■ لا شك في أن هزيمة ترامب (ولا أقول فوز بايدن)، تشكل انتصاراً للمجتمع الدولي، الذي أرهقته، طوال أربع سنوات عجاف، حروب ترامب وتحديه للقوانين الدولية، وشرعية الأممالمتحدة، ومبادئ العلاقات بين الدول. وكاد أن يقود أكثر من منطقة إلى حروب طاحنة، وناصب شعوب الأرض العداء، وحاول أن يعيد تنظيمها في صفوف التبعية الكاملة لإرادة اليمين الأميركي، الذي رفعه ترامب فوق مصالح الجميع حين رفع شعار »أميركا أولاً«، ويقصد بذلك أميركا الرجل الأبيض، وإعادة إحياء مفاهيم ومعايير وقيم الإمبريالية الأكثر تخلفاً وفساداً، وأكثرها استعداداً لقهر الشعوب ونهب ثرواتها، وتقويض مشاريع دولتها الوطنية المستقلة. نقض الإتفاق النووي مع جمهورية إيران الإسلامية، وفرض عليها الحصار عبر سلسلة من الإجراءات الجائرة بذريعة «عقوبات»، مخالفة للقوانين الدولية، ومن خارج مؤسسات المنظمة الدولية للأمم المتحدة، ومارس ضدها سياسات استفزازية كادت أن تجعل من الخليج بركاناً متفجراً تغذيه آبار نفط تحوي معظم الاحتياط العالمي، مما كان سيقود العالم كله إلى كارثة ليست بعيدة في نتائجها وتداعياتها عن أية كارثة نووية. نجح مع حلفائه في المنطقة، إسرائيليين وعرباً، في إعادة صياغة المعادلات السياسية، ليبرئ إسرائيل من جرائمها الإرهابية، وفي مقدمها جريمة العدوان اليومي على الشعب الفلسطيني، متمثلاً بالاحتلال والاستعمار الاستيطاني، وكل إجراءات البطش، وصولاً إلى الإعدام في الشوارع بدم بارد للشبان والمواطنين الفلسطينيين العزل، على أيدي جنود مدججين بالسلاح، بذريعة الدفاع عن النفس. وأحدث انقلاباً في معايير القضية الفلسطينية، فنسف قرارات الشرعية الدولية، بذريعة أنها تشكل عائقاً أمام حل الصراع في المنطقة. فاعترف بالقدسالمحتلة عاصمة لإسرائيل، وبالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل، ومنح الشرعية للاستيطان، وأقام حلاً محوره ضم أوسع المناطق المحتلة لدولة لاحتلال، مقابل كيان فلسطيني هزيل لا يتجاوز حدود الإدارة الذاتية محدودة الصلاحيات، ونزع الشرعية القانونية عن ملايين اللاجئين الفلسطينيين، وأعلن الحرب الضروس على وكالة الغوث، وأغلق مقر مفوضية م. ت. ف. في واشنطن، بتهمة الإرهاب، وفرض الحصار المالي على السلطة، وقدم كل أشكال الدعم لدولة الاحتلال، وفتح الباب على مصراعيه لموجة تطبيع الدول العربية مع دولة الاحتلال، كل ذلك في إطار «رؤية»حملت اسمه، لا ترى إلا المصالح الإسرائيلية، ومصالح الإمبريالية الأميركية، وتسقط من حساباتها حتى الحد الأدنى من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، كما أقر بها وكفلتها له قرارات الشرعية الدولية. وعلى الصعيد الدولي، شن حروبه الاقتصادية، ضد الصين، وضد روسيا، وضد كوبا، ونيكاراغوا، وسوريا، وكوريا الديمقراطية، واستعاد سياسات الانقلابات العسكرية ضد الأنظمة الشرعية، في فنزويلا التي أوقعها بسياساته العدائية في حرب أهلية، دمرت القسم الأكبر من اقتصادها، كذلك أغرق بوليفيا في حرب داخلية، استطاعت سريعاً أن تخرج من جحيمها، وأن تحبط سياساته الفاشلة. بدا مندوبوه في الأممالمتحدة كالمصابين بالجرب، عزلتهم سياستهم العدوانية، وأظهرت عريهم في معظم جلسات مجلس الأمن، وفي كافة جلسات الجمعية العامة، فعاد الوجه الأميركي البشع والوقح إلى مقدمة المسرح. من