التغيير يحتمل وجهين تسائل ثورات الشباب العربي اليوم العالم في بعده الحضاري وفي حكامته السياسية والمالية وفي عمق منظومته الديمقراطية وكونية حقوقها، وبما يدعوه في مجرى الألفية الثالثة إلى التفاعل مع جيل الألفية الجديدة، جيل الانترنيت الذي يطالب بأجوبة سريعة لأسئلة متجددة في مجرى عولمة الاقتصاد ومجتمع المعرفة والإعلام. ففي غياب حلول شاملة ودائمة للمعضلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تتردى فيها المنطقة العربية منذ عقود والتي صارت تتجاوز في حديها ما هو اقتصاد ومال واجتماع إلى ما هو حريات وحقوق وعدالة اجتماعية، تثور هذه الثورات اليوم في وجه رموز أنظمة الاستبداد واقتصاد الريع والمحميات العائلية، في منطقة حكموا أوطانها لعقود بالحديد والنار وطاردوا أحلام شعوبها واستقووا بنزعات التطرف الديني والنعرات الطائفية والقبلية لاجثتاث قواها الحاضنة لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، وفي منطقة حولها الغرب إلى محطات وقود لمحركات دورته الاقتصادية وحدود متوترة لجني أرباح فلكية لصناعاته الحربية وأسواق لإغراقها بمنتوجات شركاته متعددة الجنسيات. بيد أن رهان النظام العربي على تأبيد هذا الوضع وتوارثه كان خاسرا حد سقوطه المدوي تحت شعارات الشباب الخارج من رحم المسارات التاريخية لقوى اليسار والديمقراطية والحداثة، بعد طول إجهاض ومخاض عسير، وبعد طول دربة على استخدام سلاح التكنولوجيا الحديثة في بناء المواقع داخل المنتديات الاجتماعية وتحصينها، وفي تشكيل فرق هاركرز لشن هجمات على المواقع المعادية لإرادة الشعوب وقضاياها وإنزال الثورات من فضاءاتها الافتراضية إلى ساحاتها الاحتجاجية. والحالة هاته، فإن حقيقة قوة الإعلام الإلكتروني باتت منتصبة اليوم، لا في طابعه ووجوده العالميين وفي تخطيه للحدود وتجاوزه للتشريعات المحلية، بل وفي تقليصه لدوائر الهيمنة الكبيرة لأوساط المال والأعمال والحكومات على الإعلام في العالم العربي، وفي تكسيره للرقابة وتأميمه للشفافية عالميا حد الهزة التي أثارها موقع ويكيليكس، بل وحد تفجير لبركان ما ترسب في قعر المجتمعات العربية من إحباطات جماعية ونتوءات اجتماعية مزمنة، هز ويهز أركان النظام العربي اليوم وما فتئ يلقي بحممه على امتداد جغرافية المنطقة من الماء إلى الماء. زلزال يجد عوامله العميقة في انحسار النظام العربي الجاثم على صدر الشعوب العربية منذ خمسينات القرن الماضي وتآكل مقومات شرعيته بفعل أمر واقع كبت الحريات وقمع الحقوق وتعميق هوة الفوارق الاجتماعية والإقصاء الممنهج للشباب المشكل للقاعدة الواسعة من هرمه السكاني من دوائر الإنتاج والمشاركة في تدبير الشأن العام، وهذا وسط توقعات بأنه سيكون على المنطقة العربية أن توفر 18 مليون فرصة عمل بحلول عام 2018. وفي ضوء التغييرات الجذرية الكبرى التي باتت تعصف بها ثورة تكنولوجيا الاتصال والتواصل، يطرح موقع اليسار في حركية هذه المسارات وتحولاتها العالمية اليوم بقوة، عبر طرح جملة من التساؤلات الإشكالية من قبيل كيف يتصرف اليسار ويتعامل مع هذه التغييرات؟ وهل يحافظ على طرقه التقليدية في التنظيم والدعاية والتحريض والإدارة والنشاط العام؟ أم يفترض أن يتلاءم مع التطور التكنولوجي الكبير ويراهن على كسب آليات جديدة للفعل؟. تساؤلات تحمل بين طياتها مخاوف ومحاذير أمام واقع اكتساح الشبكة العنكبوتية لجميع الأوجه الحياتية للمجتمعات المعاصرة باستخداماتها المتعددة ومنتدياتها الاجتماعية العالمية بعد أن صار العالم الافتراضي قيادة عائمة للانقلابات والانتفاضات والثورات لا مجرد غرف للدردشة وتفريغ المكبوتات. من هنا، وفي خضم هذا التطور الهائل للأنفوميديا ومرتكزاتها التكنولوجية والمعرفية وتحول معظم أعمال المجتمع إلى نشاط إلكتروني، يثور مفهوم اليسار الإلكتروني كاستجابة لضرورات تطوير أشكال وآليات النضال السياسي والتنظيمي والفكري والإعلامي بما يلائم العصر ويواكب التحولات العالمية ويفعل في مسار التغييرات المشهودة والجارية، بحيث لن تستطيع قوى اليسار مواجهة عولمة الرأسمال المتوحش والقوى الظلامية والقومية المتعصبة وأنظمة الاستبداد بخطاب وآليات عمل تعود إلى بدايات القرن المنصرم، خاصة وأن اليسار بكافة فصائله يمر بأزمة بنيوية عميقة وأزمة مالية مزمنة تحولان دون شحذ أدواته الإعلامية والتنظيمية، بعد طول مؤامرات وقمع ومشانق ومنافي لتكسير شوكة