البساطة والإيحاء.. المتعة الجمالية والحس الفلسفي «هزائم آشيل» مجموعة قصصية تستحق التأمل، لما تحتويه من أحداث تدفع القارئ إلى الاهتمام المصاحب للتأني والروية والتفكير، لأنها قضايا اجتماعية إنسانية عامة وليست خاصة وإن أُتت بلسان سارد، يُشكل المحور الأساسي في التعبير عن جلاء الذات المتكلمة وهي تراقب ما يدور حول فلكها من تنوع وتعدد الأنماط السائدة، في واقع يتسم بالازدواجية السوداء، في حركة تفاعل مستمر لكل الوقفات والمعاني التي يمكن التصدي لها والدفاع عنها. وهي فضاء غني بخصائصها التي تخدع النفس وتجبرها لغض البصر عن حقائق ملموسة ومحسوسة بطريقة ينمحي معها وجودها حيث الانسلاخ عن عادات المجتمع والعزلة والعجز عن التلاؤم والفشل الذريع في الاندماج والتكيف مع المحيط المعيشي. ولعل أول ما يشد انتباه القارئ، وهو يتصفح المجموعة، هو عنوانها الذي يذكره بالبطل الملحمي اليوناني آشيل/ السارد المغربي، الذي هزم أعداءه وأبادهم وأنقذ بلاده، كيف يتجرع هو بدوره الهزيمة مما يذكي فيه حماسا لمعرفة الأسباب وترصد الهنات والسقطات التي كانت كفيلة لهذه النتيجة، مجندا شعوره وأحاسيسه للبحث عبر أمكنة فصولها التي تحمل دلائل قوية كانت كافية لهذا الخسران المفاجئ. والمجموعة هي لصاحبها الكاتب المغربي عبدا لله باعلي الصادرة عن منشورات سليكي- طنجة 2005 وتضم تسعة قصص قصيرة تقدم تجربة جمالية يحتوي متنها على قضايا وجودية وإنسانية، تشمل مختلف الأحداث والتحولات الاجتماعية المبنية على الصراع الحياتي، حيث الفضول والتجسس والانغماس في لذة الحشيش والجنس والمأساة عبر تضارب المصالح واللامبالاة والفراغ القاتل وذكريات الحب المفقود والمحن المتكررة التي يعيشها الضعفاء... كل هذه المكونات الفانتاستيكية المليئة بالتناقضات والانكسارات التي تتعرض لها النفس البشرية، تحكى بضمير المتكلم من بدايتها إلى نهايتها رغم الشخصيات المصاحبة لها، مع الرغبة الملحة التي تدفعها إلى الهروب خارج المحيط لمعانقة عالم يطبعه الخيال والتخيل، ساعيا إلى تعزيز رؤيته التحررية عبر إدانته لنمط العلاقات الاجتماعية القائمة على خصال غير حميدة ساردا أحداثها وفق منهجية حكائية متأثرة بعوالم الحكاية الشعبية... ففي قصة «أسرار ونوافذ'' ينشطر وعي السارد بين رفضه ما هو كائن وسقوطه في حبائل الفضول واللحظات التي تتجاذبها أصوات نفسه لمعرفة خبايا الناس التي تظهر منكسرة وضائعة في متاهات الوجود: ''لا أنكر أنني فضولي، لكن ليس لدرجة التجسس على أسرار الناس، لي حياتي الخاصة، ولي أسراري، ولا أحب أن يحشر أحد أنفه عبر نافذتي... وليس غريبا -على أي حال- أن يكون الفضوليون أكثر الناس حرصا على أسرارهم- ص8-. والسارد هنا يوضح أن الفضول صبغة إنسانية محضة يفرضها الواقع الاجتماعي الذي يجعل الشخص يتغلغل في أسرار الناس لمعرفة مسارهم وأفكارهم وتفاصيل حياتهم، وهو إما أن يكون محمودا أو مذموما.. ثم يسترسل السارد حكاياته ومغامراته حيث الانكباب على ما يظنه أنه طريق الخلاص والتحرر والتجرد من القواعد المحسوسة لإطلاق العنان للفكر البشري وخياله للإبداع والتمني، وهذا ما يترجم الهروب من الواقع المعيشي ونسيان زمان النضال بالاستماع إلى كل أنواع الموسيقى مع احتساء أصناف المشروبات الكحولية: «رحب بي القوم، ثم دخلت الطقس: الكأس باليمنى، والملفوف باليسرى... اللهم إني لا أسألك...»