صدرت للقاص المغربي، أحمد شكر، مجموعته القصصية الثانية بعنوان «العناصر»، ضمن منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب. وتمتد على مدار ثلاث وسبعين صفحة من الحجم المتوسط؛ بوبت تبعا للعناصر الأربعة (الماء، الهواء، النار، التراب). وكل عنصر يضم بدوره عناوين فرعية، لقصص لها علاقة بشكل ما بالعنصر الجوهر. فمنذ البدء يتضح، أن هذا العمل يدخل في محاورة ما مع مرجعيات أخرى بنت تصوراتها على العلة والامتداد. ومن شأن ذلك أن يعجن السرد بالماء والهواء والنار.. العتبة: حاول القاص أحمد شكر أن ينسج كونه القصصي، من خلال العناصر الأكثر حضورا في التفكير الأسطوري والفلسفي والديني. إنها عناصر تهندس الكون وتبرر امتداده وانعكاسه. وهو ما يدفع إلى التساؤل العريض: بأية كيفية سردية، اشتغل الكاتب على هذه العناصر؟ كل عنصرينتصب رأسا لباب المجموعة، يتفرع قصصيا إلى عناوين تشتغل على العنصر الأم من زاوية ما وعلى قدر كبير من الجدل. لكن عناوين أحمد شكر موغلة في الواقع والتذكر بخلفية ثرة من التأمل والحنين اللصيق بالخلاءات. الشيء الذي جعل الماء يتدرج ويتشكل بين مائه الأصل وماء التمثل، والهواء ينحبس ضمن دوائر وأقفاص حياة، وينطلق سابحا على مدار الأرض والسماء. في حين تولد النار من الضغوط ومن الإكراه اليومي. أما التراب، فينثره القاص بين الأصل الحاضن والخلاءات. وغير خاف هنا أن العناصر من ماء وهواء ..تتلون من داخل سياقات جديدة، فتتخذ دلالات تأملية تقول قصة «ماء» ص15: «أي ماء كنت تعني؟.. ربما شيئا آخر أقوى من ماء البحيرة وماء الثمار..». حقا يمكن للسرد أن يغتني بمرجعيات عدة، منها هنا ذاك التمازج بين الفلسفي والأدبي في تصوير اليومي ( الضغط والضيق ). وتمديده في إطار من التحول عبر لمسات تأملية، تخلق جدليات عدة بين شخوص وعناصر الحياة والكون، والتي وجهها هنا الكاتب صوب واقع وجغرافيات، لتطلع مضمخة كانفلاتات من الدوائر، بما فيها دائرة السرد عبر تقطيع قصصي يكسر الخطية وتراتبية السرد البارد. متن الحكي: إن التبويب الذي اتخذته مجموعة « العناصر» يدفع إلى التساؤل عن دلالات المكونات أو مفردات الحياة والكون في القصص. لكن سرعان ما نهتدي بعد فحص المتن السردي، إلى أن الماء يتلون ويتشكل في القصص، ونفس الأمر ينطبق على العناصر الأخرى، فباب الماء ينفتح على جثث الجنود الناضحة عرقا وعلى جثث العابرين للضفة الأخرى، كما يبدو الوادي علامة فارقة ضمن الخلاء. وفي قصة «الماء لحلو» يتدفق ذاك الماء خلف صخرة الضريح. أما ماء الله، فمشاع ومباح دون أن يخفي ذلك أتعاب بائعه.. تقول قصة «ما ء» ص 14 : « في حضرة المرأة والماء تنخسف اللغة، فكيف إن كان هناك عناء، عناء حقيقي ينبع من ذوات متجذرة كأنها امتداد للتلال الحاضنة هذا الخلاء». تقدم المجموعة عناصرها وهي لصيقة بحالات ووضعيات شخوص تلتقي في الكثير. من مظاهرها (الكد، اليومي..). وفي الغالب يتم مركزة الشخصية في كل قصة كحمولة نفسية وفكرية تحيى حياة إشكالية بمعنى ما. في السياق، هناك شخوص تواجه قدرها اليومي؛ وأخرى في الغالب تتماهى مع السارد الذي يستحضر فصولا من ذاكرته بحنين مأساوي : ذاك الأستاذ المقذوف للخلاءات ببلاغتها الجغرافية الخاصة. وغير خاف أن الكاتب يوظف شخوصه بشكل غير مفصول عن المكان والزمان. وفي هذا الإطار، يبدو أن ثنائيات تفرض نفسها هنا: الانغلاق والانفتاح، فالأمكنة المنغلقة في هذه المجموعة (الحجرة، الدائرة، التاكسي، الحافلة، الأعماق، الأسفل..) تجسد ذاك الضيق المصاحب والمتجلي عبر شخوص تتوق للانعتاق عبر السباحة في الهواء والماء من خلال عنصر يمدد ويحول، تمثل أساسا في الريح والحلم. تقول قصة «خيط أبيض» : ص36 : أيمكن اختزال كل ما وقع في مأزق خيط رفيع دقيق انبجس من رحم رحيمة ليجمل ما خرب في هذه النفوس، وتعضد دمامل عصية على الرتق؟». وبما أن أغلب أحداث المجموعة تراوح بين ماض وحاضر، ماض يستحضر عبر خيط حنين جوال، يحضر كزمن مضغوط عبر ما هو نفسي المشدود للأسفل والأعماق يصل الماضي بالحاضر بشكل متواز، فتبدو الكثير من الشخوص موغلة في التذكر كأنها تحيا بقوة ماض سالب، ومؤسس لملامح كينونة ما. في هذا السياق، قد يحضر السير ذاتي، وخاصة تلك القصص التي اعتمدت ضمير المتكلم والغائب المفرد. ويظهر هذا جليا في باب التراب تقول قصة « سلم الأحلام «ص69: «ليس رسما لحظوظ الحظ العاثر، ولكنه بالأحرى استحضار لمسار خيبة عرشت داليتها في الجسد، فراغ في فراغ وصقيع حتى في جينات الأحلام». تقنيات سردية: حاول القاص أحمد شكر في هذا العمل، بعد مجموعته الأولى (تودة) الإيغال في ماء السرد بقصدية واشتغال دقيق على الكثير من مكونات السرد السالفة الذكر. فتجلت بعض اللمسات في تقديم الشخوص كمظاهر وحمولات، والتركيز على ما ترسب ضمن ترتيب مكاني بين الأسفل والأعلى وهي ثنائية تليق بالعناصر كهندسة وتصور ضمن مجرى زمني، تبدو معه كل شخصية لها نهرها الزمني الخاص. وما استوقفني في هذه المجموعة هو شكلها البصري الذي يقدم الحكاية كتقاطيع وانكسارات اعتمادا على الترقيم للوحدات الحكائية وأحيانا على المشاهد. فأغلب القصص تقدم كلوحات تنتظم داخليا بواسطة خيط سردي مؤطر بالتيمة الأساس التي قدمت كحالات نفسية. ومن الملاحظ أن هذا البناء كسر عمودية الحكاية وجعلها مقعرة. الشيء الذي يقتضي من القارئ تلقيا مركبا لملء الفراغات، والمشاركة في بناء دلالات النص ضمن شرط الحكاية بكيفية من الكيفيات. بما أن المجموعة تحاور مفردات ذات حضور أسطوري وفلسفي، فإنها أغنت سرديتها بلمسات تأملية تمثلت في تعاليق السارد التي تتخلل أغلب القصص، تعاليق تضيف سؤال الحياة والوجود إلى أسئلة اليومي والواقعي. فتتعدد الأسئلة التي تفتح آفاق التأويل. وذاك إشكال فكري دائم مع العناصر التي تشبه الإنسان في تموجاته...