حين خرج حمار هزيل من سجن بوكا الأمريكي، كنت أنا أول من صادفه في الطريق، كانت دموعه تنهمر ووجهه متجهم وهو يكلمني بحزن: أحذر أن ألأمريكان لا يرحمون الحمير. أستغربت لهذا الكلام ولم أكن أنوي فتح حوارا مع حمار هزيل وجبان، فهذه هي المرة الأولى التي أشاهد فيها حمار يتكلم بخوف، ففي مدينتنا، أعتاد الحمير أن لا يهابوا أحدا ودائما يعلنون عن أفكارهم ومشاريعهم بأصوات مرتفعة وخاصة حين يرتدون بذلاتهم الأنيقة في الندوات والمقابلات التلفازيه، ولأنهم الأكثر من غيرهم يتحدثون عن السياسة فقد نسيت صفة الغباء التي يقال أنها كانت صفة التهكم من الحمير في السنوات البعيدة. ومن اجل معرفة مايدور في عقل الحمار الهزيل قلت له: ماذا فعل الأمريكان بك لتحقد عليهم؟. فتحسر وتعرقت جبهته وقال: الحدث الذي حصل لي كان عام 5005 وكان الرجل الذي يملكني ويستعملني ببيع الغاز فكر بالهرب من البلد الى دولة الكويت بعد ان انتشرت حروب بين فرق عديدة من البشر أدت الى موت أغلبهم فقلت نسبة البشر في بلدنا وزادت نسبة الحمير ولأن مالكي أعتقد انه المواطن العراقي الأخير الذي نجا من الفتن وخوفا على سلالات السومريين والأكديين والبابليين من الأنقراض وفي لحظة تذكر جده الأعلى كلكامش، الذي جاب العالم يبحث عن عشبة الخلود قال أنا سأغامر مثله فساقني باتجاه حدود دولة الكويت وهو يردد اناشيد وطنية ويقول بين حين وأخر: (أنا من سيحافظ على نسلك ياكلكامش). وقبل ان نصل الحدود وفي أرض رملية كان يصعب علي السير فيها. حامت حولنا طائرة أمريكية ثم أنزلت شبكة كبيره رفعتني أنا ومالكي وأنزلونا في سجن كبير، عرفت بعد ذلك انه سجن بوكا. الضباط الأمريكان اندهشوا لوجود مواطن عراقي لازال على قيد الحياة ولأنني كنت أجيد التكلم بالأنكليزية فقد فهمت مادار حولنا من حوار وعرفت في نهاية المطاف أن مالكي ستأخذه طائرة الى واشنطن ليحنط ويوضع في متحف الكائنات المنقرضة ويشرح مخه لغرض معرفة أسباب نزعة العنف التي أدت الى ابادة واحد من أقدم شعوب العالم. أنا أستغربت حكاية الحمار الهزيل وقلت ربما يعاني من أمراض نفسية أو انه كذاب ويمثل هذا الدور ولكن فضولي المعرفي كباحث في سلوك أبناء جنسي من الحمير جعلني أصبر على كلامه وأتركه يسترسل في حديثه ارتديت نظاراتي المكبره فاتضحت تجاعيد وجهه وطلبت منه أن يكمل حكايته فقال: حين شاهدت المارينز يقيدون مالكي ويسحلونه الى الطائرة أشتد غضبي وصرخت بأنكليزيه: ...ls this occupation..or disaster أندهش الضباط الأمريكان. فهذه المرة الأولى التي يشاهدون فيها حمار يتكلم ويشتمهم بالأنكليزيه. ومن تلك اللحظة أعتبرني الأمريكان مناهضا لاحتلالهم بلدي. وحين طلب مني جنرال اسمه (جون شوهيل) أن أعرفه بنفسي، أرتفعت نرجسيتي وقلت (حمار عراقي). توقف عن الكلام ومسح دموعه ثم أكمل: منذ ذلك اليوم البعيد وأنا مرمي في سجن انفرادي ولكنني كنت اسمع أخبار بلدي من خلال مذياع صغير أعطوني اياه فعرفت أن الحمير بدأوا يزاولون مهن البشر، الذين انقرضوا وان الحمير حين يتجولون في الأسواق تصادفهم الكلاب والقطط والأرانب فيشعرون بعلو قاماتهم بين الحيوانات. كان جلد الحمار الهزيل مليء بالتقرحات والحروق ورأسه فيه أكثر من نيشان لجرح سابق وفمه خال من الأسنان وعيناه شاحبتان ، كان لسانه فقط هو الذي يتحرك بحيوية، قلت انه موضوع جميل لكتابة بحث أتحدث فيه عن الحمير التي ترفض التعايش السلمي بين المجتمعات وتهتم بمواضيع باليه وقديمه مثل الهوية الوطنية والولاء للمالك والدفاع عن حقوق الجماعة في زمن بصقت فيه العولمة على جميع هذه الأفكار وضمنت مساواة جميع المخلوقات وحتما ان بحثا عن الأفكار البالية للحمير القدامى سيثير جاذبية الكثير من حمير البلد الشباب وهي فرصة لحمار علماني مثلي أن يلتقي بهذا النموذج الذي انقرض أمثاله. فقلت له ولكن لماذا احتجزوك؟ فأجاب: منذ سنوات بعيدة كانوا الضباط الأمريكان يجرون معي حوارات مطولة كانوا يرغبون من خلالها التعرف على أسباب حبي المفرط للوطن واعتزازي بمالكي بائع الغاز الفقير وصبري على الألم والهموم طوال السنوات الماضية... وبعد أن أحسست باذلال من هذه الأسئلة بكيت أمام الجنرال جون شوهيل وطلبت منه ان يكشف لي أسباب أسألتهم الكثيرة والمقرفة وأسباب سجني وتعذيبي. فقال: أن مالكك أطلق سراحه في وأشنطن بعد أن أصبح موطنا أمريكيا وان خوفنا الجديد من الحمير فأضطررنا الى فتح حوارات معك لعلنى ندرس أنماط تفكير الحمير لنسعى لترويضها ضمن بوتقة العولمة. طبعا هذه الأحاديث لا يمكن أن تقنعني انا الباحث الشهير في علم أجتماع الحمير فقد أنتهى زمن المستعمرات والمواطنة النقية واضطهاد المخلوقات.. ونحن كحمير مثقفيين لدينا مصالح مع مخلوقات مختلفة بالعالم، نفكر معا، نتبادل الثقافات.. فأنا أستغرب الآن كيف لازال هناك من يحمل أفكارا مثل تلك الموجودة في رأس هذا الحمار الهزيل. قبل أن أودعه قلت له: ما النصيحة التي تريد ان تقولها لي؟ فقال الحمار الهزيل: ربما أموت بعد لحظات أو بعد يوم ولكن أريدك أن تخبر الحمير من جميع الملل ان الأمريكان لا يرحمون الحمير.