شرطة تامسنا تُوقف مبحوثاً عنه ظهر في فيديو وهو يهدد قاصراً بسلاح أبيض    اختتام فعاليات دوريي أراغي والمرحوم إبراهيم مزياني ببني بوعياش    تحديد موعد العودة للساعة الإضافية.. توقيت "مرهق" أم ضرورة اقتصادية    إشكاليات سوق إمزورن الأسبوعي تدفع امغار إلى مساءلة وزير الداخلية    مهرجان ربيع وزان السينمائي الدولي يفتتح دورته الأولى: "شاشة كبيرة لمدينة صغيرة"    بيراميدز يهز شباك الجيش 4 مرات    احتجاج يجمع أساتذة للتعليم الأولي    "التنس المغربي" يتواضع في مراكش    تدريبات تعزز انسجام "منتخب U17"    القنصلية العامة في دوسلدورف تكرّم أئمة المساجد والمرشدين الدينيين    الولايات المتحدة ترسل حاملة طائرات ثانية إلى الشرق الأوسط    ريال مدريد يتجاوز سوسييداد ويبلغ نهائي كأس إسبانيا    إعلام الكابرانات ومحاولة التشويش على المنتخب الوطني    المغرب يسرّع استكشاف 44 موقعًا معدنيًا استراتيجيًا لتعزيز مكانته في سوق المعادن النادرة    الادخار الوطني بالمغرب يستقر في أكثر من 28 في المائة على وقع ارتفاع الاستهلاك    الدورة 39 لجائزة الحسن الثاني الكبرى للتنس.. المغربيان إليوت بنشيتريت ويونس العلمي لعروسي يودعان المنافسات    كرة اليد.. المغرب يستضيف النسخة الأولى من بطولة العالم لأقل من 17 سنة ذكورا من 24 أكتوبر إلى 1 نونبر 2025    "أوبك+" تبدأ اليوم في زيادة إنتاج النفط مع بدء التخلص التدريجي من التخفيضات الطوعية    قرار منع تسليم السيارات خارج المطارات يغضب مهنيي التأجير في المغرب    19 قتيلا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية ‏خلال الأسبوع المنصرم    إسبانيا تخصص أزيد من نصف مليون أورو لدعم خدمات النظافة بمعبر بني أنصار    مؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء.. تلاقي وتواصل والتئام حول موائد الإفطار طيلة شهر الصيام بعدد من المؤسسات السجنية(بلاغ)    ترامب يهدد بسحب مليارات من جامعة هارفرد بسبب الاحتجاج ضد حرب غزة    الإسبان يقبلون على داسيا سانديرو المصنوعة في طنجة    بلجيكا تشدد إجراءات الوقاية بعد رصد سلالة حصبة مغربية ببروكسيل    مزور: تسقيف الأسعار سيضر بالعرض والطلب ولن يحل مشكل الغلاء    مجلس الحكومة سيصادق يوم الخميس المقبل على مشروع قانون يتعلق بالتعليم المدرسي    السلطات البلجيكية تشدد تدابير الوقاية بسبب سلالة "بوحمرون" مغربية ببروكسيل    أجواء من الفرح والسرور ببرنامج راديو الناس احتفالا بعيد الفطر رفقة مجموعتي نجوم سلا والسرور (فيديو)    وفاة أحد رواد فن المديح وإصابة 6 آخرين في حادثة سير بالرباط    5 نقابات تعليمية: الوزارة تستهتر بالتّعليم العمومي وتسوّق لإنجازات لا وجود لها في الواقع    الذهب يسجل أعلى مستوى له بسبب المخاوف من الرسوم الجمركية الأمريكية    دراسة معمارية لإنجاز المدخل الثالث لميناء أكادير بما يقارب 20 مليون درهم    "مجموعة العمل من أجل فلسطين" تدعو لمسيرة وطنية بالرباط دعما لغزة    الذهب يسجل أعلى مستوى له بسبب المخاوف من الرسوم الجمركية الأمريكية    ارتفاع ضحايا غزة إلى 1042 شهيدا منذ استئناف اسرائيل عدوانها بعد الهدنة    أغنية تربط الماضي بالحاضر.. عندما يلتقي صوت الحسن الثاني بإيقاعات العصر    أكثر من 122 مليون مسلم قصدوا الحرمين الشريفين في رمضان    هذا موعد رجوع المغرب إلى الساعة الإضافية    أسعار الوقود بالمغرب تسجل انخفاضا طفيفا ابتداء من اليوم    المملكة المغربية تجدد الدعم لاستقرار إفريقيا    بعثة نهضة بركان تصل إلى الكوت ديفوار استعدادا لمواجهة أسيك ميموزا    ارتفاع حصيلة ضحايا زلزال ميانمار إلى 2065 قتيلا    نائب في حزب الله يصف الضربة الاسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية ب"عدوان الكبير جدا"    طقس الثلاثاء: سحب كثيفة مع هبوب رياح قوية    العيد: بين الألم والأمل دعوة للسلام والتسامح    القهوة في خطر.. هل نشرب مشروبًا آخر دون أن ندري؟    