كفاحيته والرمي به كسمكة خارج الماء . وعليه، ولتلمس المخارج من أزمة فعله وانحسار فكره، فلا خيار أمام اليسار خارج بلورة بدائل جديدة وصياغة سياسات عقلانية واقعية تنطلق من قدراته وقدرات المجتمع والقاعدة الاجتماعية الحاضنة لمشروعه في التقاط اللحظة التاريخية والفعل فيما تحبل به مسارات صيرورتها، غير توسل أدوات وميكانيزمات التطور التكنولوجي والمعرفي للإنسان لإيصال فكر اليسار وقيم العقلانية وثقافة التنوير إلى كل الطبقات والفئات والشرائح التي تنشد تحرير العقل من عقال الفكر الماضوي والنكوصي والانتصار لكونية الديمقراطية وحقوق الإنسان و العدالة الاجتماعية. وتنبري في مقدمة هذه الكتلة الاجتماعية ملايين الشباب من الأنترنيتيين المستخدمين في حياتهم اليومية لتقنيات وتطبيقات إلكترونية مختلفة مثل الإنترنت، التلفون النقال، آي فون، أي باد، الفيسبوك، تويتر، اليوتيوب، المدونات... الخ، وما باتت تشكله هذه الكتلة بمنتدياتها الاجتماعية العالمية ومبادراتها المحلية من فضاءات رحبة للحوار الديمقراطي ومن أوراش جديدة للعمل والفعل والتفاعل المشترك والجماعي. وهكذا لم يعد واقع اجتياح الفضاءات الافتراضية وطرقها السيارة والتكنولوجيا الرقمية لعالم اليوم، حكرا على دوائر عولمة الرأسمال المتوحش وصناعة المعلومة لتدمير كل مقاومة وممانعة لرسوماته المالية والسياسية، بحيث أضحت هذه العوالم حيطانا لكتابة لا متناهية خارج النخب وعلى حساب خفض معايير الكتابة وانكماش دوائر تداول المطبوعات الورقية، في الوقت الذي بلغ فيه عدد شباب الفيسبوك العرب حوالي 14 مليون مشترك قبل اندلاع الانتفاضات العربية وازداد بنسبة 20 % بعد الإطاحة ببنعلى ومبارك، مقابل 8 ملايين قارئ للصحف العربية، بل وصار موقعا لإخراج الانتفاضات من حالتها الافتراضية إلى لحظتها الواقعية والتجسيمية. وخارج توتير الأوضاع الاجتماعية والسياسية عبر رزنامة مطالب وسلسلة إضرابات واعتصامات ومسيرات لشل دورة الاقتصاد وزعزعة أركان الأنظمة القائمة والإطاحة بها حتى تظل هذه الانتفاضات، وفي غياب قيادات متأصلة وفوق الشبهة، بدون حول ولا قوة للتحكم في مسار حراكها وانتزاع سقف مطالبها، بل وعاجزة عن الانتقال من توتير الأوضاع وشد حبالها إلا حلحلة الأزمة، ومن قطع الطريق على أجندات المهربين الدينيين وعلى مخططات انقلاب السلطة على السلطة، إلى كسب معركة التغيير الديمقراطي. قد تتمكن المنتديات الاجتماعية من إطلاق تعبئة مجتمعية والدفع بفعل سياسي وبلورة بدائل، كما يستفاد من حراك الشارع العربي ومختبره اليومي في تونس ومصر، لكن عملية فرز قيادات تأتمن على تحصين مسارات التغيير الحقيقي، مسار طويل ومخاض عسير، لا مجرد ضربة زر على جهاز محمول أو تفكيك لشفرة موقع إلكتروني أو افتتان بسجع شعار ما في فورة لحظة ما. لقد علمنا التاريخ أن التغيير أبدا يحتمل وجهين، بحيث تبقي الأحداث والوقائع وموازين القوى وبنية المجتمع الثقافية وتشكيلته الاجتماعية الباب مفتوحا على مصراعيه أمام التطور والتقدم كما أمام الارتداد والتقهقر. على أي وفي جميع الأحوال، فإن حراك 20 فبراير، بعناوينه الحضارية البارزة، قد أدخل المغرب مجتمعا ودولة إلى عصر كونية الحقوق ووحدة التاريخ، ولا خيار للجميع، وطنيين وديمقراطيين، تقدميين ومحافظين، حكام ومحكومين، غير الإنصات لهدا المغرب المتحول وتحصين زهور ربيعه من كل قطاف أو اجتثاث، فمند استشهاد الشاب البوعزيزي بائع الخضر المجاز، صار بإمكان سونونو واحدة أن تأتي بالربيع. لذا، فإن أطياف اليسار المغربي مطالبة اليوم، بإبداع آليات جديدة تتغيئ التموقع داخل هذه المنتديات ذات الآفاق الرحبة في التواصل والتفاعل بل والتنادي حول القضايا الأساسية والآنية التي تهم تغيير المجتمع والحق في مواطنة كاملة غير منقوصة، وبالتالي تجاوز الحتميات التي طالما حكمت فكر اليسار، والميكانيكبة التي طبعت فعله وممارسته، وفتح أوراش التطوير المستمر للفكر، وآليات الممارسة، واعتماد الإدارة الحديثة والبحث العلمي والتطور التقني والمعرفي في عصرنة آليات العمل وأدواته على كل جبهات النضال، والتصدي للرأسمالية التي أصبحت الآن أكثر توحشا من أي وقت مضى من خلال تماديها في تدمير ما تبقى من «العقد الاجتماعي» وعبر إسكات جميع الأزمات الحيوية والحضارية التي تواجه البشرية تارة بدعوى الاستقرار الجهوي والتوازن الجيو سياسي القاري وتارة أخرى بدعوى محاربة الإرهاب.