لماذا ندرس الدين أو الأديان في المؤسسات التعليمية؟ لا يمكن بأي حال من الأحوال الاتفاق على جواب واحد وحاسم ونهائي طالما أن النظام التعليمي غير البريء في جوهره يعكس من خلال منطلقاته ومبادئه السياسة العامة للدولة، ويحمل صراحة أو ضمنا مجموع القيم التي يدافع عنها أو يروج لها. كما أن التحولات المتتالية التي بدأ يشهدها العالم في العقود الأخيرة لها الأثر البارز في إعادة تحديد الأهداف المتوخاة من تدريس الدين أو الأديان في المدارس والجامعات. ففي دولة مثل فرنسا متشبعة بروح العلمانية، وما يترتب عنها من ضمان لحرية الاعتقاد، وفصل الكنيسة عن الدولة يختزل الهدف من تدريس الدين أو الأديان في التطلع إلى معرفة أوسع وأفضل للعالم المعاصر. إلا أن هذا الهدف الذي يعتبر في الوقت الراهن بديهيا كان في الماضي القريب أمرا غير ذي أهمية اقتناعا من القائمين على الشأن العام بفرنسا بأنها سائرة حتما في اتجاه علمنة المجتمع. لكن ما حدث بعد ذلك سواء في فرنسا أو خارجها من بزوغ قوي للظاهرة الدينية جعل العلمانية تقف وجها لوجه أمام الدين وقد اتخذ لنفسه تمظهرات جديدة لا عهد لها بها. وأصبح المتعلمون في ظل هذه المتغيرات في أمس الحاجة إلى من يساعدهم على فهم ما يجري في العالم، لاسيما وأن تكنولوجيا الإعلام والتواصل أفلحت في أن تحول كوكبنا في بضعة سنين إلى قرية صغيرة. وهكذا لم يعد خافيا على أحد أن الدين كان وراء انهيار يوغوسلافيا، وانقسامها إلى دويلات بعد أن عانت بعض أطرافها الأمرين من جراء التطهير الديني والعرقي. وكان أمرا لافتا للانتباه أن يكتشف الأوروبيون أن القارة العجوز تضم بين ظهرانيها ومنذ عدة قرون مسلمين لم يفدوا إليها من أفريقيا أو آىسيا مثلما هو الحال بالنسبة إلى مهاجريها الذين استقدمتهم للعمالة فصاروا بين عشية وضحاها جزءا من النسيج الاجتماعي في أوروبا. إذا كان هذا هو الهدف من تدريس الدين أو الأديان في فرنسا، وذلك بصرف النظر عن المدارس الدينية أو الكنسية التي تحتفظ بأهدافها الخاصة فإن وضعية تدريس الدين بالمغرب تختلف تماما. فباستثناء أبناء اليهود المغاربة الذين يعفون من الدروس الدينية فإن مواطنيهم المسلمين يتلقون في مسارهم الدراسي الذي يبتدئ بالتعليم الأولي وينتهي مع حصولهم على الباكالوريا دروسا في التربية الإسلامية. أضف إلى ذلك أن نظام التربية والتكوين برمته يهتدي بمبادئ العقيدة الإسلامية وقيمها. ويفصل دليل الحياة المدرسية أكثر عندما يعلن بأن أنشطة التربية على القيم الدينية هي أنشطة تسعى إلى تربية الناشئة على قيم ومبادئ الشريعة الإسلامية السمحة فقها وممارسة، بما يساهم في تقوية ثقافتهم الإسلامية وتصحيح معتقداتهم الخاطئة وبناء السلوك القويم. وتعنى هذه الأنشطة بالقرآن الكريم وبالحديث الشريف وبفقه العبادات والمعاملات. لا حاجة للتذكير بأن التركيز على هذه القيم مستلهم من روح دستور المملكة (دستور 1992 ودستور 1996) الذي ينص على أن المملكة المغربية دولة إسلامية، وأن الإسلام دين الدولة، مؤكدا في الوقت نفسه على أن الدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية. لكن ما بين 1996 و2011 تاريخ تنزيل الدستور الجديد وقعت في المغرب مثلما هو الحال في باقي دول العالم الكثير من التحولات، لعل أبرزها هو تغلغل إسلام سياسي مشرقي في الحياة الاجتماعية المغربية سرعان ما سيُفضي في شقه الراديكالي إلى وقوع أحداث الدارالبيضاء بتاريخ 16 ماي 2003. وبموازاة المقاربة الأمنية لظاهرة التطرف الديني احتدم النقاش بين النخبة، وفي الأوساط السياسية، وفي المجتمع المدني حول ضرورة مراجعة مقرر مادة "التربية الإسلامية"، وأصبح التفكير في خطة جديدة لتدبير الشأن الديني في المغرب هاجسا يؤرق وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، والجامعة المغربية، وعموم الناس. ومن ثمرات هذا الجدل تلك المراجعة المحدودة للمقررات الجديدة التي سهرت الوزارة الوصية على إخراجها بين 