وفاة زوج الفنانة المصرية نشوى مصطفى وهي تناشد جمهورها "أبوس إيديكم عايزة ناس كتير تيجي للصلاة عليه"    الرئيس الموريتاني يجري تغييرات واسعة على قيادة الجيش والدرك والاستخبارات    ترامب يطالب المحكمة العليا بتعليق قانون يهدّد بحظر تطبيق تيك توك    الكعبي ينهي سنة 2024 ضمن قائمة أفضل الهدافين    فينيسيوس الأفضل في العالم ورونالدو في الشرق الأوسط وفق "غلوب سوكر"    طقس السبت: نسبيا باردا إلى بارد مع جريحة محلية خلال الليل والصباح    3 سنوات ونصف حبسا نافذا في حق محمد أوزال الرئيس الأسبق للرجاء    كيوسك السبت | الحكومة تلتزم بصياغة مشروع مدونة الأسرة في آجال معقولة    حريق يأتي على منزلين في باب برد بإقليم شفشاون    التحقيق في فاجعة تحطم الطائرة الأذربيجانية يشير إلى "تدخل خارجي"    أزولاي يشيد بالإبداعات في الصويرة    البرازيل: ارتفاع حصيلة ضحايا انهيار جسر شمال البلاد إلى 10 قتلى    النفقة و"تقاسم الثروة" و"إيقاف السكن" .. تصحيح مغالطات حول مدونة الأسرة    يامال يتعهد بالعودة أقوى بعد الإصابة    اقتراب مسبار "باركر" من الشمس يعيد تشكيل فهم البشرية لأسرار الكون    *بعيدا عن المنطق الاقتصادي: الأسرة تآلف بين القلوب لا تخاصم بين الجيوب    لأداء الضرائب والرسوم.. الخزينة العامة للمملكة تتيح ديمومة الخدمات السبت والأحد المقبلين    توقيف سائقي سيارتي أجرة بمدينة طنجة بسبب القيادة بشكل متهور قرب المطار    وزارة النقل تؤجل تطبيق معيار "يورو6" على بعض أصناف السيارات    خطة استبقاية قبل ليلة رأس السنة تُمكن من توقيف 55 مرشحاً للهجرة السرية    وليد كبير: الرئيس الموريتاني يستبق مناورات النظام الجزائري ويجري تغييرات في قيادات الجيش والمخابرات    أمريكا: روسيا وراء إسقاط طائرة أذربيجانية    نشرة إنذارية.. تساقطات ثلجية مرتقبة بعدة مناطق في المغرب من السبت إلى الإثنين    الحكومة ترفع الحد الأدنى للأجر في النشاطات الفلاحية وغير الفلاحية    تراجع كمية مفرغات الصيد البحري بميناء المضيق    المدونة: قريبا من تفاصيل الجوهر!    الجولة 16 من الدوري الاحترافي الأول .. الرجاء يرحل إلى بركان بحثا عن مسكن لآلامه والجيش الملكي ينتظر الهدية    نهضة بركان يطرح تذاكر مباراته ضد الرجاء    وفاة الرئيس التاريخي لمجموعة "سوزوكي" أوسامو سوزوكي    بورصة البيضاء تغلق التداولات بالأحمر    الرئيس الألماني يعلن حل البرلمان ويحدد موعدا لإجراء انتخابات مبكرة    فوج جديد من المجندين يؤدي القسم    الحكمة المغربية بشرى كربوبي تحتل الرتبة الخامسة عالميا والأولى إفريقيا    حضور وازن في المهرجان الدولي للسينما و التراث بميدلت    فنانات مغربيات تتفاعلن مع جديد مدونة الأسرة    ما حقيقة اعتزال عامر خان الفن؟    اختتام ناجح للدورة الخامسة لصالون الإلهام الدولي للفن التشكيلي بتارودانت    الوداد البيضاوي يعلن تعيين طلال ناطقا رسميا للفريق    لقاء تواصلي حول وضعية الفنان والحقوق المجاورة بالناظور    نواب كوريا الجنوبية يعزلون رئيس البلاد المؤقت    بايتاس: إعداد مدونة الأسرة الجديدة مبني على التوجيهات الملكية والنقاش مستمر في مشروع قانون الإضراب    تراجع أسعار الذهب وسط ترقب المستثمرين للاقتصاد الأمريكي    المصادقة على مقترحات تعيين في مناصب عليا    الجولة 16.. قمة بين