يسعى النظام الجزائري في مرحلة الرئيس عبد المجيد تبون، إلى تحقيق هدفين مركزيين، وهما استيعاب ثم حلحلة الأزمة السياسية من جهة، وترويض الحراك الشعبي بعد أن مسح هذا النظام الأرض بالمعارضة الحزبية التي فشلت في إحداث أي تغيير حقيقي من جهة أخرى. اللافت هو أن إدارة الرئيس تبون شرعت في تجسيد مساعيها ميدانيا بعد اجتياز عَقَبة الانتخابات الرئاسية المثيرة للجدل وتعيين الحكومة التي يرأسها الوزير الأول عبد العزيز جراد، بواسطة تفعيل آليات أخرى من أجل فرض واقع سياسي جديد في البلاد. وتتمثل هذه الآليات في سلسلة التعيينات المتتالية التي تمَ تنفيذها بسرعة وصرامة، وذلك خلال فترة قصيرة على مستوى مؤسسة الرئاسة والمؤسسات الاقتصادية والثقافية والخدماتية والتربوية والأمنية والإعلامية، وآخرها تعيين المحافظين في بحر الأسبوع الماضي. من الواضح أنَ هذه التعيينات التي نفذها النظام الجزائري يهدف من خلالها إلى بسط سيطرته الكاملة على المشهد السياسي من جهة، والتحكم في أجهزة الدولة لاستخدامها في المرحلة القادمة لتمرير تعديل الدستور على مقاس السلطة وإجراء الانتخابات التشريعية والولائية والبلدية وضمان الهيمنة على المشهد السياسي من جهة ثانية. من الملاحظ أن النظام الجزائري أسند جميع المناصب على رأس المحافظات في التعديل الذي نفذه مؤخرا إلى محافظين معروفين بكونهم جزءا عضويا من الترسانة البشرية التابعة له، أما استبعاد الشخصيات المعارضة، سواء كانت تابعة لأحزاب المعارضة أو مستقلة، فهو أمر مخطط له بإحكام بهدف احتكار إطارات النظام للمناصب الحساسة على المستوى المركزي وعبر فضاء الجزائر العميقة كخطوة أولى للسيطرة على المشهدين السياسي والإداري، وذلك تمهيدا لإجراء الانتخابات التشريعية والولائية والبلدية بعد تعديل الدستور، وفقا لاستراتيجيات النظام الجزائري نفسه. لا شك أن تزامن تنفيذ هذه السلسلة من التعيينات مع لعبة المشاورات التي يجريها الرئيس تبون بنفسه ليس مجرد صدفة، وإنما هو مصمم مسبقا بإحكام حيث يريد من ورائه تحقيق أهداف سياسية كبرى في مقدمتها الظهور بمظهر رجل المصالحة السياسية. ولكن سيناريو هذه التعيينات مكشوف أمام الرأي العام ويعتبر تطبيقا لاستراتيجية تقسيم ما تبقى من المعارضة وفي المقدمة الحراك الشعبي بشكل خاص. وفي هذا الخصوص يرى المراقبون السياسيون أنَ آلية هذا النمط من المشاورات ليس شيئا جديدا على المشهد السياسي الجزائري، وإنما هو تكرار لحرب المناورة السياسية التي سبق أن استخدمها النظام الجزائري في عهد الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة وتوجت بتشظية الخصوم السياسيين حينذاك، وهو الأمر الذي مكن النظام الجزائري من تفكيك المعارضة الإسلامية المتمثلة في قيادات حزب جبهة الإنقاذ الإسلامية وجناحها العسكري. المدهش أن الأحزاب الجزائرية المعارضة وفصائل الحراك الشعبي لم تقدم إلى حد الساعة مشروعا سياسيا بديلا لهذه المشاورات الانتقائية التي تجري بين النظام ورموزه القديمة مثل أحمد طالب الإبراهيمي، والوزيرة السابقة زهور ونيسي صاحبة الانتماء التقليدي المزدوج إلى كل من حزب جبهة التحرير الوطني وجمعية العلماء المسلمين في آن واحد، وبمشاركة بعض الأحزاب المجهرية المحسوبة على المعارضة الشكلية مثل حزب جيل جديد الذي يرأسه جيلالي سفيان المعروف بتقلبات وانتهازية مواقفه. وفي هذا الصدد نطرح هذين السؤالين: لماذا بقي الحراك الشعبي يكتفي بمتابعة هذه التعيينات المتسارعة والمخطط لها بإحكام؟ وكيف يمكن فهم غياب موقف جماعي لأحزاب المعارضة بخصوص هذه التعيينات التي تمثل حركة مواربة لإعادة إنتاج النظام الحاكم مجددا؟ إن الإجابة على هذين السؤالين ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار عدة مسائل، منها أن الحراك الشعبي لا تربطه بأحزاب المعارضة أرضية سياسية مشتركة، وزيادة على ذلك فإن أطياف المعارضة نفسها غير موحدة، ويقابل هذا الوضع عدم تطابق الأطياف المكونة للحراك الشعبي نفسه، وجراء هذا لم يفرز قيادة موحدة تسند إليها مهمة الإشراف على تنظيم هيكله العام واتخاذ المواقف من التحولات التي تشهدها البلاد بعد الانتخابات الرئاسية. في ظل هذه الانقسامات نجد خطاب النظام الجزائري المرافق لمختلف هذه التعيينات، يؤكد أن إجراء التغيير في مختلف مؤسسات الدولة، بما في ذلك سلك المحافظين، يدخل في إطار تلبية مطالب الحراك الشعبي لتنظيف هذا القطاع الحيوي من العناصر المغضوب عليها والمرفوضة شعبيا، ولكن الواقع يناقض هذا الزعم لأن إقالة محافظين قدامى تابعين للنظام وتعيين محافظين من داخل أجهزة النظام نفسه في أماكنهم هما مجرد تدوير للمناصب بين عناصره القديمة والجديدة، وأكثر من ذلك فإن استبعاد الكفاءات الوطنية المحايدة والكفاءات ذات الصلة بالحراك الشعبي هو بمثابة رفض ضمني لتوفير المناخ الصحي للحوار، وتنكر لمطالب هذا الحراك الذي ما فتئ ينادي على مدى أكثر من تسعة أشهر بضرورة تغيير النظام الحاكم بالكامل ورحيل رموزه الموجودة على رأس أجهزة الحكم بمختلف أنماطها ومواقعها.