أجواء روحانية في صلاة العيد بالعيون    المصور محمد رضا الحوات يبدع في تصوير إحياء صلاة عيد الفطر بمدينة العرائش بلمسة جمالية وروحية ساحرة    طواسينُ الخير    لماذا نقرأ بينما يُمكِننا المشاهدة؟    ما لم تقله "ألف ليلة وليلة"    إشباع الحاجة الجمالية للإنسان؟    دراسة تؤكد أن النساء يتمتعن بحساسية سمع أعلى من الرجال    منظمة الصحة العالمية تواجه عجزا ماليا في 2025 جراء وقف المساعدات الأمريكية    تعرف على كيفية أداء صلاة العيد ووقتها الشرعي حسب الهدي النبوي    انعقاد الدورة الحادية عشر من مهرجان رأس سبارطيل الدولي للفيلم بطنجة    الكسوف الجزئي يحجب أشعة الشمس بنسبة تقل عن 18% في المغرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من يزرع الكراهية يحصد العنف
نشر في بيان اليوم يوم 22 - 10 - 2020

مرة أخرى يحدث في فرنسا عمل إجرامي ارتكبه شاب من أصل شيشاني عمره 18 عاما ، وراح ضحيته أستاذ فرنسي للتاريخ قرب المدرسة التي يشتغل فيها غرب مدينة باريس. وأعلنت الشرطة الفرنسية بأن الضحية الذي يبلغ من العمر 47 عاما قام بعرض رسوم كاريكاتورية عن الرسول الكريم على تلامذته خلال حصة دراسية في إطار نقاش حول حرية التعبير.
لقد وقع هذا الاعتداء في وقت تتواصل فيه جلسات محاكمة شركاء مفترضين لمنفذي الهجوم الذي استهدف في يناير 2015 مكاتب مجلة شارلي إيبدو الساخرة، التي كانت قد نشرت رسوما كاريكاتورية للرسول الكريم,وأثارغضبا عارما ومظاهرات صاخبة في مناطق عديدة من العالم الإسلامي. كما يأتي هذا الاعتداء بعد ثلاثة أسابيع من هجوم نفّذه بآلة حادّة شاب باكستاني يبلغ 25 من العمر أمام المقرّ السابق ل"شارلي إيبدو"، أسفر عن إصابة شخصين بجروح بالغة ، وبعد خطاب الرئيس الفرنسي ماكرون المثير للجدل والذي ألقاه يوم 2 أكتوبر الجاري بضواحي باريس وأعلن فيه أنه على فرنسا "التصدي للنزعة الإسلامية الراديكالية" وأن الإسلام "ديانة تعيش اليوم أزمة في كل مكان في العالم"
بداية يجب التأكيد على أن الهجوم على المدرس الفرنسي وقتله بقطع رأسه يعد عملا إجراميا شنيعا ترفضه القيم الإنسانية المشتركة والقوانين والأعراف والمواثيق الدولية ، كما يتعارض مع قيم الإسلام الداعية إلى منع العنف وقتل الناس ، مصداقا لقوله تعالى في محكم كتابه: ( من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها كأنما أحيا الناس جميعا). وقوله تعالى ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ). وبما أن هذا الحادث الأليم تعرض له مدرس بجوار المؤسسة التعليمية التي يشتغل فيها وبسبب موضوع حصة تعليمية، سأتناوله من زاوية تربوية – تعليمية ، وأمهد لذلك بطرح التساؤلات التالية :
ما الفائدة التربوية والتعليمية المرجوة من عرض ومناقشة رسوم كاريكاتورية لرجل عار ونعته بأنه محمد رسول المسلمين مع تلاميذ قاصرين داخل فصل دراسي في مؤسسة فرنسية رسمية بدعوى تدريب التلاميذ على حرية التعبير? ولماذا لم يكن موضوع النقاش مدى احترام الرئيس الفرنسي لحرية التعبير والرأي حين وبخ صحافيا في جريدة "لو فيجارو" الفرنسية تحدث عن زيارته الأخيرة إلى لبنان ? أو مناقشة حرية الشباب في التعبير عن الرأي في شبكات التواصل الاجتماعي وترويج الأخبار الكاذبة والإساءة للناس باعتباره موضوعا راهنيا يحتاج التلاميذ توعيتهم بمخاطره الأخلاقية والقانونية ، بدل الحديث عن حرية الإساءة لرسول يجله ويحترمه أتباعه من المسلمين عبر العالم ?