المفترض أن يكون ترامب قد مني بالهزيمة في الإنتخابات، رغم أنه ما زال يكابر ويعاند، ويخطط لعرقلة تسليم القيادة للرئيس المنتخب جو بايدن. اذ ما زال يصر على أنه هو الرئيس، وهو الفائز في الإنتخابات، تماماً، كما توقع المراقبون الذين باتوا يقرأون، مسبقاً، ردود فعله إزاء أي حدث، بفعل رعونته السياسية وعجرفته، التي أدت فيما أدت إليه، إلى حركة تغيير واسعة بين مساعديه، خلال أربع سنوات حكمه، لم يشهد لها البيت الأبيض مثيلاً، طالت وزير خارجيته، ووزير دفاعه، ومستشاره للأمن القومي، ورئيس موظفي البيت الأبيض وأكثر من مستشار في أكثر من مجال، عارضوا رأيه، فوجدوا أنفسهم خارج البيت الأبيض. هزيمة ترامب وفوز بايدن تضعنا أمام سؤال: هل سنكون أمام سياسة أميركية جديدة، وما هي حدود التغيير فيها، وكيف سينعكس التغيير على علاقات واشنطن مع عواصم القرار في الصينوروسيا، وأوروبا وغيرها. وكيف سينعكس التغيير على أوضاع اقليم الشرق الأوسط، وفي القلب منه القضية الفلسطينية، وبالتالي، أي موقف يطلب من الفلسطينيين أن يتخذوه من هزيمة ترامب وفوز بايدن، وما هي حدود التوقعات الواجب عدم تخطيها في الرهان على سياسات الإدارة الأميركية الجديدة؟ ما يهمنا في هذه العجالة أن نقرأ ما هو خاص بالقضية الفلسطينية. لذلك سنحصر إجابتنا في هذا النطاق (وهو نطاق واسع ويحتاج لأكثر من مراجعة ومقاربة). بداية من حق الفلسطينيين أن يتنفسوا الصعداء برحيل ترامب وإدارته. لكن الحذر يفترض بهم ألا يسارعوا إلى الإحتفال بقدوم بايدن، تحت شعار أن أي قادم الى البيت الأبيض سيكون بالضرورة أفضل من ترامب، وأن ليس هناك أسوأ من الراحل الجمهوري. الحذر برأينا ضرورة، لأننا اعتدنا، في الحالة الفلسطينية، وعلى الدوام، أن نعلق كثيراً من قراراتنا على مشجب ساكن البيت الأبيض ولعل آخر ما شهدته القضية الفلسطينية من تطور دليل على ذلك. اذ سادت قناعة لدى المراقبين والمحللين، وحتى لدى الرأي العام الفلسطيني دون استثناء، أن مخرجات اجتماع الأمناء العامين (3/9) وأن تفاهمات فتح وحماس في اسطنبول (24/9) وأن مرسوم الإنتخابات الشاملة، وأن الدعوة لحوار شامل في القاهرة، كلها ملفات باتت مؤجلة لما بعد الإنتخابات الأميركية، ولمعرفة هوية الساكن الجديد في البيت الأبيض. هنا علينا أن نتذكر حدثاً مماثلاً يشبه إلى حد كبير ما شهدته القضية الفلسطينية في الأيام الأخيرة لإدارة أوباما. اذ علقت القيادة الفلسطينية قرارات المجلس المركزي التي اتخذت في 5/3/2015، بإعادة تحديد العلاقة مع دولة الإحتلال بما في ذلك وقف التنسيق الأمني، والإنفكاك عن الإقتصاد الإسرائيلي وغيره، بانتظار قدوم الساكن الجديد إلى البيت الأبيض. رغم أن أوباما «أهدى» الفلسطينيين هدية ثمينة قبل رحيله، حين وافق ضمناً (بالإمتناع عن التصويت) على قرار مجلس الأمن رقم 2334 في إدانة الإستيطان، وإعادة تعريف القدس والضفة الفلسطينية أرضاً محتلة. مع دخوله البيت الأبيض لوح ترامب بمبادرة سوف يطلقها لحل الصراع في الشرق الأوسط. وبات الرهان الرسمي الفلسطيني قائماً على المبادرة المرتقبة، في سياسة انتظارية فاشلة، في الوقت الذي كانت فيه حكومة الإحتلال تواصل سياستها الإستعمارية الإستيطانية، وتقليص صلاحيات السلطة الفلسطينية لصالح توسيع صلاحيات الإدارة المدنية للإحتلال. وصدرت عن المؤسسة الرسمية الفلسطينية تصريحاتأوغلت كثيراً في التفاؤل الموهوم، خاصة بعد لقاء الرئيس عباس والرئيس ترامب في بيت لحم، حين روجت أن ترامب تفهم القضية الفلسطينية وعدالتها، وأنه سيتخذ على هذا الأساس قرارته.