نهضة بركان والرجاء والجيش يطمح لتقليص الفارق مع المتصدر    2024.. عام استثنائي من التبادل الثقافي والشراكات الاستراتيجية بين المغرب وقطر    ارتفاع ليالي المبيت بمؤسسات الإيواء السياحي المصنفة بالرباط ب 4 في المائة عند متم أكتوبر    استهلاك اللحوم الحمراء وعلاقته بمرض السكري النوع الثاني: حقائق جديدة تكشفها دراسة حديثة    علماء: تغير المناخ يزيد الحرارة الخطيرة ب 41 يومًا في 2024    "ما لم يُروَ في تغطية الصحفيين لزلزال الحوز".. قصصٌ توثيقية تهتم بالإنسان    الثورة السورية والحكم العطائية..    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من يزرع الكراهية يحصد العنف
نشر في بيان اليوم يوم 22 - 10 - 2020

مرة أخرى يحدث في فرنسا عمل إجرامي ارتكبه شاب من أصل شيشاني عمره 18 عاما ، وراح ضحيته أستاذ فرنسي للتاريخ قرب المدرسة التي يشتغل فيها غرب مدينة باريس. وأعلنت الشرطة الفرنسية بأن الضحية الذي يبلغ من العمر 47 عاما قام بعرض رسوم كاريكاتورية عن الرسول الكريم على تلامذته خلال حصة دراسية في إطار نقاش حول حرية التعبير.
لقد وقع هذا الاعتداء في وقت تتواصل فيه جلسات محاكمة شركاء مفترضين لمنفذي الهجوم الذي استهدف في يناير 2015 مكاتب مجلة شارلي إيبدو الساخرة، التي كانت قد نشرت رسوما كاريكاتورية للرسول الكريم,وأثارغضبا عارما ومظاهرات صاخبة في مناطق عديدة من العالم الإسلامي. كما يأتي هذا الاعتداء بعد ثلاثة أسابيع من هجوم نفّذه بآلة حادّة شاب باكستاني يبلغ 25 من العمر أمام المقرّ السابق ل"شارلي إيبدو"، أسفر عن إصابة شخصين بجروح بالغة ، وبعد خطاب الرئيس الفرنسي ماكرون المثير للجدل والذي ألقاه يوم 2 أكتوبر الجاري بضواحي باريس وأعلن فيه أنه على فرنسا "التصدي للنزعة الإسلامية الراديكالية" وأن الإسلام "ديانة تعيش اليوم أزمة في كل مكان في العالم"
بداية يجب التأكيد على أن الهجوم على المدرس الفرنسي وقتله بقطع رأسه يعد عملا إجراميا شنيعا ترفضه القيم الإنسانية المشتركة والقوانين والأعراف والمواثيق الدولية ، كما يتعارض مع قيم الإسلام الداعية إلى منع العنف وقتل الناس ، مصداقا لقوله تعالى في محكم كتابه: ( من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها كأنما أحيا الناس جميعا). وقوله تعالى ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ). وبما أن هذا الحادث الأليم تعرض له مدرس بجوار المؤسسة التعليمية التي يشتغل فيها وبسبب موضوع حصة تعليمية، سأتناوله من زاوية تربوية – تعليمية ، وأمهد لذلك بطرح التساؤلات التالية :
ما الفائدة التربوية والتعليمية المرجوة من عرض ومناقشة رسوم كاريكاتورية لرجل عار ونعته بأنه محمد رسول المسلمين مع تلاميذ قاصرين داخل فصل دراسي في مؤسسة فرنسية رسمية بدعوى تدريب التلاميذ على حرية التعبير? ولماذا لم يكن موضوع النقاش مدى احترام الرئيس الفرنسي لحرية التعبير والرأي حين وبخ صحافيا في جريدة "لو فيجارو" الفرنسية تحدث عن زيارته الأخيرة إلى لبنان ? أو مناقشة حرية الشباب في التعبير عن الرأي في شبكات التواصل الاجتماعي وترويج الأخبار الكاذبة والإساءة للناس باعتباره موضوعا راهنيا يحتاج التلاميذ توعيتهم بمخاطره الأخلاقية والقانونية ، بدل الحديث عن حرية الإساءة لرسول يجله ويحترمه أتباعه من المسلمين عبر العالم ?
