إن المجموعة القصصية ‹›العناصر›› للكاتب المغربي أحمد شكر، قد حملت من خلال مضامينها ومحتوياتها الحكائية مجابهة عنيفة مع واقع لا يقبل المهادنة أو الاختزال، فالأحزان تعتري يوميات الناس الفارغة من أي شيء له معنى بل التي تحتشد بتفاصيل اليومي الصعب ومؤشرات الموت البطيء. والمشاهد التصويرية لا تعبر بالعين دون أن يثير فيها شغف التحديق في شريطها السلبي حيث الصور تختزن احتدام الدلالات وأبعادها، صور تفرض نفسها لأنها تتلمس الحسي والملموس في بنائها. كما يظهر قدرا من الانطوائية في محاورة الذات المهددة بمشاعر اليأس والموت وجراح الحياة التي يكسرها العويل والبكاء. والمجموعة تقوم على التأمل والاستغراق في أفكار كبيرة، محورها الذات والوجود ورصد الواقع الذي يمور بالسخرية واللا جدوى. (سيرة حزن مستديم ينفضح كاشفا عورتنا جميعا ويتقيأ كل يوم حزنا وموتا مكرورا) جثامين ص11 يعكس العنوان انكسار الأشخاص الذين يقذفهم البحر، كسلع انتهت صلاحيتها في لحظة من لحظات ضعفهم في معترك أمواجه الهائجة المقترنة بالمخاطر والغدر جراء العواصف العاتية التي تمثل مصادر القلق والخوف لكافة الناس رغم احتياجاتهم لخيرات البحر الوفيرة الذي صوره السارد هنا منتصرا على هؤلاء المتعطشين لعبوره للضفة الأخرى عبر قوارب مهترئة ونتيجة ضعفهم في مواجهة جبروته وقسوته فكانت النتيجة سلب أرواحهم البريئة وإطفاء شمعة أملهم في الوصول إلى هناك حيث العيش الرغيد وآثار النعمة المنتظرة لكن هيهات هيهات فالرياح جرت بما لا تشتهيه سفنهم القديمة المتهالكة. والسارد في قصته هاته يسعى إلى إبراز العوامل التي كانت سببا في ما يلفظه البحر من جثامين، وهي الهجرة السرية عبر قوارب الموت فرارا من البطالة المتفشية بامتياز في واقع عرفت أسعاره ارتفاعا مهولا أدت بكثير منهم إلى العيش في متاهات فقر مدقع لم تترك لهم خيارا سوى المغادرة إلى عالم الأحلام لتفادي هذه المعاناة اللانهائية إضافة إلى رؤيتهم لمن من عليه الله وأكرمه في غربته عائدا إلى أرض موطنه ومظاهر الغنى بادية عليه دون نسيان عامل القرب الجغرافي لأوروبا الذي يحمسهم أكثر لهذه المغامرة القاتلة التي تبيد أكثرهم دون رحمة أو شفقة. ثم يسترسل السارد في انسياب المتعة مع نبض الحياة في جداول الاحتضان المجنون، حيث المتح من سيمفونية موسيقى يتخللها الرقص والطرب الذي ينسي وجه الصحراء المأهولة جراء هذه الألفة والتلاحم والانسجام التي تخلقه هذه الصحبة الجماعية، معبرة عن ما يجيش في الصدور التواقة إلى إحياء هذا الفن الذي يجعل الفرد يذوب في الجماعة محققا إشعاع روح الإنس بينهم، والسارد هنا يحلق بالقارئ ليذكره أن اللغة هي الوسيط الحامل للتراث تمثلا واستيعابا وإغناء وإبداعا، وأنها مسكن الذات حسب تعبير هايدجر، «رمز الماء يمتزج وجدانيا برموز متعارضة فيما بينها كالولادة والموت، إنه جوهر مليئ بتذكارات العرافات وأحلام اليقضة» والسارد يتأمل البعد الوجودي للمرأة والماء والغناء في إشارة منه على إبراز هذه الثلاثية أنها إيقاع حركية العالم والمشاركة في إشعاعه حيث الاعتماد على التلقائية في الأحاسيس ومنح الحياة ووجه التشابه بين هذه الثلاثية أن المرأة طاقة متفجرة من الأنوثة والمشاعر التي تدفع الإنسان/ الرجل إلى أن يحيا من جديد وكذا الماء الذي هو أصل الوجود والغناء لا يمل من تحرير اللغة من محدوديتها ومن