، والمتأمل للسرد المحكي يحس أنه مبني وفق معطيات درامية تأسست على عناصر ذات أبعاد اجتماعية محضة حيث الرؤية جلية للحالة النفسية الغنية بإحساس ومشاعر يائسة متعطشة للخروج من هذا الضيق والانكسار والاختناق المجسد في ذوات تحلم وتتمنى تحسين الأوضاع والظروف المحيطة بها.. والهدف السامي من هذه القصة هو الأخذ بعين الاعتبار كل ما يهم هذه الفئة المضطهدة/الشباب خاصة، مع توفير احتياجاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ولحمايتهم من الاغتراب والعزلة والانحراف والتطرف. ثم ينتقل السارد إلى وصف جسد المرأة مبرزا أنها حليفة إبليس في إسقاط الرجل في شباك الجنس الرخيص وأنها مصدر الهدم وسبب الفوضى العارمة بما تنشره من إشعاعات الفتنة والغواية، مبرزا الحالة النفسية والتوتر الحاصل داخل نفسها أثناء القيام بدورها الفاتن بلغة جذابة وسرد محبوك، ليدون اختراقات الواقع وفضح خطاباته، موظفا طابع السخرية، ومعتمدا على المرجعية الثقافية والتاريخية والأسطورية في تثبيت أسطورة شيطنة الجسد الأنثوي، وكأنه يذكر القارئ أن حواء/الأنثى الأولى، كانت سببا رئيسيا لهبوط آدم إلى الأرض، وأنها عقدة المجتمع الذي لم يتخلص من هذا الإحساس الفظيع. «تتأملين نفسك من الأعلى إلى الأسفل. ثم تتحسسين تلك الهيئة الغريبة التي تخرجين بها دوما دون أن تفكري فيها. العادة تمنعك من التفكير. تلغي المسافة بينك وبين ذاتك، تمحي ملامحك أهذه أنا؟». يدك شيطان لا يطيع دساتيرك، يمتد بعيدا فوق الأعضاء الكبيرة، فالصغرى، فالأصغر: ''جسدي مليء بالثقوب. ثقب ظاهرة، وأخرى خفية. ثقب تلتهم وأخرى تلقي. وثالثة تجمع بينهما) الخريف على المرآة - ص20. (كلما أخذت الهاتف لمكالمتها أشعر بالارتباك ذاته الذي انتابني أول مرة وأنا في القطار، أخاف أن أسمع صوتها الناعم، أخاف أن يكون وحشا يأكل... رجائي كله...) حكاية حب عبرSms - ص48. وهي إشارة من السارد إلى تهذيب النفوس وعدم انجذابها نحو المشاهد المغرية والبرامج المثيرة والإيقاعات السريعة والعوالم الصاخبة واللقاءات العابرة. ثم في قصة العشاء الأخير -ص 31 - يلاحَظ اغتراب تجربة السارد الذاتية ومساره الحياتي عازما على الخروج من هذا المأزق وذلك من خلال انسلاخه عن المجتمع الغربي/فرنسا الذي يتواجد فيها حين عجز عن التلاؤم مع سكانها وأخفق في التكيف مع الأوضاع السائدة فيها، حيث إحساسه وشعوره منعدم بالانتماء إليها وبمغزى الحياة فيها. وهو بهذا يسعى جاهدا إلى إبراز ما قد يعانيه الإنسان المهاجر من مشكلات التعبير والتكيف والاكتمال وجو العزلة والاغتراب الذي فرضته عليه الظروف، قد يؤدي به إلى عرقلة مشاريعه فيتمزق حضوره وتضيع صلته بمحيط غير محيطه، مسلوب النعمة والحرية والإرادة فتنتابه جراء ذلك لحظات الجنون نتيجة تصادمات بين رغباته وبين حقيقة المجتمع الذي يعيش فيه. «فكرت أن أحمل أغراضي، وأغادر المدينة، نهائيا، ودون وداع. كأي مجرم أو مجنون. لن يكون لذلك معنى، أغادر ليلا، وأصل صباحا إلى العاصمة...» كأن... لم يكن''..