2002 و 2005، والتي اتسمت حسب تعبير الباحث الأنثروبولوجي محمد صغير جنجار بخفوت صوت الأدلجة المفرطة لفائدة خطاب أخلاقي يحاول المواءمة ما بين التربية الإسلامية، والمعارف الحديثة من قبيل التربية على المواطنة، وحقوق الإنسان. وجاء دستور 2011 ليؤكد صراحة على أن المملكة المغربية دولة إسلامية تتميز بتنوع مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية - الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية. وعلى الرغم من تركيز الدستور الجديد على الهوية المغربية التي تتميز بتبوء الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها. إلا أن ذلك ينبغي أن يكون في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء. وحتى لا تبقى مثل هذه المفاهيم مجرد أماني جميلة أو أهداف مسطرة فقد أمر الملك محمد السادس نصره الله بتاريخ 6 فبراير 2016 الحكومة بمراجعة مناهج وبرامج تدريس التربية الدينية في مختلف مستويات التعليم، سواء في المدرسة العمومية أو التعليم الخاص، أو في مؤسسات التعليم العتيق. وضعية الأديان الأخرى في مقررات التربية الإسلامية إذا كان تدريس العبادات والعقائد يحتل مكانة متميزة في مادة التربية الإسلامية، ويساهم من ثم في تكوين مواطن مغربي مسلم متمسك بدينه الحنيف، وإن كان ذلك يتم ضمن رؤية دينية متوافق عليها ومحددة سلفا (الإسلام السني، الفقه المالكي، العقيدة الأشعرية) فإن هناك هامشا من الحرية لم يُستثمر بعد أو لم يُوظف بشكل جيد يتمثل أولا في تأصيل حوار الأديان انطلاقا من القرآن الكريم والسنة النبوية، وثانيا في تحديد موقف الإسلام من الأديان الأخرى، وثالثا في التعريف الموضوعي والعلمي باليهودية والمسيحية اللتين لهما حضور في المغرب قديما وحديثا. وإذا ما تأملنا الكتاب المدرسي، وتحديدا محتويات "التربية الاعتقادية" في كل من السنة الأولى والثانية والثالثة من التعليم الثانوي الإعدادي فإن الملاحظة الأساسية هي أن الاهتمام يكاد أن يكون منصبا على الأنبياء، والرسل، ووسطية واعتدال وعالمية الإسلام، والتمييز بين العقيدة الصحيحة، والعقائد الفاسدة. فيما تتوارى إلى الخلف قيم الحوار، والتعدد، والاختلاف التي نحتاج إليها كثيرا لتحصين أبنائنا من ثقافة الإقصاء، وخطاب الكراهية، وفكر التكفير. وهي ثقافة دخيلة، وخطابات مستوردة، وأفكار مسمومة تتعارض مع مغرب متشبث بالإسلام، ومنفتح في الآن نفسه على الحضارات والثقافات الأخرى. وكان ولا يزال منارة للتسامح والتعايش بين الأديان والحوار مع الآخر. ومن المؤسف حقا أن تُدرس الأديان الأخرى (أقصد اليهودية والمسيحية تحديدا)، وقد اجتُثت قسرا من سياقها التاريخي، وأن يتغلب النزوع، بالدرجة الأولى، نحو مقاربة عقائدها الفاسدة، ونحو تناول "التحريف" الذي مس كتبها المنزلة (من توراة وأناجيل). وهو الأمر الذي ساهم، بشكل أو بآخر، في زرع بذرة الفكر الاستئصالي لدى شريحة واسعة من المتعلمين. لا خلاف بين الدارسين في أن "الفساد" قد وجد مبكرا طريقه إلى كل من اليهودية والمسيحية. و"تاريخ الأديان" نفسه لا يُنكر ذلك حينما يتحدث، تصريحا لا تلميحا، عن تسرب "الوثنية" إلى الديانة اليهودية في مراحل معينة من تاريخها القديم أو حين يستحضر "تاريخ الأديان" تأثر الفكر الديني اليهودي بقصص، وأساطير، وديانات الشرق القديم. كما لا ينكر علم "نقد الكتاب المقدس" ومناهجه المختلفة أثر الظروف العامة في التغيرات المتتالية التي لحقت كلا من التوراة والأناجيل، والتي تُعرف في الأدبيات الإسلامية باسم "التحريف". أما نصيب هذه الأديان نفسها من الدراسة في "الكتاب المدرسي" الموجه إلى تلامذة الجذوع المشتركة للتعليم الثانوي التأهيلي(جذع الآداب والعلوم الإنسانية، جذع العلوم وجذع التكنولوجيا) فمتواضع وبئيس لا يتناسب، على الإطلاق، مع أهميتها باعتبارها من الديانات السماوية. ولرُبما كان هذا الحظ السيئ مدعاة لكي نُنادي باستنبات علم تاريخ الأديان في الجامعة