جسر جوي جديد بين تشنغدو ودبي.. دفعة قوية لحركة التجارة العالمية    حصاد وفير في مشروع تطوير الأرز الهجين بجيهانغا في بوروندي بدعم صيني    لماذا يستحق أخنوش ولاية ثانية على رأس الحكومة المغربية؟    البوليساريو تنهار… وتصنيفها حركة ارهابية هو لها رصاصة رحمة    سانشيز يشيد بتعاون المغرب لإعادة الكهرباء    مالي والنيجر وبوركينافاسو.. جلالة الملك يستقبل وزراء خارجية دول الساحل    أسعار الذهب تبصم على ارتفاع كبير    رئيس الحكومة الإسبانية: استعدنا 50% من إمدادات الكهرباء.. ونعمل على استرجاع الوضع بالكامل    الأمن يفكك شبكة إجرامية متخصصة في تأسيس شركات وهمية والتزوير    "حريق تغجيجت" يوقف 4 قاصرين    عضو في الكونغرس الأمريكي يؤكد دعم "انتفاضة الشعب التونسي" ضد قيس سعيّد    اضطرابات في مطارات المملكة بسبب انقطاع التيار الكهربائي في إسبانيا    الملك يستقبل وزراء خارجية بلدان تحالف دول الساحل    الملك محمد السادس يهنئ بنكيران    ببلوغ نهائي كأس إفريقيا للأمم .. "لبؤات الفوتسال" يتأهلن إلى المونديال    فاتح ذي القعدة غدا الثلاثاء بالمغرب    حصيلة الدورة 30 للمعرض الدولي للنشر والكتاب    انقطاع الكهرباء في إسبانيا والبرتغال وفرنسا يوقف خدمة الإنترنت لشركة أورونج في المغرب    وزير العدل.. مراجعة الإطار القانوني للأسلحة البيضاء أخذ حيزا مهما ضمن مشروع مراجعة القانون الجنائي    التوفيق: إجمالي المكافآت التي قدمتها الوزارة للقيمين الدينيين في 2024 بلغ مليارين و350 مليون درهم    برلمانات الجنوب العالمي تعوّل على منتدى الرباط لمناقشة "قضايا مصيرية"    "الأخضر" ينهي تداولات البورصة    تداعيات الكارثة الأوروبية تصل إلى المغرب .. أورنج خارج التغطية    مهنيو الصحة بأكادير يطالبون بحماية دولية للطواقم الطبية في غزة    الكهرباء تعود إلى مناطق بإسبانيا    ‪بنسعيد يشارك في قمة أبوظبي ‬    الرياح القوية تلغي الملاحة البحرية بميناء طنجة المدينة    دوري أبطال أوروبا.. إنتر يواجه برشلونة من دون بافار    شبهات هجوم سيبراني بخصوص الشلل الكهربائي الشامل في إسبانيا    نزهة بدوان رئيسة لمنطقة شمال إفريقيا بالاتحاد الإفريقي للرياضة للجميع    يضرب موعد قويا مع سيمبا التنزاني .. نهضة بركان في نهائي كأس الكونفيدرالية الإفريقية للمرة الخامسة في العقد الأخير    أزيد من 3000 مشاركة في محطة تزنيت من «خطوات النصر النسائية»    الدار البيضاء.. توقيف عشريني بشبهة الاعتداء على ممتلكات خاصة    بوتين يعلن هدنة مؤقتة لمدة ثلاثة أيام    منتدى الحوار البرلماني جنوب- جنوب محفل هام لتوطيد التعاون بشأن القضايا المطروحة إقليميا وقاريا ودوليا (ولد الرشيد)    منظمة الصحة العالمية: التلقيح ينقذ 1.8 مليون شخص بإفريقيا في عام واحد    مزور يؤكد على التزام المغرب بتعزيز علاقاته الاقتصادية مع الصين في إطار المنتدى الصيني العربي    أزيد من 403 آلاف زائر… معرض الكتاب بالرباط يختتم دورته الثلاثين بنجاح لافت    هشام مبشور يفوز بلقب النسخة الثامنة لكأس الغولف للصحافيين الرياضيين بأكادير    مصر تفتتح "الكان" بفوز مهم على جنوب إفريقيا    ترايل أمزميز.. العداؤون المغاربة يتألقون في النسخة السابعة    ندوة توعوية بوجدة تفتح النقاش حول التحرش الجنسي بالمدارس    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    انطلاق جلسات استماع في محكمة العدل الدولية بشأن التزامات إسرائيل الإنسانية    خط جوي مباشر يربط الدار البيضاء بكاتانيا الإيطالية    دراسة: متلازمة التمثيل الغذائي ترفع خطر الإصابة بالخرف المبكر    بريطانيا .. آلاف الوفيات سنويا مرتبطة بتناول الأغذية فائقة المعالجة    اختيار نوع الولادة: حرية قرار أم ضغوط مخفية؟    