سيكون الزمان قد مزقني دون موت». ثم يقوم السارد بتفسير حكاية البسطاء الذين يحاولون تغيير وضعهم وطبقتهم ومحيطهم، ولأن رحلة الطموح القاسية تعيد صياغتهم من جديد، فهم حريصون على مواصلة الحياة مهما كانت الصعاب والعراقيل، في تحد وسعي دائمين لإثبات وجودهم الذي تتمتع به الطبقات العليا، والرؤية المرسومة والمرسلة من طرف السارد إلى قارئه هو أن يدرك واقعا يتسم بهذر طاقات عناصره/الشباب، اليد العاملة، أمل الحاضر ووعد المستقبل، المليء بحيوية الطموح والمبادرة والمغامرة وحب الحياة وقبول التحديات، وهي إشارة ذكية إلى أصحاب القرار أن يلتفتوا إلى حسن استثمار هذه الفئة وتحسين حياتهم الهزيلة الرتيبة قبل أن تصاب بالعقم الذي يحرم المستقبل من القدرة والتفاعل والعلاقات الايجابية مما يؤدي إلى تصاعد أزمات الحرمان وتفاقم مرارة الأوضاع مولدة الإحباط والغضب، ولأن الإحساس بالفقدان تضع الذات الإنسانية في وضع انعكاسي غيابي استسلامي مدى العمر. «على الشاطئ، قرب المرسى، حركة بطيئة لأصحاب نوح. في الزاوية على مرمى بصر يتحلق عمال السفن، وبعض المشردين حول بائع الشاي،... قبل أن تستيقظ النوارس». وقد استطاع السارد أن يجعل القارئ يعيش قصصا/حكايات تعكس بصورة تهكمية عنف الواقع وخشونته، كما أنه نجح في توظيف راو واحد يترجم هذه الانهزامية التي تلاحقه عبر كل الأمكنة التي تواجد فيها، معلنا فشله في تقويم صوت ذاته المفرغة التي تبحث عن حقيقتها ساعية إلى التحرر من الجرح والألم اللذين سببه حبه الرومانسي الحالم باحتضان أنثاه في محاولة منه النبش في ذاكراته عن أحداث ميزت هذا التعلق بالحبيبة، وما خلفه من مآسي وآلام وأحزان، كما أن تعدد أسماء المدن يوضح أن السارد يعيش لحظة الاغتراب والضياع والأسى وفقدان التواصل مع الآخر. والمدن المذكورة هي أمكنة داخل الذات، كقارات تجسد الحلم القديم في الحب، حيث يسجل من خلالها ذاكرة الألم البشري في صراعاته المختلفة والتي لا تمحى بشيء: «ثم أمضي بحثا في قادم الأيام عن صوت يلون رماد اللحظة، ويدفع قسوة البداية.. أسألها: من أنت؟ صوتك يملأني فلا أراها...». إن حضور صوت السارد الذي يروي تجربته وما تقع حواسها عليه مع مخاطبته الصورة التخيلية لذاته في صيغة شعرية، تجسد أزمتها في زمان نفسي يمتد للكشف عن الدوافع التي حركت شخوصه وأحاسيسه لتقمص الأدوار على التوالي، جعل المجموعة القصصية تتسم بالواقعية الوصفية التي تنقل الواقع راسمة الخط الواصل بين الظاهر والأعماق، مسبوقة باستهلال لبعض المتصوفة والفلاسفة، كابن عربي والنفري وجلال الدين الرومي وأبو يزيد البسطاوي وحافظ الشيرازي. كما أنها تعبر عن مواضيعها بلغة إشارية ودلالية عن خلجات الروح والوجدان بتعبيرية فلسفية، تصدر حالات الاغتراب والعزلة والتأمل في المصير الإنساني المتجه نحو الوهم والوجود المزيف في العالم واكتشاف وضعه الأصلي بواسطة القلق والشعور بالانهزام في كافة محطاته، واللذين يعبران عن فقدان الأمل وسيطرة اليأس:»أركب قطار الدارالبيضاء... أشهد هزيمة جديدة لاسمي... ثم أعود للمحطة ثانية ...آخذ قطارا آخر... لمدينة أخرى، صار اسمها رديفا لهزيمة جديدة..». والمتأمل في أسلوب المجموعة، يتحسس فيه البساطة والإيحاء والتكثيف والتركيز والوصف والاستمرار في السرد والبراعة في رسم اللوحات والقدرة على تسلسل الأحداث وترابطها، مشتغلا على التوازي بشكل كلي راسما الفجوة الهائلة لتسليط الضوء على حجم الهزائم الذي أصاب السارد/آشيل الجديد، كما أنها تتميز بالمتعة الجمالية والحس الفلسفي.