توفي مؤخرا الكاتب المغربي محمد البغوري وهو في ريعان الشباب والعطاء الإبداعي، وذلك بعد معاناة من المرض العضال، بهذه المناسبة الأليمة، ننشر نموذجا من نصوصه الإبداعية، كان قد خص به منبرنا الإعلامي، تكريما لروحه، تغمده الله بواسع رحمته. ********* سمعت بنبأ قدومه قبل أن أتعرف إليه شخصيا عن طريق صديق عزيز، ألفت فيه متابعة لأخبار رجال ونساء التعليم، وخصوصا الحركة الانتقالية الخاصة بهم.. هذا الصديق هو الذي أخبرني باسم المدير الجديد، مدير سيأتي من مدينة الحسيمة، بعد أن قضى سنوات أستاذا، وبعدها ناظرا..سرني النبأ، واستبشرت خيرا ويمنا. انقضت العطلة الصيفية بحرارتها، وزحامها من الناس، والوافدين على مدينة طنجة.. حل الموسم الدراسي الجديد. وكالعادة والمرات المتتالية، قصدت الثانوية لتوقيع محضر الدخول، وربط الصلة مع الزملاء من الأساتذة والأستاذات.. حميت إيقاعات الحوارات، وزند لغو الأحاديث بين هذا وذاك، وبين هذه وتلك، أصبحت سوق الكلام محتدمة ورائجة، وتنوعت معروضاته.. تكرر تناول خبر المدير الجديد،واشرأبت العقول والقلوب لمعرفته، والتمسح بأعتابه.. انفضت الجموع..غابت أيام، وجاءت أخرى، والكل يجتهد في استرجاع عافيته وشهوته لاستقبال العام الدراسي الجديد بأعبائه وهمومه، بلغطه وغلوائه، بعسره ويسره. ذات يوم رمقت المدير، صافحته كما هو يصافحني، دار بين الاثنين حوار أخف من البرق في وميضه، أطلعته على ربع صفحة من حالتي المدنية، يعلوها اسمي ومادة تخصصي.. هش ورحب، وأمطرني بعبارة أشعرتني بالثلج والبرد، أعادت لنفسي حبورا ونشوة، وطارت بي لعلياء من الثقة والفخر.قال: «أنت الأستاذ الذي أوصيت بالتركيز عليه، وإيلائه الأهمية المستحقة».. عبارة حسبتها صولجانا بريقه عزيز الوجود. أو وثيقة منتفخة تطير بها مشاعري بعيدا، مسرعة لوضعها في صندوق متعي ومتاعي المنتقى والنفيس..أو قل: شهادة أفتخر بها، وعنوان أطرب سمعي، وحرك عزائمي وهممي.. وبذاك واصلت سيري في دروب هذا الرجل المضمخ بأسامي نباتات وأعشاب الريف، والمرتوي بمياه أنهار وينابيع جغرافية أرض الريف المنفلة من قيود الخرس، لتدلي بأدلائها في أعماق من المجد والبطولة والتدوين. كل شغله البحث عن موطن قدم يريحه من بلبال القيل والقال.عاشق لمكتبه،لا يكاد يبارحه، تعلم من الدرس التاريخي أن يعكف على النبش في مدوناته، عساه أن يظفر بسر من الأسرار، أو مصادفة خبيئة. المهم أن السيد المدير ملتصق بالمكتب، ومعه غابت أسرار الأسئلة والأجوبة. في حين كثرت الآراء وتعددت الأسئلة عن شخصه بين ممجد ومناصر.. وكثير من الحانقين والناقمين وحتى المتضايقين؟ وتلك سنة الأولين والآخرين مع المدير. أطالع سيرة الرجل، وأطيل الإنصات لجانب من حركاته، وأتأمل عباراته التي يطول غيابها. وعندما تسمعها تأتيك موجزة وفي شكل تعليق ساخر أو ناقم، مباشر أو برمز وإيماءة. مدير مسكون بحالات من التدفق والصعب. يحمل معه الكثير من الماضي ويحرس على الآتي، أثارني في المدير شخصيته المحايثة للصمت والتفرس الباطني، والإمعان في الأشخاص كما الأشياء. أسلوب لن تحظى بفهم حروفه.. يلقى الكل بابتسامة يتأخر تسريحها وتسريعها.. ابتسامة تخبرك بأن المدير لا يثق في الكل، في الوقت نفسه يعامل الجميع على قدم وساق. نهج وقدر على كل من اختار حرفة المدير أن ينهجه. يجتهد هذا المخلوق ما أمكنه لإرضاء كل موظفيه، وإن كان في قرارة نفسه يعي أن إرضاء الناس غاية لا تدرك. فلسفة إدارية تحتم على المدير أن يكتشف أصولها ومبادئها، ويرعى سياستها ومناهجها. إن تحقق له ذلك. واصل سيره لا يلوي على شيء، ولا يتوجس من الشر والأشرار، ولا يحبس أنفاسه في أجواء فاض منها القلق وطبعتها الفتن. أرض المدير مزروعة ألغاما. محاطة بالآذان والعيون، أو معرضة للألسنة الطويلة والقصيرة والبين بين. والمدير عين أهدابها لا تنطوي، ولا هي ضحية الذبول والغفلة. عليه أن يكون واقفا وفاعلا في ساحات أرضه التي تعتصره لبذرها ببذور الصمود والتألق والانتصار. فمن وجد في نفسه شيئا من أوصاف وخصال المدير أصبح مديرا بثقل الوصية والإقرار.