شهادات تبسط مسار الناقدة رشيدة بنمسعود بين الكتابة والنضالات الحقوقية    "جرح صعيب".. صوت عماد التطواني يلامس وجدان عشاق الطرب الشعبي    مي حريري تطلق " لا تغلط " بالتعاون مع وتري    العرائش: عزفٌ جنائزي على أوتار الخراب !    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    منصف السلاوي خبير اللقاحات يقدم سيرته بمعرض الكتاب: علينا أن نستعد للحروب ضد الأوبئة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من يزرع الكراهية يحصد العنف
نشر في بيان اليوم يوم 22 - 10 - 2020

مرة أخرى يحدث في فرنسا عمل إجرامي ارتكبه شاب من أصل شيشاني عمره 18 عاما ، وراح ضحيته أستاذ فرنسي للتاريخ قرب المدرسة التي يشتغل فيها غرب مدينة باريس. وأعلنت الشرطة الفرنسية بأن الضحية الذي يبلغ من العمر 47 عاما قام بعرض رسوم كاريكاتورية عن الرسول الكريم على تلامذته خلال حصة دراسية في إطار نقاش حول حرية التعبير.
لقد وقع هذا الاعتداء في وقت تتواصل فيه جلسات محاكمة شركاء مفترضين لمنفذي الهجوم الذي استهدف في يناير 2015 مكاتب مجلة شارلي إيبدو الساخرة، التي كانت قد نشرت رسوما كاريكاتورية للرسول الكريم,وأثارغضبا عارما ومظاهرات صاخبة في مناطق عديدة من العالم الإسلامي. كما يأتي هذا الاعتداء بعد ثلاثة أسابيع من هجوم نفّذه بآلة حادّة شاب باكستاني يبلغ 25 من العمر أمام المقرّ السابق ل"شارلي إيبدو"، أسفر عن إصابة شخصين بجروح بالغة ، وبعد خطاب الرئيس الفرنسي ماكرون المثير للجدل والذي ألقاه يوم 2 أكتوبر الجاري بضواحي باريس وأعلن فيه أنه على فرنسا "التصدي للنزعة الإسلامية الراديكالية" وأن الإسلام "ديانة تعيش اليوم أزمة في كل مكان في العالم"
بداية يجب التأكيد على أن الهجوم على المدرس الفرنسي وقتله بقطع رأسه يعد عملا إجراميا شنيعا ترفضه القيم الإنسانية المشتركة والقوانين والأعراف والمواثيق الدولية ، كما يتعارض مع قيم الإسلام الداعية إلى منع العنف وقتل الناس ، مصداقا لقوله تعالى في محكم كتابه: ( من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها كأنما أحيا الناس جميعا). وقوله تعالى ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ). وبما أن هذا الحادث الأليم تعرض له مدرس بجوار المؤسسة التعليمية التي يشتغل فيها وبسبب موضوع حصة تعليمية، سأتناوله من زاوية تربوية – تعليمية ، وأمهد لذلك بطرح التساؤلات التالية :
ما الفائدة التربوية والتعليمية المرجوة من عرض ومناقشة رسوم كاريكاتورية لرجل عار ونعته بأنه محمد رسول المسلمين مع تلاميذ قاصرين داخل فصل دراسي في مؤسسة فرنسية رسمية بدعوى تدريب التلاميذ على حرية التعبير? ولماذا لم يكن موضوع النقاش مدى احترام الرئيس الفرنسي لحرية التعبير والرأي حين وبخ صحافيا في جريدة "لو فيجارو" الفرنسية تحدث عن زيارته الأخيرة إلى لبنان ? أو مناقشة حرية الشباب في التعبير عن الرأي في شبكات التواصل الاجتماعي وترويج الأخبار الكاذبة والإساءة للناس باعتباره موضوعا راهنيا يحتاج التلاميذ توعيتهم بمخاطره الأخلاقية والقانونية ، بدل الحديث عن حرية الإساءة لرسول يجله ويحترمه أتباعه من المسلمين عبر العالم ?