هل مناقشة رسوم كاريكاتورية مسيئة لرسول المسلمين مدرج رسميا في البرنامج الدراسي ومعتمد في المقرر المخصص للتلاميذ من أجل تحقيق أهداف بيداغوجية وكفايات فكرية حددتها وزارة التربية والتعليم الفرنسية ، أم هو اختيار خاص من المدرس ومبادرة شخصية منه في إطار اختيار مواضيع تنمي ملكات الفكر النقدي لدى التلاميذ وتدربهم على التعبير عن مواقفهم من قضايا مجتمعية جارية ?
على أي أساس بيداغوجي يطلب المدرس الفرنسي من التلاميذ من ذوي الأصول المسلمة مغادرة القسم قبل عرض الرسوم الكاريكاتورية? أليس في ذلك ممارسة واضحة للتمييز على أساس الدين والمعتقد في فضاء مدرسي من المفروض أن يحرص على محاربة التمييز وتعزيز قيم الإخاء والمحبة بين المتعلمين، خاصة وأنهم مواطنون فرنسيون يدرسون في مؤسسة تعليمية رسمية ? ألم يمارس في فعله هذا الإقصائية على تلامذته من أصول مسلمة ، وساهم عن قصد أو بدونه في زرع الشعور بالانعزالية لديهم? ألا يعتبر دليلا على ذلك قيام بعضهم بإخبار آبائهم بما حصل لهم ? ولماذا دأب هذا المدرس على القيام بعرض الرسوم الكاريكاتورية للرسول محمد كل عام على تلامذته في إطار نقاش حول حرية التعبير منذ الهجوم على مقر مجلة شارلي إيبدو عام 2015 ، حسب ما صرحت به إحدى التلميذات.
ما سبب عدم تقيد المدرس بما ينص عليه "ميثاق العلمانية" والذي يهدف إلى تأطير وتنظيم الحياة داخل المؤسسات التربوية الفرنسية وتحديد العلاقات بين التلاميذ والأساتذة. ويؤكد على ضرورة احترام مبدأ الفصل بين الدين والدولة وفقا للقانون الصادر في 1905 وكذلك الحفاظ على حرية التعبير وحمايتها من المعتقدات الدينية الشخصية. ?
إذا كان المدرس الفرنسي في عرضه للرسوم الكاريكاتورية داخل الفصل الدراسي قد التزم بتنفيذ مقرر تعليمي رسمي يسيء بشكل أو بآخر إلى الدين الإسلامي وإلى رموزه المقدسة ، أليس ذلك عملا غير قانوني ومخالفا لقرارالأمم المتحدة بشأن منع الإساءة للأديان ، ومخالفا لما تدعو إليه منظمة اليونسكو والاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي بخصوص تربية الأطفال على قيم الحوار والتسامح والعيش المشترك ونبذ الكراهية والتمييز العنصري ، والابتعاد عما يسيء إلى المشاعر العقدية والثقافية والدينية للأفراد والجماعات ويرسخ صورا نمطية عنهم ، وتحصينهم من الغلو والتطرف العنيف ?
لماذا لم تمنع وزارة التربية الفرنسية ترويج المضامين التعليمية والمقررات الدراسية المتضمنة إشارات او معلومات مسيئة إلى الأقليات الدينية والمهاجرين وإلى رموزهم ومقدساتهم الدينية في إطار احترام التنوع الثقافي والديني للمجتمع الفرنسي الذي تنص عليه قيم الجمهورية ، خاصة وأن فرنسا عضو مؤسس لمنظمة اليونسكو ومحتضن لمقرها في باريس ترأسها مواطنة فرنسية ، كما تعد دولة فاعلة في منظمة الأمم المتحدة وصادقت على القرار الأممي رقم 65/224 الذي يرفض التحريض على أعمال العنف وكراهية الأجانب، وما يتصل بذلك من تعصب، وتمييز ضد أي دين، ومن استهداف الكتب المقدسة، وأماكن العبادات، والرموز الدينية لجميع الأديان وانتهاك حرماتها ? لماذا هذا المشكل في بعده المستفز والمتكرر والمتراوح بين الفعل ورد الفعل نجده أكثر حضورا في فرنسا بالمقارنة من باقي الدول الأوروبية التي يعيش فيها مسلمون وتنظيمات إسلامية معتدلة وراديكالية ?
