نبه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الأحد إلى أن فشل محادثات التجارة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا يزال السيناريو "الأكثر ترجيحا" رغم قرار المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي مواصلة محادثاتهما، وهو ما يمثل المحذور الذي ينبه إليه الكل حتى مناصروه في نفس الحزب. وحثت الحكومة البريطانية المتاجر الكبرى على تخزين المواد الغذائية وطلبت من شركات توريد الأدوية والأجهزة الطبية واللقاحات تخزين ما يعادل استهلاك ستة أسابيع في مواقع آمنة في بريطانيا، وهو إجراء احترازي شكك مراقبون في نجاعته في مواجهة فوضى طويلة الأمد. ورغم تحذيرات الاقتصاديين المخيفة -وحتى تحذيرات عدد من نواب المعسكر المحافظ الذي يقود عملية الانفصال المثيرة للجدل- يواصل رئيس الوزراء البريطاني مغامرته متجاهلا اتساع رقعة الرافضين للطلاق الفوضوي الذي يؤسس لدخول اقتصاد المملكة المتحدة مرحلة ركود، رغم ترويج فكرة أن اتفاقيات التجارة الحرة التي أبرمتها لندن مع عدد من الدول مؤخرا ستكون بديلا " هائلا" عن خسائر بريكست دون اتفاق المحتملة. وأضاف جونسون أنه بالرغم من أن الخروج دون اتفاق ليس الخيار الذي تفضله لندن، إلا "أننا قمنا بتحضيرات مكثفة" لهذا الاحتمال، مكرراً اقتناعه بأن المملكة -مع اتفاق أو دونه – "مهما حصل، ستكون بخير". لكن هذا التفاؤل يفنده الاقتصاديون ويشجبه البريطانيون الذين يستعدون لدفع فاتورة مولود يكرهه الجميع (بريكست). ولئن ارتفعت شعبية جونسون في صفوف المحافظين بعد أن تعهد بحسم ملف بريكست -وهو ما أوصله إلى سدة الحكم وخلافة تيريزا ماي على رأس المحافظين- فإن بريكست دون اتفاق قد ينهي المستقبل السياسي لأحد أبرز قادة الانفصال ويجر حزب المحافظين إلى خيبات انتخابية، بعد أن انكشف للمواطنين الذين صوتوا بحماسة لصالح استفتاء الانفصال أنهم كانوا مخطئين وانجرّوا وراء شعارات العظمة ولم يعد بمقدورهم الآن التراجع أو فعل أي شيء يوقف جنوح البلاد باتجاه الفوضى التي ستطال حياتهم اليومية لأجل طويل لن تغطيه الاستعدادات الحكومية بتخزين الغذاء والدواء. ورغم أن أغلب البريطانيين الآن باتوا على اقتناع بأن بريكست كان خيارا سيئا، إلا أن بريكست دون اتفاق سيضاعف معاناتهم ويؤثر على وضعياتهم المعيشية على مختلف مستوياتها. فكيف ذلك؟ منذ الساعة الأولى من إقرار بريكست دون اتفاق سيتكبد البريطانيون أضرار اختلال السوق وتفقد لندن عضوية المؤسسات الأوروبية، وتنتهي كافة الميزات التي اكتسبتها بريطانيا كونها عضوًا في الاتحاد الأوربي لتجد نفسها فجأة في علاقة تجارية مع الجانب الأوروبي تحكمها قواعد منظمة التجارة العالمية. وهذه مسألة مؤثرة، لأن الاتحاد الأوروبي هو أكبر شريك تجاري للمملكة المتحدة، حيث تصدر بريطانيا للاتحاد ما يعادل نصف صادراتها الإجمالية، ويمثل الاتحاد الطرف المقابل في حوالي نصف المعاملات التجارية مع المملكة المتحدة في مجال الخدمات. وبعد الخروج، ستزداد الحواجز أمام تجارة السلع والخدمات، بينما ستتراجع حرية حركة العمالة. وستخضع البضائع البريطانية المصدّرة إلى الاتحاد الأوروبي للفحوص والرسوم الجمركية التي تخضع لها بضائع أية دولة أجنبية من خارج الاتحاد، وهو ما ينطبق أيضًا على الواردات الأوروبية إلى بريطانيا. وسترتفع أسعار المواد الأساسية مع انهيار قيمة الجنيه الإسترليني كما يُتوقع، وسيرتفع مستوى المعيشة، مع فقدان الكثير من الأفراد وظائفهم تأثرًا بتضرر أرباح المصنعين، خاصة مع بروز الفكرة التقليدية التي يتبناها المصنعون وأصحاب رؤوس الأموال لمواجهة التهديدات المالية، والمتمثلة في تسريح العمال. كما سيخسر المواطنون البريطانيون