المغربية للخوض، علميا، في مثل هذه القضايا، لاسيما مع بداية تخرج أفواج من الباحثين في علم الأديان. وكم كان عبد الله بوصوف الأمين العام لمجلس الجالية المغربية بالخارج وجيها وحكيما حينما دعا إلى تدريس الأديان الأخرى، انطلاقا من مصادرها اللاهوتية، وليس من القراءات التي أعطيت لهذه المصادر، مع استحداث قسم لتدريس الظاهرة الدينية يقدم المعرفة الدينية الضرورية؛ وكذا إنشاء وحداث متخصصة في الجامعات، وكليات الشريعة والمعاهد الدينية. لأنه من غير الممكن تدريس الدين بمعزل عن علوم الاجتماع والاقتصاد وتاريخ الأديان والعقلانية، وذلك حتى نتمكن من تكوين مواطن سليم محصن يستطيع فحص جميع الإشكاليات الدينية والدنيوية المطروحة بشكل علمي وعقلاني وبحس نقدي. وإذا ما انتقلنا إلى درس علاقة الإسلام بالشرائع السماوية السابقة فسنجد مؤلفي "الكتاب المدرسي" يحددون مجموعة من الأهداف هي: أن يتعرف المتعلم تكامل الشرائع السماوية وتدرجها في النزول، أن يدرك الفرق بين الشريعة والدين، أن يحلل مع زملائه أوجه الاتفاق والاختلاف بين الشرائع السماوية في ضوء القرآن الكريم، أن يبدي استعداده لاحترام كل الشرائع السماوية لأن ذلك من تمام إيمانه بالإسلام. غير أن أهمية هذه الأهداف المذكورة لا تقاس فقط بعرضها الواحدة تلو الأخرى، وإنما تستمد قيمتها من المعلومات التي تُقدم للمتعلم. فأين يظهر التكامل بين الشرائع؟ وهل ثمة حديث عن كل شريعة على حدة يسمح لنا ببلورة مفهوم هذا التكامل؟ وهل يستقيم الكلام عن التدرج في نزول الكتب السماوية في غياب تام لأي خلفية تاريخية؟ على من نزلت التوراة؟ وأين نزلت؟ ومتى جمعت ودونت؟ ومن جمعها ودونها؟ وبأي لغة كتبت؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تُدرج الديانة اليهودية في سياقها التاريخي. كما تُطرح هذه الأسئلة نفسها بخصوص المسيحية والأناجيل. من شأن الدعوة إلى التمييز بين الشريعة والدين أن تُربك المتعلم المبتدئ لأنها تنطلق من تصور قائم على أساس أن الدين واحد والشرائع متعددة. هذا في الوقت الذي تظهر فيه اليهودية والمسيحية على مستوى الواقع باعتبارها ديانات مستقلة لكل واحدة منهما تاريخها الخاص، وأتباعها، وامتداداتها، وفضاءاتها. ناهيك عن تفرعها إلى مذاهب شتى. أما بخصوص احترام كل الشرائع السماوية، فقد كان من المفروض أن تُستلهم سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أعطى دروسا حية في التعامل مع أهل الكتاب، وخاصة من خلال "دستور المدينةالمنورة" الذي يُعتبر في نظر الكثيرين (محمد حميد الله وعبد الهادي بوطالب وغيرهما) أقدم دستور مدون في العالم، حدد في صيغة غير مسبوقة الملامح العامة لدولة الإسلام الجديدة دون أن أي تمييز بين مواطنيها من حيث اللون أو العرق أو الجنس. كما تناول "الكتاب المدرسي" درسا تطبيقيا بعنوان "العهدة العمرية" والغاية من وراء ذلك تتمثل في التعرف على نماذج تطبيقية في معاملة المسلمين لغيرهم من معتنقي الديانات الأخرى. غير أن التمثل الحقيقي للقيم الواردة في هذه الوثيقة لا يمكن أن يكتمل إلا حينما نلقي بعض الضوء على تاريخ القدس، وعلى تاريخ الوجود المسيحي في المشرق، وعلى تطور هذه الوثيقة إلى قانون أهل الذمة في فقه الأقليات الدينية. جملة القول إن هذه الحلقات المفقودة سهوا أو تقصيرا أو جهلا تعكس كلها جوانب من الغموض الذي كان يكتسي مفهوم "الحوار" في مقررات "التربية الإسلامية،" والذي سينزاح، لا محالة، مع الدعوة الملكية السامية إلى مراجعة مناهج وبرامج التربية الدينية. في انتظار أن يتحقق هذا الهدف النبيل أملنا كبير في أن يتم إشراك المشتغلين بعلم الأديان في هذا الورش الوطني الهام، وغاية ما نحلم به هو أن يجد "تاريخ الأديان"، هذا العلم الواعد، موطئ قدم له في هذا الإصلاح المرتقب. وكما جاء في المثل السائر إن غدا لناظره قريب. *باحث في علم الأديان كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سايس، فاس