من خلال طرح هذه التساؤلات لا نسعى إلى تقديم مبررات لاغتيال المدرس الفرنسي بشكل مباشر أو غير مباشر ، ولكن هدفنا الأساسي هو تسليط الضوء على معطيات تربوية وتعليمية مرتبطة بالحادث ، والتي ربما يكون مدرسون آخرون في فرنسا أو خارجها يقومون بها ، أو قد يقررون القيام بها مستقبلا تضامنا منهم مع زميلهم المقتول غدرا .
إن خبراء التربية يتفقون اليوم على أنه في الظروف الدولية الحالية المتسمة بالاضطراب والعنف والإرهاب الفكري ،أصبح للمعلم دور بارز ومؤثر في نشر ثقافة الحوار وترسيخ آدابه في نفوس المتعلمين. كما أن مهمة المعلم لم تعد منحصرة في تلقين المعارف للمتعلمين ، بل يساهم إلى جانب الأسرة ووسائل الإعلام في ترسيخ القيم النبيلة في سلوكهم وأخلاقهم، وتدريبهم على نبذ الكراهية والتمييز العنصري ، ووجوب احترام الآخر في رأيه ومعتقداته ، والسعي للتعايش معه من خلال التركيز على المشتركات الإنسانية. لذلك تدعو المنظمات الدولية المعنية بتعزيز الحوار وصيانة حقوق الإنسان إلى اشراك المدرسة والمدرسين في الجهود المبذولة من أجل الحد من الكراهية والتطرف العنيف .
في عام 2010 اعتبرت منظمة اليونسكو خِطاب الكراهيّة مفهوما جدليّا واسع المدى، يشمل كلّ أشكال التعبير التي تحمل الكراهيّة ويتمّ تضمينها من خلال الصوت أو الصُّور أو النصوص، وتحمل نمطَيْن من الرسائل، النمط الأوّل موجَّه إلى مجموعة معيّنة للتقليل من احترام أفراد محدّدين، والثاني تعريف الأفراد الذين يحملون وجهات نظر ضدّ الأفراد المُستهدفين أنّهم ليسوا وحدهم . وعرفت اليونسكو خطاب الكراهية بأنه كلّ التعبيرات التي تؤيّد الإيذاء (التمييز أو العدائيّة أو العنف) أو تحرِّض عليه بناءً على انتماء الفرد إلى جماعة اجتماعيّة أو ديموغرافيّة. كما صنفته بانه كل خطاب يُقلِّل من شأن الناس بناءً على أصولهم العرقيّة والاثنيّة أو الدّين أو الجنس أو العُمر أو المجموعة اللّغويّة أو الحالة البدنيّة أو الإعاقة أو التوجّهات الجنسيّة. وتتنوّع صُور خِطاب الكراهيّة لتشمل رسائل الكراهيّة، والرسوم ، وغيرها من الوسائط .
ومنذ أحداث 11 من سبتمبر 2011 ، حرصت المنظومات التربوية والتعليمية على الصعيد العالمي على العناية بترسيخ قيم الحوار والتسامح والتعايش لدى الناشئة، وتحقيق تشبّعهم بحقوق الإنسان فكراً وعملاً، وتعميق الاقتناع لديهم بأنّ التنوع والاختلاف هما عاملا إغناء للثقافة والتنمية، لا عاملا تشتت وانقسام وفُرقة، وأن تماسك المجتمع ووحدة الوطن هما السبيلُ إلى تحقيق الاستقرار والتنمية المنشوديْن. كما تم الاهتمام بالأنشطة الهادفة إلى دمج التربية على حقوق الإنسان وقيم المواطنة والديمقراطية والحوار واحترام التعدّدية في المناهج والمقررات الدراسية . في هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن اليونسكو أصدرت في عام 2019 وثيقة تربوية بعنوان ) درء التطرف العنيف عن طريق التعليم ، الأنشطة الفعالة وآثارها ) . وتتضمن هذه الوثيقة خلاصات توجيهية تهدف إلى تعزيز الأنشطة التعليمية الرامية إلى درء التطرف العنيف في صفوف المتعلمين وضمان الحيلولة دون تحول أماكن التعلم إلى منابت ومراتع للتطرف العنيف . كما تسعى هذه الوثيقة إلى الإجابة عن سؤالين أساسين هما : ماهي أنواع الأنشطة التعليمية التي يحتمل أن تكون أكثر فعالية من غيرها ، وماهي الآثار المثبتة الناجمة عن الأنشطة التعليمية الرامية إلى درء التطرف العنيف.