هل مناقشة رسوم كاريكاتورية مسيئة لرسول المسلمين مدرج رسميا في البرنامج الدراسي ومعتمد في المقرر المخصص للتلاميذ من أجل تحقيق أهداف بيداغوجية وكفايات فكرية حددتها وزارة التربية والتعليم الفرنسية ، أم هو اختيار خاص من المدرس ومبادرة شخصية منه في إطار اختيار مواضيع تنمي ملكات الفكر النقدي لدى التلاميذ وتدربهم على التعبير عن مواقفهم من قضايا مجتمعية جارية ?
على أي أساس بيداغوجي يطلب المدرس الفرنسي من التلاميذ من ذوي الأصول المسلمة مغادرة القسم قبل عرض الرسوم الكاريكاتورية? أليس في ذلك ممارسة واضحة للتمييز على أساس الدين والمعتقد في فضاء مدرسي من المفروض أن يحرص على محاربة التمييز وتعزيز قيم الإخاء والمحبة بين المتعلمين، خاصة وأنهم مواطنون فرنسيون يدرسون في مؤسسة تعليمية رسمية ? ألم يمارس في فعله هذا الإقصائية على تلامذته من أصول مسلمة ، وساهم عن قصد أو بدونه في زرع الشعور بالانعزالية لديهم? ألا يعتبر دليلا على ذلك قيام بعضهم بإخبار آبائهم بما حصل لهم ? ولماذا دأب هذا المدرس على القيام بعرض الرسوم الكاريكاتورية للرسول محمد كل عام على تلامذته في إطار نقاش حول حرية التعبير منذ الهجوم على مقر مجلة شارلي إيبدو عام 2015 ، حسب ما صرحت به إحدى التلميذات.
ما سبب عدم تقيد المدرس بما ينص عليه "ميثاق العلمانية" والذي يهدف إلى تأطير وتنظيم الحياة داخل المؤسسات التربوية الفرنسية وتحديد العلاقات بين التلاميذ والأساتذة. ويؤكد على ضرورة احترام مبدأ الفصل بين الدين والدولة وفقا للقانون الصادر في 1905 وكذلك الحفاظ على حرية التعبير وحمايتها من المعتقدات الدينية الشخصية. ?
إذا كان المدرس الفرنسي في عرضه للرسوم الكاريكاتورية داخل الفصل الدراسي قد التزم بتنفيذ مقرر تعليمي رسمي يسيء بشكل أو بآخر إلى الدين الإسلامي وإلى رموزه المقدسة ، أليس ذلك عملا غير قانوني ومخالفا لقرارالأمم المتحدة بشأن منع الإساءة للأديان ، ومخالفا لما تدعو إليه منظمة اليونسكو والاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي بخصوص تربية الأطفال على قيم الحوار والتسامح والعيش المشترك ونبذ الكراهية والتمييز العنصري ، والابتعاد عما يسيء إلى المشاعر العقدية والثقافية والدينية للأفراد والجماعات ويرسخ صورا نمطية عنهم ، وتحصينهم من الغلو والتطرف العنيف ?
لماذا لم تمنع وزارة التربية الفرنسية ترويج المضامين التعليمية والمقررات الدراسية المتضمنة إشارات او معلومات مسيئة إلى الأقليات الدينية والمهاجرين وإلى رموزهم ومقدساتهم الدينية في إطار احترام التنوع الثقافي والديني للمجتمع الفرنسي الذي تنص عليه قيم الجمهورية ، خاصة وأن فرنسا عضو مؤسس لمنظمة اليونسكو ومحتضن لمقرها في باريس ترأسها مواطنة فرنسية ، كما تعد دولة فاعلة في منظمة الأمم المتحدة وصادقت على القرار الأممي رقم 65/224 الذي يرفض التحريض على أعمال العنف وكراهية الأجانب، وما يتصل بذلك من تعصب، وتمييز ضد أي دين، ومن استهداف الكتب المقدسة، وأماكن العبادات، والرموز الدينية لجميع الأديان وانتهاك حرماتها ? لماذا هذا المشكل في بعده المستفز والمتكرر والمتراوح بين الفعل ورد الفعل نجده أكثر حضورا في فرنسا بالمقارنة من باقي الدول الأوروبية التي يعيش فيها مسلمون وتنظيمات إسلامية معتدلة وراديكالية ?
