسة في صلب العملية التنموية. تترتب عن هذه الملاحظة الأولى ملاحظة ثانية تتعلق بطبيعة المقاربة الشمولية المعتمدة لبلورة مجموع الإجراءات والتوجهات الأساسية الكفيلة بتأهيل كافة مكونات المنظومة التربوية والتكوين القائم على الترابط العضوي والوظيفي بين مختلف الأسلاك التعليمية، فإنها مع ذلك لم تقم بتحديد الأوليات ذات الطابع الاستعجالي التي من شأنها على المستوى الإجرائي أن توفر الشروط الذاتية والموضوعية لإطلاق صيرورة إصلاحية تقوم على أسس متينة تمكن بالأساس من إعادة تكوين وتأهيل الموارد البشرية على المستويين التعليمي والتدبيري، كما تسمح ببلورة خطط استعجالية للدعم التربوي والاجتماعي لفائدة الأطفال واليافعين الذين يعانون من وضعية الهشاشة الاجتماعية والثقافية، وتروم كذلك التأهيل الفعلي للفضاءات المدرسية على مستوى التجهيزات الأساسية والمعدات البيداغوجية وتنشيط الحياة المدرسية باعتماد سياسة القرب على الأصعدة الثقافية والفنية والترفيهية. إن تعاقب المخططات الإصلاحية منذ مطلع الألفية الثانية لم يكن له كبير الأثر على واقع المؤسسة المدرسية، بحيث تواترت التقارير والدراسات الوطنية والدولية والتي تكاد تجمع على ضعف المؤهلات المعرفية والمهنية للمدرسين، وعدم تناسب كفايات المتعلمين مع المتطلبات الدنيا للكفايات المعرفية والثقافية والمهاراتية، علاوة على تفاقم ظاهرة الهدر المدرسي وتراجع قيم الوعي المدني والوازع الأخلاقي. وفيما يتعلق بإعادة تأهيل المؤسسات التعليمية، فقد وسمت هذه العملية العديد من المفارقات بحيث تم على سبيل المثال صرف موارد مادية هامة في مشاريع التجهيزات المعلوماتية في أفق إنشاء فضاءات مدرسية متعددة الوسائط تسمح بتجديد الوسائل التعليمية وخلق ثقافة تفاعلية بين الفاعلين التربويين، والحال أن معظم تلك التجهيزات كانت مفتقرة للعدة البيداغوجية والديداكتيكية، كما لم يتم تعديل البرامج الدراسية للتكيف مع تلك الوسائل في حال توفرها، مما نتج عنه بالضرورة استحالة توظيفها بفعل تقادمها أو عدم صلاحيتها أحيانا. في مقابل هذا الهدر للمال العمومي لم تعطى أدنى أهمية لتجهيز الخزانات المدرسية لتشجيع القراءة ونشر الثقافة بمختلف تعبيراتها داخل الفضاءات المدرسية. لقد تمت الدعوة رسميا ومنذ مدة، لتنسيق الجهود بين مختلف القطاعات الحكومية لبلورة سياسة متكاملة لتلبية حاجيات وتطلعات الشبيبة المغربية على المستويات التربوية والمهنية والثقافية وتأهيلها للانخراط في العملية التنموية، غير أن مسار السياسات العمومية لم يرق بعد لمستوى التخطيط المندمج الذي يسمح بالاستثمار الأمثل للموارد المتوفرة، وإطلاق تعبئة اجتماعية شاملة تعيد الثقة في قيم المواطنة والتضامن والإيمان بوحدة المصير. 