لتكون المفاجأ، غير المنتظرة بل و«الصفعة» كما صورها الرئيس عباس، اعتراف ترامب في 26/12/2017، أي بعد عام واحد على دخوله البيت الأبيض، اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة بلاده إليها، تبع ذلك سلسلة من القرارات وإطلاق المعايير والمفاهيم التي شكلت في مجموعها «صفقة القرن»، أو على الأدق «رؤية ترامب – نتنياهو»،تجاهلت تماماً كامل الحقوق الوطنية المشروعة للفلسطينيين، كما أقرتها وكفلتها قرارات الشرعية الدولية وانحازت بشكل كامل إلى «رؤية» نتنياهو، في إقامة دولة «إسرائيل الكبرى». يتوجب أن ندرك تماماً أن رحيل ترامب، ورؤيته معه، لا يعني على الإطلاق رحيل «رؤية» نتنياهو في ضم أوسع المناطق الفلسطينيةالمحتلة. وأن رحيل ترامب لا يعني أن نتنياهو قد تخلى عن إعلاناته التي يترجمها بإجراءات عملية في اعتبار الضفة المحتلة «أرضنا وبلدنا». ولنا الحق في البناء فيها كما هون البناء في تل «أبيب». أي ما معناه أن رحيل ترامب لم يسقط خطة الضم كما تبنتها حكومة الثنائي نتنياهو – غانتس، وأجازها الكنيست الإسرائيلي في 17/5/2020. وبناء عليه فإن كل قرار فلسطيني، تبنته المؤسسة الفلسطينية، إن في المجلس الوطني (2018) أو في المجالس المركزية (2015 + 2018) بإعادة تحديد العلاقة مع دولة الإحتلال، وفك الإرتباط بإتفاقات أوسلو وبرتوكول باريس الإقتصادي، والتحلل من أية إلتزامات نحوها، هو قرار ملزم للجنة التنفيذية في م.ت.ف، وللسلطة الفلسطينية، لم يسقط بسقوط ترامب، وبمجيء بايدن. وإن أي ترويج قد يدعو للتراجع عن قرارات 19/5/2020، من شأنه أن يلحق أفدح الضرر بالحالة الوطنية الفلسطينية. فقرار 19/5، وغيره من القرارات، ليست مجرد مواقف أو قرارات تكتيكية، بل هي تطبيقات لإستراتيجية وطنية رسمتها قرارات المجلس الوطني، حين أعلنت إنتهاء العمل بالمرحلة الإنتقالية لإتفاق أوسلو وإلتزاماتها، وحين أسقطت أوهام «انتقال السلطة الفلسطينية إلى الدولة في ظل الإحتلال»، وأعادت الإعتبار للبرنامج المرحلي، برنامج النضال في مرحلة التحرر الوطني من الإحتلال الإستعماري الإستيطاني. وهو ما ترجمت بعض تطبيقاته مخرجات اجتماع الأمناء العامين، حين أقرت تشكيل القيادة الوطنية الموحدة للمقاومة الشعبية، لإطلاق أوسع مقاومة شعبية ضد الإحتلال والإستيطان وخطط الضم، كما أقرت العمل على إنهاء الإنقسام واستعادة الوحدة الداخلية. كل هذه القرارات، تستعيد وهجها مع رحيل ترامب، إذا ما اعتبرنا أن نتنياهو قد خسر حليفه الأكبر. وكل هذه القرارات تستعيد وهجها للتأكيد على العنصر والعامل الذاتي الفلسطيني كعنصر رئيسي في خوض المجابهة الوطنية في إطار الإستراتيجية الوطنية للمواجهة الشاملة. ولا يفيد القول أن ما أفصحت عنه نائبة الرئيس الأميركي المنتخب كامالا هاريس حول موقف الإدارة الجديدة من القضية الفلسطينية بما في ذلك موقفها من الإستيطان وحل الدولتين، يشكل عنواناً للسياسة الأميركية الجديدة وإن الإدارة الأميركية تستطيع الضغط على نتنياهو لإرغامه على القبول بالسياسة الأميركية الجديدة. لنتذكر جيداً، كيف فشلت إدارة