منذ أن صدرت الطبعة الأولى من كتاب المناضل نايف حواتمة، وأصبح الكتاب في مساحة التداول، فإنه تجاوز حد الانتماء إلى المؤلف وبات ملكاً للقراءة والقراء. ومع كل قراءة جديدة حياة جديدة للمؤلف، ومع كل قراءة تستلهم برنامجاً للعمل هي أسمى آيات التقدير لهذا الجهد، وهي الترجمة الحقيقية والمطلوبة كي تضيء الطريق الموصلة إلى اختبار النظرية بالتطبيق. وبهذا تكون الجبهة الديمقراطية قد ساهمت في تجديد الفكر السياسي بشكل عام واليساري خاصة، وهو في نفس الوقت كسر لحالة الجمود والانطلاق بقوة الأمل، وهو زاد المناضلين الذين يسعون دائماً إلى قيم أفضل ويؤسسون لحياة ثقافية أكثر ازدهاراً. وكلّما تحولت الأفكار إلى قوة مادية تحتاج دائماً إلى إذكاء روح النقد، وشحذ همم المراجعة والتقييم، حيث أن الكتابة المشتقة من الحياة لا بد وأن يحملها الأحياء، ويعود بها إلى الحياة، إلى التطبيق، لدفع عجلة التطور إلى الأمام. ومما لا شك فيه أن الرحلة مع الفكر اليساري ممتعة، لأنها تحرك الراكد، وتفجر المسلّمات السائدة، فتدفع بذلك طاقات البحث، والدهشة التي تتوالد منها التساؤلات كي نصل إلى الحلول ونتجاوز العقبات، ولكن الرحلة مع المناضل نايف حواتمة لها نكهة خاصة، كونها تتسم بالحيوية والحياة المنبعثة في كتابه الجديد، وفي عطائه الفكري والسياسي، ونضاله الدؤوب في صفوف الجبهة الديمقراطية، وفي صفوف الشعب الفلسطيني، بل على مساحة العمل القومي والأممي، حتى تجد نفسك في بوتقة علم السياسة وسياسة العلم القائمة على خدمة البشرية والارتقاء بالإنسان عبر بوصلة النقد لما هو قائم ومكتمل من الأحداث، حتى أصبح في حوزة القراءة والرؤية، بينما التوقعات تحتاج جهوداً مضاعفة خاصة وأن إرهاصات الصراع الاجتماعي في حركة دؤوبة تتسم بالتعرجات والانقطاعات. ولهذا يتم استدعاء الحركات الشعبية وتعبئة الشعوب كي تتجمهر الفكرة وتتوحد الطاقات والأهداف، فيبدأ فعل الإرادة الإنسانية بالتدخل في مجرى الأحداث والتاريخ، الذي يفلتر المواقف والرؤى، فيكشف عن وجه الحقيقة التي تعري كل المواقف الزائفة للمفكرين والأحزاب والمثقفين والمبدعين، وفي المقدمة الأنظمة التي تخوف شعوبها، وتفرض منطق الراعي والرعية، بدلاً من المواطنة المتساوية. وبهذا الكتاب يطل علينا أبو خالد إطلالته الجديدة، وهي على صلة بإطلالته السابقة «الانتفاضة الاستعصاء فلسطين إلى أين ؟! ...»، حيث ناضل ولا يزال يناضل من أجل كسر حالة الاستعصاء، وها هو اليوم يناضل من أجل كسر حالة الجمود والخروج بنا من الزمن الدائري، الذي يعيد إنتاج نفس السلع الفاسدة ونفس الأخطاء، بل و»الإبداع» في إضاعة الفرص التي تطيل أمد المعاناة بدلاً من اختصارها. وما يميّز المؤلف رؤيته الجدلية التي لا تقف عند حالة السكون، بل هو يتابع بشغف مسارات الحركة، ويذهب بنا بعيداً ويبحر باتجاه الحركات الشعبية، ويصغي إلى نبض الشعوب صانعة التاريخ، والتواقة إلى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية بصفتها حجر الزاوية لمسار التقدم إلى الأمام، وبهذا يقف على النقيض بل والضدّ من كل النظريات التي أثبتت الحياة إفلاسها، على الرغم من الدعم والرعاية التي حظيت بها من المحافظين الجدد، وهي تلاشت وماتت لأنها تماهت في اللحظة وسقطت في الراهن، فأصيب بالعمى حينما حاولت لَيّ عنق الحقيقة، وفشلت في التغطية «على الأزمة في الرأسمالية»، التي كشفت عقم وتهافت القوانين الرأسمالية والليبرالية المتوحشة، فأجبرتها وقائع الحياة والقوانين الاقتصادية والاجتماعية على التخلي عن قوانينها المدمّرة، الداعية إلى «الأسواق تضبط نفسها»، والعودة إلى تدخل الدولة تحت مظلة من المفاهيم، ولكن الجوهر بقي واحداً ... وهذا درس في علم السياسة التي تتوخى الدقة في التعبير، وهي سمة من سمات القراءة الجادة الأزمة في الرأسمالية التي تتجنب الانزلاق والركض خلف الشعارات، التي لا تغني ولا تسمن من جوع، بل تقفز بالجماهير إلى الهاوية، بينما منارة الطريق إلى اليسار هي الإيمان الذي لا يتزعزع بقدرة الشعوب على الاحتشاد والتنظيم في إطار مهماتها التاريخية، وهذا هو المفتاح لبلورة البديل الديمقراطي التقدمي، حامل راية العولمة الشعبية، بديلاً