يستنهض الديوان الشعري الجديد “أنا بين الحروف” للشاعرة المغربية لطيفة السليماني الغراس؛ وجدان القلبين المغربي والعربي .. فكره تراثي معرفي يمتزج بحس أنثوي تمتلك فيه الشاعرة ملكة فنية تضعها في مصاف الشاعرات والشعراء الكبار. ففيه تغزل الأسطورة والملحمة القديمة والشخصيات العالمية والعربية التراثية والوعى الاجتماعي من خلال التناص وأدوات البلاغة العربية ومنها المناجاة وتيار الوعي. وهى إذ تدفع بهم في قوة جياشة في أبياتها، تتدثر بروح الرومانسية ذات الشجن الشفيف والمفعمة بروح الكونية والوجود. هو خطاب يقاوم الاستلاب والتغريب ويتحمس للأصالة العربية والمقاومة ورقي النفس. فيه تظهر الأرض بوصفها أما حنونا، تضم المخلصين من أبنائها وتطرد المغيرين والمزيفين انتصارا للحق / النور والحقيقة. وتتصاعد قيم الحرية والنبل بين كل هذا، حيث تبرز المفردات في قوة بلاغية فريدة وحيث تعزف الأنا الشاعرة على أوتار الإرادة الإنسانية وتحديا للسقوط في براثن اليأس، مبرزة لقيم تمس وجدان العربي. ويطلع إلينا ضمير الأنا (أنا الأبدية ..أنا المارد) ليعبر عن بحار التراث، كي يضيء من منبع الذات وصولا إلى الجمع في ثنائية تعاقب الليل والنهار والعدم والحياة والأنوثة الوهاجة والقبح. هي الأنا الشاعرة كما كانت لدى الشاعر القديم، الذي ظل يحاور الوجود بحثا عن أفق النور صوفيا وعن المصير الإنساني وفق جدلية الزمن والتاريخ الذي يبرز جليا في الديوان. الأنثى في الديوان هي شهرزاد تبعث من جديد بجدائل مضفرة تلامس الأفق الكوني المنير. تتحدى بالكلمة قوى الشر في المجتمع والزيف والقهر. هذا الديوان إعلاء للذات / المرأة الناهضة الواعية المشاركة في المجتمع التي تدرك أن المعرفة خلود وأن الشعر كلمة وأن الكلمة صيرورة وملاذ أبدي. تلك المرأة / شهرزاد القصيدة التي تناصر المستضعفين، لا تملك إلا الحكي والبوح والكلمة حيث الروح تنبض داخلها بالحقيقة. هي شهرزاد الحلم والعدل، تقبض على الكلمات، تواجه بها قوى الظلام. ليست شهرزاد في الديوان دمية صنعت للمتعة وإنما هي روح الفكر والحضارة والحرية. روح الشعر والقيم الإيجابية التي لا تتجزأ ولا تهيم .. روح الصانعة لميزان العدل والمساواة بين البشر. إن الديوان أنشودة بأكملها تهتف فيها الأنا الشاعرة – بين همس وصخب – في المدى، وتكشف سحر الوجود وسر امتلاكه بين حنايانا.. فالأنا هي نحن ونحن هي الأنا معتليين عرش الزمان متضافرا مع المكان. تنتقل الذات الشاعرة بين المدن… باريس حيث قوس النصر، ومدن المغرب وسبتة وهى ظامئة لصوت العدالة المطلقة، تمرح من خلاله شخوص الديوان .. الفتيات الجميلات ذات الضفائر والفراشات البريئة والأمواج الدافئة للشطآن حيث يقف السيل القادم من صحراء الجبال عند اقدامها الرملية. وحيث التشابه والتلاقي بين كل مخلوقات الأرض وكل مفردات الطبيعة. هي الذات الشاعرة المقاومة لقوى الاستضعاف، تنهض بالقارئ/ المتلقي المشارك وتدفعه للتأمل والتساؤل حينا وتحاوره حينا آخر وتناجى ذاتها أحيانا. من خلال الأبيات نلمح تراسل الحواس واندماجها.. حيث الأصوات والأصداء تمتزج بالظلال والألوان ويمتزج الضوء بالصوت والهمس والعبير الفواح.. ومن خلاب السرمدية، نخطو نحو الحقيقة قهرا للضباب والتردد.. لكل وجه ظل واحد في الديوان.. وحقيقة واحدة هي ذاتها حقيقة الشعر المقاوم.. والذى يخلد بعد زوال البشرية.. والذي لا يقع في أسر الخوف ويناهض اللابقاء.. (أنا الأبدية .. أنا المارد .. أنا الباقي .. أنا بوصلة الطريق) هي صرخات المقاومة التي تأبى إلا أن تفارق عيني القارئ وهو يتأمل (مزامير الوجود) ويستمع إليها من خلال تشخيص لمفردات الكون المختلفة، ويعايش (جنيات الأمل) وقد قدمن من أجل خلق الخلاص والملاذ للمعذبين.. وسيزيف المتحدي للقدر ويسوع المجد يتألم من أجل البشر وخطاياهم وشهريار الذي قد يعود إلى رشده كارها الظلم.