11– يتخذ هذا التساؤل الأخير أهمية فائقة باعتباره يحيل إلى مفارقة كبرى شكلت إحدى العوائق التي حالت دون ترجمة الإجماع الوطني الذي تجسد عبر إصدار الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وذلك في إطار بلورة سياسات عمومية مندمجة تسهم في إرساءها مختلف القطاعات الحكومية وكافة الشركاء بغية تحقيق الغايات الإصلاحية الكفيلة بتأهيل المدرسة المغربية. إن الإلقاء بعبء إنجاز مهام الإصلاح التربوي بشكل حصري لقطاع التربية والتكوين بمفرده، مع عدم تمكينه من الوسائل والإمكانات لتحقيق ذلك الإصلاح، قد أفرغ عمليا الإجماع الوطني من مضمونه الحقيقي، وأدى بالضرورة إلى تنصل القطاعات الأخرى من مسؤولياتها رغم إقرار الجميع بأن النهوض بالأوراش الإصلاحية الكبرى في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، لن يستقيم بدون إحلال منظومة التربية والتكوين في صلب العملية التنموية، مع ما يتطلبه ذلك من إصلاحات هيكلية تسمح بمد الجسور بين مختلف القطاعات الإنتاجية والمؤسسات الاجتماعية والثقافية من جهة، ومختلف المسالك التعليمية بجميع مستوياتها من جهة أخرى. إن النموذج التربوي الذي يسعى المغرب لإقراره طبقا لمتطلبات المرحلة التاريخية والتي تتمثل في تحقيق التنمية الشاملة، وتأهيل المغرب لينهض بأدواره الإقليمية والقارية والدولية، وضمان إشعاعه الثقافي والحضاري، إن هذا النموذج يتطلب التحرر من الأنماط التربوية الجاهزة التي ارتبطت بسياقات تاريخيه ومجتمعية مغايرة للسيرورة التي ميزت ماضي وراهن الكيان المغربي. لقد مثلت المرحلة الاستعمارية الفرنسية خلال فترة الحماية لحظة فارقة على المستويين التعليمي والتربوي، والحال أن من يشدهم الحنين إلى النموذج التربوي الفرنسي، يغيب عن أذهانهم عنصران أساسيان، يتمثل العنصر الأول في الوظيفة الأيديولوجية للمدرسة الفرنسية بالمغرب والتي تم السعي من خلالها لاستلاب العقول بعدما تم احتلال الأرض، وما ترتب عن ذلك لاحقا من هيمنة للنخب الفرنكوفونية وتبنيها لقيم السياسة الفرنكوفونية بشكل أدى إلى تفاقم ظواهر الاستلاب الثقافي وانعزال تلك النخب وعجزها عن الإسهام الفعلي في ريادة المجتمع لإنجاز مهام التغيير المجتمعي وبعث الروح الوطنية لمواجهة تحديات التنمية والتقدم الحضاري. أما العنصر الثاني فيتعلق بحصيلة فترة الحماية على مستوى التربية والتكوين بالمغرب والتي تتحدد كميا كالتالي: 1- تكوين الأطر العليا والمتوسطة: – 30 مهندسا، و19 طبيبا، وطبيبان للأسنان، و27 محاميا، و6 صيادلة، و165 موظفا بالإدارة من 5500 موظف سام ومتوسط من جنسية فرنسية. 2- عدد الحاصلين على الشهادة الابتدائية: – 4200 تلميذ 3- عدد الحاصلين على الباكالوريا الأولى: – 180 تلميذ 4- عدد الحاصلين على الباكالوريا الثانية 94 تلميذا. 5- عدد رجال التعليم: – التعليم الابتدائي، حوالي 3800 مغربي ما بين فقيه ومدرس من أصل 7800 مدرس فرنسي. – التعليم الثانوي 47 مغربيا من أصل 198 فرنسيا. 6- الوظائف الإدارية: – عدد المديرين المسلمين من مغاربة وجزائريين 45 من أصل 1276 موظفا إداريا فرنسيا. إن هذا التقييم الكمي لحصيلة مرحلة الحماية على مستوى التربية والتكوين بالمغرب، لا يهدف بتاتا إلى تبخيس جودة التعليم الفرنسي في تلك المرحلة بقدر ما يروم بالخصوص لإثارة الانتباه بأن ذلك النموذج التعليمي كان موجها بالأساس لخدمة المصالح الفرنسية بالمغرب، وذلك عبر محدودية العرض التربوي الهادف لتكوين أقلية ضئيلة من الأطر المغربية لخدمة إدارة الحماية الفرنسية. إن ذلك النموذج كرس كذلك حالة الانفصام بين التعليم