هل مناقشة رسوم كاريكاتورية مسيئة لرسول المسلمين مدرج رسميا في البرنامج الدراسي ومعتمد في المقرر المخصص للتلاميذ من أجل تحقيق أهداف بيداغوجية وكفايات فكرية حددتها وزارة التربية والتعليم الفرنسية ، أم هو اختيار خاص من المدرس ومبادرة شخصية منه في إطار اختيار مواضيع تنمي ملكات الفكر النقدي لدى التلاميذ وتدربهم على التعبير عن مواقفهم من قضايا مجتمعية جارية ?
على أي أساس بيداغوجي يطلب المدرس الفرنسي من التلاميذ من ذوي الأصول المسلمة مغادرة القسم قبل عرض الرسوم الكاريكاتورية? أليس في ذلك ممارسة واضحة للتمييز على أساس الدين والمعتقد في فضاء مدرسي من المفروض أن يحرص على محاربة التمييز وتعزيز قيم الإخاء والمحبة بين المتعلمين، خاصة وأنهم مواطنون فرنسيون يدرسون في مؤسسة تعليمية رسمية ? ألم يمارس في فعله هذا الإقصائية على تلامذته من أصول مسلمة ، وساهم عن قصد أو بدونه في زرع الشعور بالانعزالية لديهم? ألا يعتبر دليلا على ذلك قيام بعضهم بإخبار آبائهم بما حصل لهم ? ولماذا دأب هذا المدرس على القيام بعرض الرسوم الكاريكاتورية للرسول محمد كل عام على تلامذته في إطار نقاش حول حرية التعبير منذ الهجوم على مقر مجلة شارلي إيبدو عام 2015 ، حسب ما صرحت به إحدى التلميذات.
ما سبب عدم تقيد المدرس بما ينص عليه "ميثاق العلمانية" والذي يهدف إلى تأطير وتنظيم الحياة داخل المؤسسات التربوية الفرنسية وتحديد العلاقات بين التلاميذ والأساتذة. ويؤكد على ضرورة احترام مبدأ الفصل بين الدين والدولة وفقا للقانون الصادر في 1905 وكذلك الحفاظ على حرية التعبير وحمايتها من المعتقدات الدينية الشخصية. ?
إذا كان المدرس الفرنسي في عرضه للرسوم الكاريكاتورية داخل الفصل الدراسي قد التزم بتنفيذ مقرر تعليمي رسمي يسيء بشكل أو بآخر إلى الدين الإسلامي وإلى رموزه المقدسة ، أليس ذلك عملا غير قانوني ومخالفا لقرارالأمم المتحدة بشأن منع الإساءة للأديان ، ومخالفا لما تدعو إليه منظمة اليونسكو والاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي بخصوص تربية الأطفال على قيم الحوار والتسامح والعيش المشترك ونبذ الكراهية والتمييز العنصري ، والابتعاد عما يسيء إلى المشاعر العقدية والثقافية والدينية للأفراد والجماعات ويرسخ صورا نمطية عنهم ، وتحصينهم من الغلو والتطرف العنيف ?
لماذا لم تمنع وزارة التربية الفرنسية ترويج المضامين التعليمية والمقررات الدراسية المتضمنة إشارات او معلومات مسيئة إلى الأقليات الدينية والمهاجرين وإلى رموزهم ومقدساتهم الدينية في إطار احترام التنوع الثقافي والديني للمجتمع الفرنسي الذي تنص عليه قيم الجمهورية ، خاصة وأن فرنسا عضو مؤسس لمنظمة اليونسكو ومحتضن لمقرها في باريس ترأسها مواطنة فرنسية ، كما تعد دولة فاعلة في منظمة الأمم المتحدة وصادقت على القرار الأممي رقم 65/224 الذي يرفض التحريض على أعمال العنف وكراهية الأجانب، وما يتصل بذلك من تعصب، وتمييز ضد أي دين، ومن استهداف الكتب المقدسة، وأماكن العبادات، والرموز الدينية لجميع الأديان وانتهاك حرماتها ? لماذا هذا المشكل في بعده المستفز والمتكرر والمتراوح بين الفعل ورد الفعل نجده أكثر حضورا في فرنسا بالمقارنة من باقي الدول الأوروبية التي يعيش فيها مسلمون وتنظيمات إسلامية معتدلة وراديكالية ?