دلالتها فهو جوهر لا يمكن أن يستغنى عنه مثله مثل المرأة والماء إذ أنه حاجة من حاجات الإنسانية الأساسية، وإذا اعتبر السارد الماء/ الخمر فإنه عندما يقع الرجل بالخمر فإنه يكون عبدا للزجاجة التي تذهب عقله وفطنته وكذا عشقه للمرأة، يجعله لا يقاوم عطرها وسيطرتها مهما تظاهر بالكبرياء والشموخ خاصة عندما يصاحب هذا الجو غناء يتعانق فيه جمال الكلام وصدق المعاني. (في حضرة المرأة والماء تنخسف اللغة، فكيف إن كان هناك غناء، غناء حقيقي ينبع من ذوات متجذرة في الأرض كأنها امتداد للتلال الحاضنة هذا الخلاء) ماء ص14 ثم ينتقل السارد من رمزية الماء إلى رمزية التراب، حيث يعبر السارد عن مدى علاقة الروح بالجسد الترابي الحميمة عبر صور معبرة ومسنونة بجحافل الألم والقسوة والحزن وهو يتذكر حضن أمه الحنون وهي لحظة من اللحظات الصعبة والمشحونة بكل ألم الدنيا التي لا تتحمل سوى لملمة جراح، ووقف نزيف مشاعر حزينة (تنقصه شجاعة الوقوف إلى القبر والتحديق في الشاهدة، لتهجي اسم الأم التي عجنت أيامه بميسمها البسيط العميق) العودة إلى هناك ص63 والملاحظ من القصة أن السارد تتأرجح حياته بين البحث عن الأمن والطمأنينة و نسيان وتجنب الألم ، حين يشير إلى مسألة حتمية هي مشكلة الموت المتواجد في أعماق النفوس والتي ترفضه بكل كيانها محاولة تجاوزه، لأنه يشكل لها ألما أكبر في هذا الوجود ، كما أن الإحساس بفقدان عزيز يجعلها تشعر بالخسارة التي أصابتها وما سيحل بها مستقبلا مدركة أن الموت هو انتزاع حقيقي لهذه الحياة المعيشة وأن أمانها ومشاعرها سترتطم على صخرته يوما ما، ثم يعرج السارد بالمتلقي رافعه عبر رمزية الهواء الذي امتد بدوره على مساحة واسعة، يبحث فيها عن خلاصه من الالتصاق بالأرض والسمو فوقها لتجاوز وتخطي جاذبيتها متخيلا أنه صار له أجنحة عصفور، امتلك بها قوة قضى بها على بِؤسه وشقائه وعقدته، وهو يحلق في السماء عبر لغة يومية متداولة وبسيطة ليزرع في الآخر بذور التمرد على الأرض كعنصر وضيع وأن السماء عنصر جليل وسامي، (تمدد فوقه السرير المطاطي، ونام. نام كما لم ينم قبلا، رائيا في درج رأسه أنه استحال إلى عصفور ملون جميل، حلق بجناحيه الصغيرين الرائعين في السماء بعيدا عن الأرض) سرير على الهواء ص42 هنا يلاحظ القارئ أن السارد اعتمد على عنصر الخيال الذي هو سيد عناصر الأدب، ليؤجج الواقعة الموصوفة ويربطها بثنايا الحدث مكسوة بسحنة جمالية ليأسره ويدفعه للتعاطف معه. ثم ينقله من خلال هذه الرؤية التصويرية إلى واقع التعليم القروي في علاقته بهيأة التدريس ليلامس عمق المعاناة التي يكابدها هؤلاء وإغفال المسؤولين، البحث عن الوسائل الكفيلة التي تضمن لهم عدم انتشار ظاهرة الغياب المبرر وغير المبرر، التي تحيل البعض إلى عدم أداء واجبه مما يعرض جيلا بكامله/ المتعلم، لعقاب الجهل والأمية لا يتحمل فيه أدنى مسؤولية، كونه ازداد بهذا المكان المقفر، والمغزى الذي ينبغي استخلاصه من القصة هو الوقوف عند المسؤولية المشتركة بين جميع الأطراف (الدولة، الأسرة، هيئة، التعليم..) من دون استثناء. المجموعة القصصية ‹›العناصر›› هي دراسة اجتماعية عميقة مستوحاة من الواقع المغربي تترجم مأساة الإنسان في علاقته بما يحيط به، مشكلا من أحداثها بناء فنيا محكما ذا ارتباط وثيق بكل دلالاته وبكل ما يحمله من أحداث ومواقف مجسدة ببراعة وصدق شخصياتها الكبير.