للعولمة المتوحشة، يتجلى في المقدمات والخطى الأولى على طريق عولمة «ديمقراطية الاشتراكية، واشتراكية الديمقراطية»، وهي بمثابة واحدة من الاستخلاصات النقدية لتجارب الماضي، وتجاوزها نحو تعدد الكيانات الاشتراكية، على قاعدة التعددية في الاتجاه الديمقراطي. وهذا هو الذي يصون الصلات والوشائج الجدلية بين الديمقراطية والاشتراكية، وهو الذي يحدد المعايير والمنهج اليساري الذي يتحلى بروح النقد نقد برامج العمل حتى لا تضيع البوصلة وندخل في مسار الخطوات التائهة بين التكتيك والإستراتيجية، فتسود العدمية والقدرية والشعبوية، وبما أن اليسار يشتق رؤيته من الواقع الملموس ويعمل به، فإنه يؤكد على حقيقة التطور المتفاوت بين المجتمعات العربية، فمن غير المنطقي وخارج نطاق المعقول التعاطي مع اليسار العربي بالجملة، وكأنه كتلة واحدة؛ خاصة وأن البعض افتقر إلى عامل النشاط العام، وأضاع الطريق حتى وصل إلى تبرير التهاون والتعاون مع السياسات الأمريكية على حساب الأوطان والشعوب، ولم يقرؤوا الحصاد المرّ لتحالفات أنظمة اليمين وأحزابها مع هذه السياسات، بل زادوا «الطين بلّة» حينما حاولوا تسويق هذه السياسات بتبريرات سفسطائية، بعيدة كل البعد عن أهداف اليسار الوطني الديمقراطي، الذي لا يحتمل أي مساومات وشعوذات، طالما هو يعتمد العدالة الاجتماعية المرتبطة بوشائج لا تنفصم عراها بالتقدم. وهذا يستدعي تحقيق السيادة الوطنية والقومية والتحرر من التبعية، التي لن تأتي إلا من خلال تحقيق التنمية المستدامة، بكل أبعادها ومتطلباتها، تحرير العقل الذي يفضي إلى الانفتاح ويقود إلى الإصلاح عبر الحلول الديمقراطية، للمشكلات المزمنة مستدعياً التطور الصناعي التكنولوجي في إطار المواطنة المتساوية بكل مدلولاتها، التي تفتح على فضاءات الحرية الفكرية والثقافية والسياسية والنقابية، وفي مقدمتها حرية التعبير، وجميعها عناصر ومهمات النهضة التي تمت محاربتها من الاستعمار القديم والجديد الذي تحالفت معه القوى الطبقية الإقطاعية والكمبرادورية، فجرى توظيف واستخدام الثقافة السائدة وكل إفرازاتها القدرية، حتى تم احتضان طغيان النقل على العقل كي يكون في خدمة الهيمنة الإمبريالية ومشاريع العولمة الأمريكية والتوسعية الإسرائيلية الصهيونية، التي عملت على تفكيك مشاريع التطور العربية المحلية والإقليمية، وهكذا بقي الزمن العربي الدائري يطحن مشاريع التقدم إلى الأمام، وتحرير العقل يفتح الأبواب نحو العلم والمعرفة، وهو السلاح الحقيقي لكسر الزمن الدائري، حتى نتمكن من إعادة النظر في سياسة ومنهج بناء الدولة الحديثة. وبناءً على ما تقدم؛ فإن الرحلة مع أبو النوف تقودنا إلى معرفة اليسار الذي لا يؤمن بالإقصاء والانفراد، لأنه يدرك طبيعة المهام الجسيمة التي تطرحها علينا الحياة العربية في زمن العولمة، وهي بحاجة إلى كل الجهود وكل التيارات السياسية والفكرية والشرائح الاجتماعية، وناظمها الوحيد الديمقراطية والشراكة الفعلية تؤسس لها قوانين التمثيل النسبي والقواسم المشتركة التي يمكن إبداعها من خلال العمل الجبهوي العريض. ومن هذا المنطلق فإن الكتاب موجه لكل الاتجاهات «يسارية كانت أم ليبرالية»، «قومية كانت أم دينية»، خاصة وأنه يتعرض بالنقد لها جميعاً ويدعوها لممارسة النقد والمراجعة والإصلاح، بل أنه يحملها المسؤولية، وفي المقدمة طبعاً أنظمة الحكم والنخب السياسية الحاكمة التي تتحمل مسؤوليات تاريخية. بل إن النقد والتقييم يطال الإعلام بكل تفرعاته، وكذلك الأمر مع المبدعين والمثقفين والمفكرين، يستحثهم على استعادة دورهم في تنوير الطبقات الشعبية ودمقرطة الحياة على طريق تحديثها. ومع ذلك يبقى الكتاب متعدد الأبعاد والرؤى، فلا غنى عن قراءته، ومن المفيد والمثمر أن يتم التعاطي الجاد مع النص من جهات ذات اختصاص، كي تساهم في تعميق الحوار والنقد الذي يطوّر ويجدد الفكر اليساري، حتى يكون بمقدوره الاطلاع بدوره الحقيقي في تقديم الإجابات، وإبداع المقاربات والحلول للأزمات، والتغلب على الصعاب والعقبات التي تقف حجر عثرة في طريق التقدم والازدهار لشعوبنا، فالطريق شاق وطويل، والمستقبل ما زال وسيبقى أمام البشرية ... أمامنا لا خلفنا.