لا يُقيم وليد رشيد القيسي في عالم ضمن حدود معيّنة. فهو يتنصّل من كل الأشكال ليخلق عالمه الفني، ويبني أشكالاً مرئيّة ناطقة بعيدًا عن أيّ تعديل شكلي. تمتاز أعماله بطاقة خلاّقة من الإبداع. إنها مغامرة بناء أشكال ومشاهد مختلفة بعيدة عن أيّ نزعة تصويريّة. فهو يرتكز على المعرفة والخبرة الفنيّة ليبنيّ أشكالاً مرئيّة ناطقة. قال لي بخصوص هذه الأشكال في حوار كنتُ قد أجريته معه "هي مزيجٌ من المواد والألوان فاتخذت أشكالاً مرئية، ومجسدة مثل الكلمات، ترى، وتقرأ، وتسمع، من الرمادي إلى الأبيض مع الحبر إلى الطين لخلق أفق واسع أحاوره متأملاً بلغة متجانسة، والذهاب بها إلى فضاءات التي تعطي طاقة عالية وسؤال في الطاقة نفسها، مما يدعوك للتأويل ومحاولة لبناء العمل." وهو يحقّق نوعاً من الدّهشة الجماليّة في أعماله الفنيّة. وفي معرضه اللاتعيُّن قد نتساءل كيف صنع القيسي هذا "اللاتعيُّن" (Indetermination) الذي يقودنا إلى الإبحار في مناطق لانهائيّة للكشف عن عوالم مجهولة يحتار الرائي في إدراكها؟ فأعمال القيسي لا تأتي اعتباطيّة. إنها سفرٌ في الزمان والمكان، وسفرٌ في الغُربة. وسفرٌ في الداخل والخارج، وفي الجغرافيات العربيّة وغير العربيّة. وهي كذلك سفرٌ في الحياة وما تسفر عنه من شقوق وندوب.. إنه مدار الفن وألقه وحضوره في هذه الأعمال التي هي كائنات مرئيّة. وقد أيقظ فيها السفر أشياء أشعلت فيه طرق جديدة في التفكير والأمزجة والفضاءات كلها تصبّ في ذات الهمّ (همّ الفن) على حدّ قوله. القيسي من ألْمع الفنّانين الذين يسعوْن إلى حداثة الفنّ المعاصر. فهو فنانٌ عاشقٌ للحريّة، ما مكّنه من خلق عوالم جديدة تجعل من اللاتعيُّن عنوانًا لآفاقها الحاضرة والمستقبليّة. "فالعمل الفني حامل تعبيري له ضروراته وأدواته وعين مبدعه هي التي تجعله سحرًا للناظر. العين تراقب سلوك الأشياء والأصابع تخلق ما هو غير مألوف. لأن المرئيات وما يحيط بها في حالة خلق مشهد في فضائه تؤدي إلى تفاعلات وجدانية أثناء عملية الخلق." (من كلمة وليد رشيد القيسي لمعرض اللاتعيُّن). ويتساءل القيسي بعد أن اقتنع إلى أن جوهر الفن ينبع من لحظة بنائه: هل يسعى الفن إلى شكل التعبير أم لاشكلية التعبير سواء كان التعبير محددًا أو تجريديًا…؟ لعلّها مغامرة اللاتعيُّن في بناء الأشياء والمعاني والدلالات .. والرّائي لأعماله الفنيّة ينتابه الكثير من الغموض والالتباس بعد أن أصبحت المادة عنده فكرة ومعنى. فتعددت خاماته وأشكاله في اللوحات الزيتيّة كما في مجسّماته، بعد أن جعل من السّواد والخراب، الذي يغمر عالمنا العربي، فنًّا قائمًا بذاته برؤى ومفاهيم جديدة ومختلفة متجاوزة للمألوف. وقد حوّله إلى الفن الراقي المعاصر. يصعب الإصغاء إلى المنجزات الفنيّة لوليد القيسي الذي جرّب كل الفنون، سواء في لوحاته أو أعمال السيراميك. ولعلّ ما يثيرني في عوالم القيسي هو رؤيته المغايرة والمختلفة للأشياء وللعالم. دون أن ننسى أنه شاعرٌ مبدع، كما أنه شاعرٌ في الرسم ورسّامٌ في الشعر. فما يحرك أعماله هو سحر الشعر. فبَيْن كينونة الشعر وكينونة الفن تولد الصّوَر من عوالم يصنع فيها أشياءه من اللاشيء. وقد نتساءل كيف ندرك هذا اللاشيء في أعمال القيسي؟ ما يعني أن كل شيء في أعماله يستدعي بُعدَ النظر والتفكير العميق في محاولة الكشف عن اللامرئي. سألتُه مرّة عمّا أضافته شعريّة الشعر إلى شعريّة الفن، فقال: "كان اهتمامي بالفن باعتباره الهمّ الأول بعد أن كان اهتمامي بالشعر والأدب. فالخلق الفني مسار من خلال الشعر محاولاً قراءة وكتابة الصور الشعرية، لأنها تحمل معاني تساعدني في عملية الخلق، لأن الشعر فيه من المخيلة والفن، وفيه من اللامرئي كي يحفز المعنى عبر السؤال الوجودي." فهو يذهب إلى أقصى درجات التجريد. وهو فنانٌ مثقّف مغامر في كل اختياراته الجديدة والمُبتكَرة، بعد أن جعل من الخراب والدّمار إحدى أشكال التغيُّر من خلال المادة. فالكثير من مجسّماته يهتم فيها بالأشكال العضويّة التي تتخذ تشكّلات جديدة حيّة تعكس عمق تجربته وخبرته الإبداعيّة.