من خلال طرح هذه التساؤلات لا نسعى إلى تقديم مبررات لاغتيال المدرس الفرنسي بشكل مباشر أو غير مباشر ، ولكن هدفنا الأساسي هو تسليط الضوء على معطيات تربوية وتعليمية مرتبطة بالحادث ، والتي ربما يكون مدرسون آخرون في فرنسا أو خارجها يقومون بها ، أو قد يقررون القيام بها مستقبلا تضامنا منهم مع زميلهم المقتول غدرا .
إن خبراء التربية يتفقون اليوم على أنه في الظروف الدولية الحالية المتسمة بالاضطراب والعنف والإرهاب الفكري ،أصبح للمعلم دور بارز ومؤثر في نشر ثقافة الحوار وترسيخ آدابه في نفوس المتعلمين. كما أن مهمة المعلم لم تعد منحصرة في تلقين المعارف للمتعلمين ، بل يساهم إلى جانب الأسرة ووسائل الإعلام في ترسيخ القيم النبيلة في سلوكهم وأخلاقهم، وتدريبهم على نبذ الكراهية والتمييز العنصري ، ووجوب احترام الآخر في رأيه ومعتقداته ، والسعي للتعايش معه من خلال التركيز على المشتركات الإنسانية. لذلك تدعو المنظمات الدولية المعنية بتعزيز الحوار وصيانة حقوق الإنسان إلى اشراك المدرسة والمدرسين في الجهود المبذولة من أجل الحد من الكراهية والتطرف العنيف .
في عام 2010 اعتبرت منظمة اليونسكو خِطاب الكراهيّة مفهوما جدليّا واسع المدى، يشمل كلّ أشكال التعبير التي تحمل الكراهيّة ويتمّ تضمينها من خلال الصوت أو الصُّور أو النصوص، وتحمل نمطَيْن من الرسائل، النمط الأوّل موجَّه إلى مجموعة معيّنة للتقليل من احترام أفراد محدّدين، والثاني تعريف الأفراد الذين يحملون وجهات نظر ضدّ الأفراد المُستهدفين أنّهم ليسوا وحدهم . وعرفت اليونسكو خطاب الكراهية بأنه كلّ التعبيرات التي تؤيّد الإيذاء (التمييز أو العدائيّة أو العنف) أو تحرِّض عليه بناءً على انتماء الفرد إلى جماعة اجتماعيّة أو ديموغرافيّة. كما صنفته بانه كل خطاب يُقلِّل من شأن الناس بناءً على أصولهم العرقيّة والاثنيّة أو الدّين أو الجنس أو العُمر أو المجموعة اللّغويّة أو الحالة البدنيّة أو الإعاقة أو التوجّهات الجنسيّة. وتتنوّع صُور خِطاب الكراهيّة لتشمل رسائل الكراهيّة، والرسوم ، وغيرها من الوسائط .
ومنذ أحداث 11 من سبتمبر 2011 ، حرصت المنظومات التربوية والتعليمية على الصعيد العالمي على العناية بترسيخ قيم الحوار والتسامح والتعايش لدى الناشئة، وتحقيق تشبّعهم بحقوق الإنسان فكراً وعملاً، وتعميق الاقتناع لديهم بأنّ التنوع والاختلاف هما عاملا إغناء للثقافة والتنمية، لا عاملا تشتت وانقسام وفُرقة، وأن تماسك المجتمع ووحدة الوطن هما السبيلُ إلى تحقيق الاستقرار والتنمية المنشوديْن. كما تم الاهتمام بالأنشطة الهادفة إلى دمج التربية على حقوق الإنسان وقيم المواطنة والديمقراطية والحوار واحترام التعدّدية في المناهج والمقررات الدراسية . في هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن اليونسكو أصدرت في عام 2019 وثيقة تربوية بعنوان ) درء التطرف العنيف عن طريق التعليم ، الأنشطة الفعالة وآثارها ) . وتتضمن هذه الوثيقة خلاصات توجيهية تهدف إلى تعزيز الأنشطة التعليمية الرامية إلى درء التطرف العنيف في صفوف المتعلمين وضمان الحيلولة دون تحول أماكن التعلم إلى منابت ومراتع للتطرف العنيف . كما تسعى هذه الوثيقة إلى الإجابة عن سؤالين أساسين هما : ماهي أنواع الأنشطة التعليمية التي يحتمل أن تكون أكثر فعالية من غيرها ، وماهي الآثار المثبتة الناجمة عن الأنشطة التعليمية الرامية إلى درء التطرف العنيف.