من خلال طرح هذه التساؤلات لا نسعى إلى تقديم مبررات لاغتيال المدرس الفرنسي بشكل مباشر أو غير مباشر ، ولكن هدفنا الأساسي هو تسليط الضوء على معطيات تربوية وتعليمية مرتبطة بالحادث ، والتي ربما يكون مدرسون آخرون في فرنسا أو خارجها يقومون بها ، أو قد يقررون القيام بها مستقبلا تضامنا منهم مع زميلهم المقتول غدرا .
إن خبراء التربية يتفقون اليوم على أنه في الظروف الدولية الحالية المتسمة بالاضطراب والعنف والإرهاب الفكري ،أصبح للمعلم دور بارز ومؤثر في نشر ثقافة الحوار وترسيخ آدابه في نفوس المتعلمين. كما أن مهمة المعلم لم تعد منحصرة في تلقين المعارف للمتعلمين ، بل يساهم إلى جانب الأسرة ووسائل الإعلام في ترسيخ القيم النبيلة في سلوكهم وأخلاقهم، وتدريبهم على نبذ الكراهية والتمييز العنصري ، ووجوب احترام الآخر في رأيه ومعتقداته ، والسعي للتعايش معه من خلال التركيز على المشتركات الإنسانية. لذلك تدعو المنظمات الدولية المعنية بتعزيز الحوار وصيانة حقوق الإنسان إلى اشراك المدرسة والمدرسين في الجهود المبذولة من أجل الحد من الكراهية والتطرف العنيف .
في عام 2010 اعتبرت منظمة اليونسكو خِطاب الكراهيّة مفهوما جدليّا واسع المدى، يشمل كلّ أشكال التعبير التي تحمل الكراهيّة ويتمّ تضمينها من خلال الصوت أو الصُّور أو النصوص، وتحمل نمطَيْن من الرسائل، النمط الأوّل موجَّه إلى مجموعة معيّنة للتقليل من احترام أفراد محدّدين، والثاني تعريف الأفراد الذين يحملون وجهات نظر ضدّ الأفراد المُستهدفين أنّهم ليسوا وحدهم . وعرفت اليونسكو خطاب الكراهية بأنه كلّ التعبيرات التي تؤيّد الإيذاء (التمييز أو العدائيّة أو العنف) أو تحرِّض عليه بناءً على انتماء الفرد إلى جماعة اجتماعيّة أو ديموغرافيّة. كما صنفته بانه كل خطاب يُقلِّل من شأن الناس بناءً على أصولهم العرقيّة والاثنيّة أو الدّين أو الجنس أو العُمر أو المجموعة اللّغويّة أو الحالة البدنيّة أو الإعاقة أو التوجّهات الجنسيّة. وتتنوّع صُور خِطاب الكراهيّة لتشمل رسائل الكراهيّة، والرسوم ، وغيرها من الوسائط .
ومنذ أحداث 11 من سبتمبر 2011 ، حرصت المنظومات التربوية والتعليمية على الصعيد العالمي على العناية بترسيخ قيم الحوار والتسامح والتعايش لدى الناشئة، وتحقيق تشبّعهم بحقوق الإنسان فكراً وعملاً، وتعميق الاقتناع لديهم بأنّ التنوع والاختلاف هما عاملا إغناء للثقافة والتنمية، لا عاملا تشتت وانقسام وفُرقة، وأن تماسك المجتمع ووحدة الوطن هما السبيلُ إلى تحقيق الاستقرار والتنمية المنشوديْن. كما تم الاهتمام بالأنشطة الهادفة إلى دمج التربية على حقوق الإنسان وقيم المواطنة والديمقراطية والحوار واحترام التعدّدية في المناهج والمقررات الدراسية . في هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن اليونسكو أصدرت في عام 2019 وثيقة تربوية بعنوان ) درء التطرف العنيف عن طريق التعليم ، الأنشطة الفعالة وآثارها ) . وتتضمن هذه الوثيقة خلاصات توجيهية تهدف إلى تعزيز الأنشطة التعليمية الرامية إلى درء التطرف العنيف في صفوف المتعلمين وضمان الحيلولة دون تحول أماكن التعلم إلى منابت ومراتع للتطرف العنيف . كما تسعى هذه الوثيقة إلى الإجابة عن سؤالين أساسين هما : ماهي أنواع الأنشطة التعليمية التي يحتمل أن تكون أكثر فعالية من غيرها ، وماهي الآثار المثبتة الناجمة عن الأنشطة التعليمية الرامية إلى درء التطرف العنيف.