التأمينات الأوروبية التي كانت تمنح لهم، سواء على الصحة أو على الممتلكات. وبالنسبة إلى المواطنين الأوروبيين في بريطانيا، أو البريطانيين في أوروبا، سيتحتم عليهم الدخول في عناء تسوية الوضعية القانونية وطلب إقامة دائمة أو مؤقتة. وسيفقد البريطانيون العديد من ميزات حرية التنقل، وسيحتاجون إلى تأشيرة دخول إلى الاتحاد الأوروبي، كما سيضطرون إلى استخراج رخصة السياقة الدولية ليستطيعوا القيادة في أوروبا. وسيُفرض نظام التسعيرة العالمي على الاتصالات. وسيكون الخروج من الاتحاد الأوروبي إيذانًا بفترة ممتدة من البطالة الهيكلية المرتفعة، ما يتسبب في فقدان بعض المكاسب الكبيرة المحققة في مجال التوظيف خلال السنوات القليلة الماضية. ولئن كانت بريطانيا جزيرة فإنها ليست معزولة عن الجسد الأوروبي بريًا، بسبب الحدود المشتركة مع أيرلندا، عضو الاتحاد الأوروبي، ما يمثل على ما يبدو مشكلة لأيرلندا الشمالية التابعة لبريطانيا قد لا تحلها إلا المفاوضات والاتفاقات. ويهدد بريكست دون اتفاق الوضع في أيرلندا الشمالية؛ فالوضع الحالي يسمح لمواطني أيرلندا الشمالية بحرية تنقل الأفراد والبضائع بين بريطانيا والجمهورية الأيرلندية. وحذر تقرير رسمي من فقدان نحو 40 ألف شخص وظائفهم في أيرلندا الشمالية، جراء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق. وأوضح التقرير، الصادر عن وزارة الاقتصاد في أيرلندا الشمالية، أن قطاعات واسعة ستتضرر جراء فرض رسوم جمركية على المعاملات التجارية مع الاتحاد الأوروبي، لاسيما في مجال النقل والزراعة. وتابع أن بريكست دون اتفاق من شأنه التأثير سلبًا على صادرات أيرلندا الشمالية إلى جمهورية أيرلندا بواقع 11 إلى 19 في المئة. ونقل التقرير عن مدير اتحاد التجزئة في أيرلندا الشمالية، أودهان كونولي، أن الخروج من الاتحاد دون اتفاق هو أكبر تهديد لاقتصاد البلاد. ويحتم عدم التوصل إلى اتفاق أن تحكم قواعد منظمة التجارة العالمية التبادل التجاري بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي مع ما يحمله ذلك من فرض رسوم جمركية أو نظام حصص ما قد يشكل صدمة جديدة للاقتصاد الذي يعاني أصلا تبعات كوفيد – 19. وسيؤثر ذلك سلبًا على المنتجات البريطانية في أوروبا، والتي ستفرض عليها ضرائب وتحدد لها أسعار، ما سيضر بأرباح المصنّع البريطاني والاقتصاد ككل. ويخشى المصنعون البريطانيون هذا السيناريو كون منتجاتهم أقل تنافسية من المنتجات الأوروبية ككل، ويتخوفون من أن يصبحوا غير قادرين على الولوج إلى السوق الأوروبية المشتركة. ومع أن بريطانيا تعهدت بعدم فرض ضرائب على 87 في المئة من الواردات الأوروبية في حال بريكست دون اتفاق، فإن هذا لا يعني أن أوروبا ستفعل ذلك. وستؤدي الحواجز الجمركية إلى انخفاض الهجرة، وتراجُع تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر لكل قطاع اقتصادي في المملكة المتحدة. وسيطال التأثير الأكبرُ القطاعات ذات العلاقات التجارية الأقوى مع الاتحاد الأوروبي، أو الزيادات في التكاليف الجمركية أو غير الجمركية، أو الحساسية تجاه تغيرات الأسعار. وتأخر حركة البضائع بين الجانبين سينعكس سلبًا على الصناعات المعتمدة على استيراد قطع مصنعة في دول الاتحاد الأوروبي، ويرفع من تكلفة استيرادها أيضًا، ما قد يدفع المصنعين إلى نقل المصانع خارج بريطانيا. وحذر بنك إنجلترا المركزي من أن سيناريو الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق هو أسوأ من الأزمة المالية التي حدثت عام 2008، حيث قدرت مؤسسات مالية حجم الأصول التي تم تحويلها من لندن إلى عواصم أوروبية أخرى بنحو 10 في المئة (أي ما يوازي تريليون دولار) من إجمالي أصول القطاع المصرفي البريطاني.