وترتكز مناهج التربية والتعليم في الدول الغربية الأوروبية على نظم علمانية غير دينية حيث لا يتم تدريس الدين في المدارس الحكومية وذلك استنادا إلى قرار إلغاء مادة التربية الدينية في إطار تطبيق مبدأ فصل الدين عن الدولة في معظم الدول الغربية منذ أواخر القرن التاسع عشر. وعلى هذا الأساس أصبح الدين شأنا داخليا للإنسان الغربي ،ومن ثم فإن الأسرة هي التي تقوم بمهمة التربية الدينية وليس المدرسة. وتبعا لذلك تكاد تخلو المناهج والمقررات الدراسية في الغرب من مادة تدريس الأديان حيث تتم الإشارة فقط إلى تاريخ الأديان في كتب التاريخ المدرسية.
في فرنسا هناك تأكيد على حيادية الدولة، لأن قانون عام 1905 يعطي للعلمانية مضمونا إيجابيا حيث ينص على ما يلي : "تضمن الجمهورية حرية المعتقد. وتضمن الممارسة الحرة للشعائر الدينية، مع مراعاة القيود، المنصوص عليها فيما يلي، وذلك لصالح النظام العام". كما ينص هذا القانون الدولة الفرنسية تسهر على تمكين جميع أتباع الأديان من التعبير عن نفسهم. كما تسمح كذلك " للمجموعات الأكثر ضعفا أو الأقل عددا أو الأحدث عهدا بالتمتّع بهذه الحرية وذلك مع مراعاة مقتضيات النظام العام. تضمن العلمانية لجميع الخيارات الروحانية أو الدينية الإطار الشرعي الملائم لهذا التعبير".
ويسري هذا الأمر المجال التربوي والتعليمي، حيث يؤكد القانون المذكورعلى ضرورة " تمكين التلاميذ من اكتساب العلم وبناء الذات في جو من الطمأنينة من أجل أن يتملّكوا استقلالية الرأي. و يتعين على الدولة أن تمنع عنف وترهيب المجتمع من التأثير على عقولهم: حتى ولو سلمنا بأن المدرسة لا يمكن أن تكون مكاناً مطهراً ومعقماً، لا ينبغي أن تصبح صدى لأهواء الناس و إلا تعرضت للفشل والإفلاس في مهمتها التربوية"
لكن من جهة أخرى وفي تناقض مع منطوق هذا القانون ، نجد أن مضمون الكتاب المدرسي يعد من أهم مصادر الرؤية الفرنسية للإسلام. فصورة الإسلام وخاصة العرب في الكتب المدرسية الفرنسية هي امتداد للصورة التاريخية التراكمية السلبية لهذا الدين وحضارته وأتباعه. كما أن هذه الكتب حافلة بمصطلحات تحمل أحكاما قيمية بشأن الإسلام والمسلمين كالتطرف وعدم التسامح والتواكل والعنف والقمع . ففي المقررات والكتب المدرسية لمادة التاريخ في فرنسا مثلا لازال يوجد بها كثير من الشوائب والسلبيات والإغفال المتعمد للحضارة العربية والإسلامية، وقد يرجع ذلك إلى الخلفية التاريخية والآثار المترتبة عن استعمار فرنسا لدول إسلامية في المغرب العربي، والسياسة الاستعمارية التي اتبعتها فرنسا لتشويه صورة المسلمين في هذه الدول وتحقيرهم والاستهزاء بمعتقداتهم. ولذلك ترسخت هذه الصورة السلبية عن المسلمين والتصقت هذه التشوهات في أذهان الفرنسيين عن المسلمين عامة.