وترتكز مناهج التربية والتعليم في الدول الغربية الأوروبية على نظم علمانية غير دينية حيث لا يتم تدريس الدين في المدارس الحكومية وذلك استنادا إلى قرار إلغاء مادة التربية الدينية في إطار تطبيق مبدأ فصل الدين عن الدولة في معظم الدول الغربية منذ أواخر القرن التاسع عشر. وعلى هذا الأساس أصبح الدين شأنا داخليا للإنسان الغربي ،ومن ثم فإن الأسرة هي التي تقوم بمهمة التربية الدينية وليس المدرسة. وتبعا لذلك تكاد تخلو المناهج والمقررات الدراسية في الغرب من مادة تدريس الأديان حيث تتم الإشارة فقط إلى تاريخ الأديان في كتب التاريخ المدرسية.
في فرنسا هناك تأكيد على حيادية الدولة، لأن قانون عام 1905 يعطي للعلمانية مضمونا إيجابيا حيث ينص على ما يلي : "تضمن الجمهورية حرية المعتقد. وتضمن الممارسة الحرة للشعائر الدينية، مع مراعاة القيود، المنصوص عليها فيما يلي، وذلك لصالح النظام العام". كما ينص هذا القانون الدولة الفرنسية تسهر على تمكين جميع أتباع الأديان من التعبير عن نفسهم. كما تسمح كذلك " للمجموعات الأكثر ضعفا أو الأقل عددا أو الأحدث عهدا بالتمتّع بهذه الحرية وذلك مع مراعاة مقتضيات النظام العام. تضمن العلمانية لجميع الخيارات الروحانية أو الدينية الإطار الشرعي الملائم لهذا التعبير".
ويسري هذا الأمر المجال التربوي والتعليمي، حيث يؤكد القانون المذكورعلى ضرورة " تمكين التلاميذ من اكتساب العلم وبناء الذات في جو من الطمأنينة من أجل أن يتملّكوا استقلالية الرأي. و يتعين على الدولة أن تمنع عنف وترهيب المجتمع من التأثير على عقولهم: حتى ولو سلمنا بأن المدرسة لا يمكن أن تكون مكاناً مطهراً ومعقماً، لا ينبغي أن تصبح صدى لأهواء الناس و إلا تعرضت للفشل والإفلاس في مهمتها التربوية"
لكن من جهة أخرى وفي تناقض مع منطوق هذا القانون ، نجد أن مضمون الكتاب المدرسي يعد من أهم مصادر الرؤية الفرنسية للإسلام. فصورة الإسلام وخاصة العرب في الكتب المدرسية الفرنسية هي امتداد للصورة التاريخية التراكمية السلبية لهذا الدين وحضارته وأتباعه. كما أن هذه الكتب حافلة بمصطلحات تحمل أحكاما قيمية بشأن الإسلام والمسلمين كالتطرف وعدم التسامح والتواكل والعنف والقمع . ففي المقررات والكتب المدرسية لمادة التاريخ في فرنسا مثلا لازال يوجد بها كثير من الشوائب والسلبيات والإغفال المتعمد للحضارة العربية والإسلامية، وقد يرجع ذلك إلى الخلفية التاريخية والآثار المترتبة عن استعمار فرنسا لدول إسلامية في المغرب العربي، والسياسة الاستعمارية التي اتبعتها فرنسا لتشويه صورة المسلمين في هذه الدول وتحقيرهم والاستهزاء بمعتقداتهم. ولذلك ترسخت هذه الصورة السلبية عن المسلمين والتصقت هذه التشوهات في أذهان الفرنسيين عن المسلمين عامة.