العصري والتعليم الأصيل والتعليم العتيق، بحجة الحفاظ على الخصوصية المغربية مما ساهم، إضافة لعوامل أخرى، في مراكمة المعيقات الثقافية التي مازالت تمثل منبعا تنهل منه مختلف أنواع الجدال العقيم نظريا وعمليا علاقة بما يصطلح عليه بالأصالة والمعاصرة. إن الدعوة للتجديد الثقافي بقدر ما تتوخى توفير إمكانات ووسائل تحقيق نهضة ثقافية شاملة تسهم بشكل فاعل في عملية التغيير الاجتماعي، فإنها في نفس الآن دعوة لتجديد ثقافة المجتمع لكي يصبح تدبير الشأن العام يحظى باهتمامات سائر الفئات الاجتماعية باعتبارها معنية بالآثار السلبية أو الإيجابية لتبعات ونتائج ذلك التدبير. إن تجديد الوعي الثقافي هو ما يسمح في نفس الآن من تنامي القوة الاقتراحية والنجاعة النقدية للخطاب الثقافي كما يمكن من تبلور الوعي المدني لكي ينهض بوظائفه الاجتماعية والرقابية. فكلما انفك الفاعل الثقافي من غربته وانخرط الفاعل المدني في الدفاع عن الحقوق والقيام بالواجبات، بإمكانهما حتما أن يسهما في تخليق الممارسة السياسية التي كلما ابتعدت عن ضوابطها الأخلاقية حالت ضرورة دون مساهمة مكونات المجتمع في تدبير العيش المشترك والارتقاء به دوما لما هو أحسن. إن مجموع التساؤلات السابقة تتخذ طابعا منهجيا خاصا يروم مساءلة منظومة التربية والتكوين على المستويات الفلسفية والمعرفية والبيداغوجية والقيمية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى إن تلك التساؤلات تهدف إلى إثارة الانتباه للأهمية الخاصة التي تتعلق بتأهيل العنصر البشري، واعتماد دراسات ميدانية متخصصة في أفق الكشف الدقيق عن الاختلالات، والتحديد الموضوعي للخطط الإصلاحية وللوسائل والإمكانات المادية التي يلزم توفيرها لتنزيل تلك الخطط وفقا للحاجيات الفعلية للمؤسسة التربوية. إن هذا المنحى المنهجي لا يعني بتاتا أن النهوض بالمدرسة الوطنية وتأهيل الجامعة المغربية، لا يمثلان كما سبقت الإشارة لذلك، مسألة قطاعية بالإمكان إيجاد الحلول الملائمة لها، كما يتيسر ذلك بالنسبة لقطاعات أخرى. إن المسألة التربوية، على العكس من ذلك، تندرج في صلب الإشكالية المجتمعية وتستلزم تظافر مختلف المكونات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية لمقاربة الشأن التربوي. إن مشروعية مثل هذه المقاربة تتحدد انطلاقا من اعتبار منظومة التربية والتكوين تمثل رافعة أساسية لتطوير منظومة الاقتصاد والارتقاء بالخدمات الاجتماعية وتحقيق النهضة الثقافية والعلمية، وذلك تبعا لمتطلبات مجتمع المعرفة والتواصل، وسعيا لتملك مختلف الأنساق المعرفية الحديثة والمعاصرة، والإسهام في الإنتاج المعرفي الكوني. إن هذه المقاربة الشمولية للمسألة التربوية تتأسس كذلك انطلاقا من الوعي بالدور الحاسم للتربية في إرساء دعائم وقيم العيش المشترك وفقا لروح العصر، وفي المساهمة في انبثاق الهوية الفردية والجماعية الواعية بتنوع روافدها والمتشبعة بقيم الحداثة والحرية، باعتبارها أساس الدولة الديمقراطية، والضامنة لسيادة الحق والقانون في إطار مجتمع متضامن محب للسلم ورافض لكل أشكال العنف والكراهية. عبد الله البلغيتي العلوي مدير مجلة الأزمنة الحديثة