وبالرغم من انتشار ظاهرة تشويه صورة الإسلام والمسلمين في الكتب والمقررات المدرسية في الغرب ، فإن ذلك لم يمنع من ظهور مبادرات سياسية وأكاديمية سعت لدراسة الظاهرة والحد من آثارها السيئة وكشف تناقضها وتعارضها مع الممارسات والشعارات المنادية باحترام حقوق الإنسان واحترام التنوع الثقافي وتشجيع التسامح بين الأديان السماوية وتفعيل الحوار بين شعوب العالم. ومن بين تلك المبادرات الجادة والهامة على الصعيد الأوربي ، نذكر ما قام به مجلس أوربا منذ العقد الأخير من القرن العشرين حيث أولى اهتماما خاصا بقضية توحيد المناهج الدراسية لمادة التاريخ في دول الاتحاد الأوربي، كما اهتم بوجه خاص بتنقية تلك المناهج والكتب والمقررات المدرسية الأوربية من القوالب النمطية السلبية والشوائب التي تسيء إلى كل من المسلمين واليهود .
كما نشير إلى مؤتمر الحوار العربي الأوروبي حول صورة الثقافة العربية الاسلامية فى كتب التاريخ المدرسية الأوروبية ، الذي عقد في نوفمبر 2006 بمقر الجامعة العربية في القاهرة تحت شعار ( تعلم كيفية العيش معا )، وشارك في أعماله العديد من أساتذة الجامعات العربية والأوربية ، وحضره مسؤولون في بعض وزارات التعليم الأوربية ، ودور النشر المدرسية الأوربية ، والعديد من العلماء والشخصيات العربية والأوربية. وتم الاتفاق في ختام أعمال هذا المؤتمر على وجوب التصدي لعملية العداء للإسلام وتصحيح الأخطاء والصور النمطية التي تشوه صورة العرب والمسلمين والإسلام وحضارته في الكتب المدرسية الأوربية والغربية عموما ، باعتبار تلك الأخطاء تؤدي إلى مشاعر الكراهية بين الشعوب وإلى إشعال نار الحروب وانعدام السلم.
في ختام هذا المقال ، نؤكد من جديد أن اغتيال المدرس الفرنسي عمل إجرامي ينبذه الإسلام وينهى عنه ، وترفضه الأخلاق والقيم الإنسانية المشتركة ، وتدينه القوانين والأعراف والمواثيق الدولية المدافعة عن كرامة الإنسان وحقه في الحياة . أنها دوامة خطيرة وسلسلة متواصلة من الأفعال وردود الأفعال العنيفة والتي لا يستفيد منها سوى دعاة التطرف والعنف والكراهية والتمييز العنصري والإرهاب بغض النظر عن المجال الجغرافي واللغوي والعرقي والديني الذين ينتمون إليه.
لقد أصبح مستعجلا تدخل عقلاء المجتمع الدولي وحكماءه من السياسيين والمثقفين والإعلاميين والقيادات الدينية والفاعلين في مؤسسات المجتمع المدني وبذل المزيد من الجهود من أجل تفعيل خطط العمل التربوية والثقافية والدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية للحد من الإساءة للأديان ورموزها وممارسة التحقير والازدراء والتمييز والكراهية قولا وفعلا في حق الأقليات الإثنية والدينية والمهاجرين واللاجئين . لقد أضحى اليوم التمييز الديني من أشد أشكال التمييز العنصري خطورة وزعزعة للوئام الإنساني والسلام العالمي .
ويتعين تدخل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة – يونسكو- بثقلها الدولي والمعنوي وباعتبارها رافعة شعار ) التربية من أجل السلام ( لتفعيل قوي ومؤثر لخطط عملها وبرامجها الهادفة إلى درء التطرف العنيف عن طريق التعليم وتعزيز قيم التسامح والعيش المشترك واحترام التنوع الثقافي للأمم والشعوب. كما يلزم تطوير وتكثيف مشاركة منظمة التعاون الإسلامي وذراعها التربوي والثقافي منظمة الإيسيسكو في هذا الجهد العالمي باعتبارهما تهتمان بقضايا الجاليات والأقليات المسلمة في العالم.
كما يتعين على الدولة الفرنسية أن تتعامل مع قضايا الإسلام والمسلمين من منظور ثقافي واجتماعي وحضاري واقتصادي واستراتيجي، يتخلص من آفة الكيل بمكيالين ، ولا يخضع لأجندة سياسية أوانتخابية ظرفية.
د. المحجوب بنسعيد*
*خبير برامج الاتصال والحوار الثقافي / المغرب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.