وبالرغم من انتشار ظاهرة تشويه صورة الإسلام والمسلمين في الكتب والمقررات المدرسية في الغرب ، فإن ذلك لم يمنع من ظهور مبادرات سياسية وأكاديمية سعت لدراسة الظاهرة والحد من آثارها السيئة وكشف تناقضها وتعارضها مع الممارسات والشعارات المنادية باحترام حقوق الإنسان واحترام التنوع الثقافي وتشجيع التسامح بين الأديان السماوية وتفعيل الحوار بين شعوب العالم. ومن بين تلك المبادرات الجادة والهامة على الصعيد الأوربي ، نذكر ما قام به مجلس أوربا منذ العقد الأخير من القرن العشرين حيث أولى اهتماما خاصا بقضية توحيد المناهج الدراسية لمادة التاريخ في دول الاتحاد الأوربي، كما اهتم بوجه خاص بتنقية تلك المناهج والكتب والمقررات المدرسية الأوربية من القوالب النمطية السلبية والشوائب التي تسيء إلى كل من المسلمين واليهود .
كما نشير إلى مؤتمر الحوار العربي الأوروبي حول صورة الثقافة العربية الاسلامية فى كتب التاريخ المدرسية الأوروبية ، الذي عقد في نوفمبر 2006 بمقر الجامعة العربية في القاهرة تحت شعار ( تعلم كيفية العيش معا )، وشارك في أعماله العديد من أساتذة الجامعات العربية والأوربية ، وحضره مسؤولون في بعض وزارات التعليم الأوربية ، ودور النشر المدرسية الأوربية ، والعديد من العلماء والشخصيات العربية والأوربية. وتم الاتفاق في ختام أعمال هذا المؤتمر على وجوب التصدي لعملية العداء للإسلام وتصحيح الأخطاء والصور النمطية التي تشوه صورة العرب والمسلمين والإسلام وحضارته في الكتب المدرسية الأوربية والغربية عموما ، باعتبار تلك الأخطاء تؤدي إلى مشاعر الكراهية بين الشعوب وإلى إشعال نار الحروب وانعدام السلم.
في ختام هذا المقال ، نؤكد من جديد أن اغتيال المدرس الفرنسي عمل إجرامي ينبذه الإسلام وينهى عنه ، وترفضه الأخلاق والقيم الإنسانية المشتركة ، وتدينه القوانين والأعراف والمواثيق الدولية المدافعة عن كرامة الإنسان وحقه في الحياة . أنها دوامة خطيرة وسلسلة متواصلة من الأفعال وردود الأفعال العنيفة والتي لا يستفيد منها سوى دعاة التطرف والعنف والكراهية والتمييز العنصري والإرهاب بغض النظر عن المجال الجغرافي واللغوي والعرقي والديني الذين ينتمون إليه.
لقد أصبح مستعجلا تدخل عقلاء المجتمع الدولي وحكماءه من السياسيين والمثقفين والإعلاميين والقيادات الدينية والفاعلين في مؤسسات المجتمع المدني وبذل المزيد من الجهود من أجل تفعيل خطط العمل التربوية والثقافية والدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية للحد من الإساءة للأديان ورموزها وممارسة التحقير والازدراء والتمييز والكراهية قولا وفعلا في حق الأقليات الإثنية والدينية والمهاجرين واللاجئين . لقد أضحى اليوم التمييز الديني من أشد أشكال التمييز العنصري خطورة وزعزعة للوئام الإنساني والسلام العالمي .
ويتعين تدخل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة – يونسكو- بثقلها الدولي والمعنوي وباعتبارها رافعة شعار ) التربية من أجل السلام ( لتفعيل قوي ومؤثر لخطط عملها وبرامجها الهادفة إلى درء التطرف العنيف عن طريق التعليم وتعزيز قيم التسامح والعيش المشترك واحترام التنوع الثقافي للأمم والشعوب. كما يلزم تطوير وتكثيف مشاركة منظمة التعاون الإسلامي وذراعها التربوي والثقافي منظمة الإيسيسكو في هذا الجهد العالمي باعتبارهما تهتمان بقضايا الجاليات والأقليات المسلمة في العالم.
كما يتعين على الدولة الفرنسية أن تتعامل مع قضايا الإسلام والمسلمين من منظور ثقافي واجتماعي وحضاري واقتصادي واستراتيجي، يتخلص من آفة الكيل بمكيالين ، ولا يخضع لأجندة سياسية أوانتخابية ظرفية.
د. المحجوب بنسعيد*
*خبير برامج الاتصال والحوار الثقافي / المغرب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.