أوباما في الضغط على نتنياهو، لإقناعه بحل جزئي ومؤقت للإستيطان، يفسح في المجال لإستئناف المفاوضات الثنائية. وكيف واصل نتنياهو تعنته في رفض إقتراحات وزير خارجية جون كبرى، ما دعا الأخير إلى رفع الراية البيضاء، والإستسلام والتخلي عن مبادراته في المنطقة عام 2014، أي قبل رحيل إدارة أوباما بسنتين. ولا يستبعد، في السياق نفسه، أن يرفض نتنياهو أية ضغوط أميركية مفترضة على يد الإدارة الجديدة لوقف أو تجميد الإستيطان، معتمداً في ذلك على قاعدته الإنتخابية الواسعة التي تضمن له إقامته المديدة في ديوانه في شارع بلفور في القدس الغربية، زعيماً لليكود، ورئيساً لحكومة تحالف اليمين واليمين المتطرف، كما معتمداً كذلك على عمق علاقات إسرائيل مع المؤسسات الأميركية، وعلى العديد من معاهدات التحالف الإستراتيجي بين واشنطن وتل أبيب، بكل ما تلزمه لأية إدارة أميركية من واجبات نحو إسرائيل، في الميادين المختلفة، وفي المقدمة عدم إضعافها إقليمياً، وضمان تفوقها على كامل أطراف المنطقة. أما بشأن الموقف من إدارة بايدن، فنعتقد أن المعيار الفلسطيني يجب أن يكون واضحاً وشديد الشفافية. وهو موقف بايدن وإدارته من الحقوق الوطنية الفلسطينية، كما رسمتها وأقرتها وكفلتها قرارات الشرعية الدولية، وكما ترجمها البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية: دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس على حدود 4 حزيران 67. حل قضية اللاجئين بموجب القرار 194 الذي يكفل لهم حق العودة إلى الديار والممتلكات التي هجروا منها منذ العام 1948. أما في التطبيقات التي تشير إلى ذلك فنعتقد أن على إدارة بايدن إتخاذ سلسلة قرارات تنفيذية (حسب النظام المعمول بها في البيت الأبيض) منها: إعادة فتح مكتب مفوضية فلسطين في واشنطن. استئناف الإلتزام المالي نحو السلطة الفلسطينية. استئناف الإلتزام المالي نحو وكالة الغوث واتخاذ الموقف الإيجابي من قرارات الأممالمتحدة بشأنها بما في ذلك تجديد تفويضها. إلتزام القرار 2334 لمجلس الأمن الخاص بإدانة الإستيطان، ونزع الشرعية عنه، وتأكيد الإعتراف بالحالة القانونية للأرض الفلسطينيةالمحتلة في الضفة الفلسطينية (وفي القلب منها القدس). إعادة القنصلية الأميركية إلى القدس الشرقية في صيغة منفصلة عن الإرتباط بالسفارة الأميركية. العودة عن قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس. الإعتراف بالقرار 194 وتطبيقاته كما تفسرها اللجان القانونية في الأممالمتحدة. المواقفة على مؤتمر دولي ترعاه الأممالمتحدة وقف قرارات الشرعية الدولية لحل القضية الفلسطينية، والتراجع عن قرار الفيتو الذي اتخذته بهذا الشأن مندوبة ترامب في مجلس الأمن. ختاماً لا بد من التأكيد أن الوصول مع الإدارة الأميركية الجديدة ومع أية إدارة أخرى، هو معركة سياسية من الطراز شديد التعقيد، يستلزم امتلاك استراتيجية واضحة المعالم، تضبط خطواتها وتكتيكاتها قيادة جماعية متجانسة في بنيتها السياسية، تستند إلى البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وإلى مفاهيم الشراكة الوطنية كما تتطلبها نضالات حركات التحرر الوطني، وبحيث تخاض المعركة في الميدان ضد الإحتلال وتطبيقاته وإجراءاته اليومية، وفي المحافل الدولية، لإستقطاب أوسع تأييد دولي لعدالة القضية الفلسطينية.■