وترتكز مناهج التربية والتعليم في الدول الغربية الأوروبية على نظم علمانية غير دينية حيث لا يتم تدريس الدين في المدارس الحكومية وذلك استنادا إلى قرار إلغاء مادة التربية الدينية في إطار تطبيق مبدأ فصل الدين عن الدولة في معظم الدول الغربية منذ أواخر القرن التاسع عشر. وعلى هذا الأساس أصبح الدين شأنا داخليا للإنسان الغربي ،ومن ثم فإن الأسرة هي التي تقوم بمهمة التربية الدينية وليس المدرسة. وتبعا لذلك تكاد تخلو المناهج والمقررات الدراسية في الغرب من مادة تدريس الأديان حيث تتم الإشارة فقط إلى تاريخ الأديان في كتب التاريخ المدرسية.
في فرنسا هناك تأكيد على حيادية الدولة، لأن قانون عام 1905 يعطي للعلمانية مضمونا إيجابيا حيث ينص على ما يلي : "تضمن الجمهورية حرية المعتقد. وتضمن الممارسة الحرة للشعائر الدينية، مع مراعاة القيود، المنصوص عليها فيما يلي، وذلك لصالح النظام العام". كما ينص هذا القانون الدولة الفرنسية تسهر على تمكين جميع أتباع الأديان من التعبير عن نفسهم. كما تسمح كذلك " للمجموعات الأكثر ضعفا أو الأقل عددا أو الأحدث عهدا بالتمتّع بهذه الحرية وذلك مع مراعاة مقتضيات النظام العام. تضمن العلمانية لجميع الخيارات الروحانية أو الدينية الإطار الشرعي الملائم لهذا التعبير".
ويسري هذا الأمر المجال التربوي والتعليمي، حيث يؤكد القانون المذكورعلى ضرورة " تمكين التلاميذ من اكتساب العلم وبناء الذات في جو من الطمأنينة من أجل أن يتملّكوا استقلالية الرأي. و يتعين على الدولة أن تمنع عنف وترهيب المجتمع من التأثير على عقولهم: حتى ولو سلمنا بأن المدرسة لا يمكن أن تكون مكاناً مطهراً ومعقماً، لا ينبغي أن تصبح صدى لأهواء الناس و إلا تعرضت للفشل والإفلاس في مهمتها التربوية"
لكن من جهة أخرى وفي تناقض مع منطوق هذا القانون ، نجد أن مضمون الكتاب المدرسي يعد من أهم مصادر الرؤية الفرنسية للإسلام. فصورة الإسلام وخاصة العرب في الكتب المدرسية الفرنسية هي امتداد للصورة التاريخية التراكمية السلبية لهذا الدين وحضارته وأتباعه. كما أن هذه الكتب حافلة بمصطلحات تحمل أحكاما قيمية بشأن الإسلام والمسلمين كالتطرف وعدم التسامح والتواكل والعنف والقمع . ففي المقررات والكتب المدرسية لمادة التاريخ في فرنسا مثلا لازال يوجد بها كثير من الشوائب والسلبيات والإغفال المتعمد للحضارة العربية والإسلامية، وقد يرجع ذلك إلى الخلفية التاريخية والآثار المترتبة عن استعمار فرنسا لدول إسلامية في المغرب العربي، والسياسة الاستعمارية التي اتبعتها فرنسا لتشويه صورة المسلمين في هذه الدول وتحقيرهم والاستهزاء بمعتقداتهم. ولذلك ترسخت هذه الصورة السلبية عن المسلمين والتصقت هذه التشوهات في أذهان الفرنسيين عن المسلمين عامة.
وبالرغم من انتشار ظاهرة تشويه صورة الإسلام والمسلمين في الكتب والمقررات المدرسية في الغرب ، فإن ذلك لم يمنع من ظهور مبادرات سياسية وأكاديمية سعت لدراسة الظاهرة والحد من آثارها السيئة وكشف تناقضها وتعارضها مع الممارسات والشعارات المنادية باحترام حقوق الإنسان واحترام التنوع الثقافي وتشجيع التسامح بين الأديان السماوية وتفعيل الحوار بين شعوب العالم. ومن بين تلك المبادرات الجادة والهامة على الصعيد الأوربي ، نذكر ما قام به مجلس أوربا منذ العقد الأخير من القرن العشرين حيث أولى اهتماما خاصا بقضية توحيد المناهج الدراسية لمادة التاريخ في دول الاتحاد الأوربي، كما اهتم بوجه خاص بتنقية تلك المناهج والكتب والمقررات المدرسية الأوربية من القوالب النمطية السلبية والشوائب التي تسيء إلى كل من المسلمين واليهود .
كما نشير إلى مؤتمر الحوار العربي الأوروبي حول صورة الثقافة العربية الاسلامية فى كتب التاريخ المدرسية الأوروبية ، الذي عقد في نوفمبر 2006 بمقر الجامعة العربية في القاهرة تحت شعار ( تعلم كيفية العيش معا )، وشارك في أعماله العديد من أساتذة الجامعات العربية والأوربية ، وحضره مسؤولون في بعض وزارات التعليم الأوربية ، ودور النشر المدرسية الأوربية ، والعديد من العلماء والشخصيات العربية والأوربية. وتم الاتفاق في ختام أعمال هذا المؤتمر على وجوب التصدي لعملية العداء للإسلام وتصحيح الأخطاء والصور النمطية التي تشوه صورة العرب والمسلمين والإسلام وحضارته في الكتب المدرسية الأوربية والغربية عموما ، باعتبار تلك الأخطاء تؤدي إلى مشاعر الكراهية بين الشعوب وإلى إشعال نار الحروب وانعدام السلم.
في ختام هذا المقال ، نؤكد من جديد أن اغتيال المدرس الفرنسي عمل إجرامي ينبذه الإسلام وينهى عنه ، وترفضه الأخلاق والقيم الإنسانية المشتركة ، وتدينه القوانين والأعراف والمواثيق الدولية المدافعة عن كرامة الإنسان وحقه في الحياة . أنها دوامة خطيرة وسلسلة متواصلة من الأفعال وردود الأفعال العنيفة والتي لا يستفيد منها سوى دعاة التطرف والعنف والكراهية والتمييز العنصري والإرهاب بغض النظر عن المجال الجغرافي واللغوي والعرقي والديني الذين ينتمون إليه.
لقد أصبح مستعجلا تدخل عقلاء المجتمع الدولي وحكماءه من السياسيين والمثقفين والإعلاميين والقيادات الدينية والفاعلين في مؤسسات المجتمع المدني وبذل المزيد من الجهود من أجل تفعيل خطط العمل التربوية والثقافية والدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية للحد من الإساءة للأديان ورموزها وممارسة التحقير والازدراء والتمييز والكراهية قولا وفعلا في حق الأقليات الإثنية والدينية والمهاجرين واللاجئين . لقد أضحى اليوم التمييز الديني من أشد أشكال التمييز العنصري خطورة وزعزعة للوئام الإنساني والسلام العالمي .
ويتعين تدخل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة – يونسكو- بثقلها الدولي والمعنوي وباعتبارها رافعة شعار ) التربية من أجل السلام ( لتفعيل قوي ومؤثر لخطط عملها وبرامجها الهادفة إلى درء التطرف العنيف عن طريق التعليم وتعزيز قيم التسامح والعيش المشترك واحترام التنوع الثقافي للأمم والشعوب. كما يلزم تطوير وتكثيف مشاركة منظمة التعاون الإسلامي وذراعها التربوي والثقافي منظمة الإيسيسكو في هذا الجهد العالمي باعتبارهما تهتمان بقضايا الجاليات والأقليات المسلمة في العالم.
كما يتعين على الدولة الفرنسية أن تتعامل مع قضايا الإسلام والمسلمين من منظور ثقافي واجتماعي وحضاري واقتصادي واستراتيجي، يتخلص من آفة الكيل بمكيالين ، ولا يخضع لأجندة سياسية أوانتخابية ظرفية.
د. المحجوب بنسعيد*
*خبير برامج الاتصال والحوار الثقافي / المغرب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.