احتفت فرقة مسرح الفدان بالكاتب المسرحي الحسين الشعبي ضمن فقرات الدورة العاشرة لمهرجان الفدان المسرحي المقام بتطوان أيام 7 و8 و9 دجنبر 2019.. وخلال الحفل التكريمي قدم الكاتب والناقد المسرحي محسن زروال شهادة في حق المكرم، فيما يلي نصها. “نحن ما زلنا هنا، ولنا أحلامنا الكبرى، كأنْ نستدرج الذئب إلى العزف على الجيتار في حفلة رقص سنويّة ولنا أحلامنا الصغرى، كأنْ نصحو من النوم معافين من الخيبة.. لم نحلم بأشياء عصيّة، نحن أحياء وباقون… وللحلم بقيّة” محمود درويش قد لا أخفيكم سرا إذا صرحت لكم الآن جهرا، أنني فكرت غير ما مرة في الكتابة عن المحتفى به. لكنني كنت كلما هَمَمْتُ بالأمر، وجدتني في حيرة من منه، وانتصب أمامي سؤال بحجم القضية: من هو الحسين الشعبي؟!… أو بالأحرى وحتى أكون دقيقا بما يفرضه المقام عمن سأكتب؟… عن الكاتب، أم الصحفي، أم النقابي، أم السياسي، أم الإنسان؟!… فقد شاء لي الحظ أن أصادف كل هؤلاء، وأقتسم معهم الكثير ممّا شَكَّلَ بعضَ ملامح شخصيتي الآن هنا. لذا كنت كلما نويت وتوكلت، تتعثر كلماتي، وتشرد أفكاري، فتضيع بوصلتي، لألملم خيبتي وآفُلُ مُدْبِرا لا ألوي على شيء منه. ولن أخفيكم حقيقة إذا صرحت لكم، سرا هذه المرة، أنني حين كنت أفكر بيني وبين نفسي في الكتابة عنه، كنت أَغْبِطُ نفسي، لأن مدوّنتي كانت، وبغض النظر عن شكلها أو محتواها، ستكون مختلفة ومتميزة، كونها مُنْفَرِدَة ومَعْزُولة عن مثيلاتها. غير أن الأمر اللحظة مختلف تماما، ذلك أن ما سأخطه الآن، سيكون جزءا من كتابات أخرى ستحمل توقيع خيرة من عرفوه قبلي وعايشوه، وحتما لن تكون شهادتي في حقه أعمق وأصدق من شهاداتهم وقراءاتهم. وكمَخْرَجٍ من حالة التيه والعجز هذه، وجدتُني أرْنُو بِعَيْنَي الأمل إلى الغد بدل الأمس، وأتوق إلى الممكن بدل الكائن، والمستقبل عوض الحاضر والماضي، فاخترت سبيل “الرسالة” لِأَجْهَرَ بما كنت أُسِرُّ، وأكشف ما كنت أسْتُر. عزيزي… لن أناديك “الشعبِي”، فنادرا ما سمعت أحدهم يناديك “الحسين” حتى أقرب الناس إليك، فأنت “الشعبيُّ” في كل الفضاءات والأمكنة حتى في بيتك وبين زغاليلك. لذا سأسلك طريقا مختلفا وأناديك “الحسين”. عزيزي الحسين.. جرت العادة في مثل هذه المناسبات، أن يَتَسَيَّدَ المديحُ، ويكون ذكر المحاسن “مَانْشِيتاً” لجُلِّ الشهادات، فيحط الماضي بكَلْكَلِهْ ويَجْثُمُ على الحاضر حتى يكاد يختنق ويحجب النظر عن المستقبل. ففي هذا البلد السعيد، دَأبَ العُرفُ على أن الاحتفاء لا يستقيم إلا لمن أتمّ فُصولَ رحلته أو شارف على نهايتها، فيصطفّ خلفه رفاق الدرب بباقة ورد وشهادة حسن الختام، يلوحون بمناديلهم البيضاء، ويهمسون له جهرا: «شكرا لك… لقد أديت مهمتك بكل اقتدار… آن لك أن تتوارى للخلف وتستكين للظلام». الثّابتُ أنّ هذا ما يحدث عادة، غير أن الأمر سيكون جدَّ مختلف معك، فالحق أنك بعدُ ما بدأت، فما زال أمامك، على الأقل بالنسبة لمن عرفك وخَبِرَك، متَّسعٌ من الغد لتُظهر ما أخفيت، وتُفشي ما كتمت، وتُوثّق ما رويت… لذا فلتعذرني عزيزي، إن لم أنظر في مرآة الخلف، ولم أنْحُ سبيل المديح، فليس لديّ ما أقوله فيك أكثر مما سيُحدِّثُ به مُتَعَبِّدُو محرابك، فأنت العَلَمُ الذي لن يكذب في حقيقته صادقان، ولن يختلف في مَشْيَخَتِه مُريدَان. عزيزي الحسين… وأنا أتفحص الشخوص المُتوارية خلف صَليلِ اسمك، اكتشفت وبالصدفة أنك كما العملة لا تستقيم إلا بوجهين، وجه الكاتب، ووجه الصحفي والنقابي والسياسي، وبينهما يشمخُ الإنسان. لا أكتمك سرا، أنّني حِرْتُ في أيّهما سأخُصُّه بكلماتي، فالوجهان متعالقان لدرجة يصعب فصلهما وإقامة الحد بينهما، إلا أنني، وبغير قصد مني، اكتشفتُ خيطا رفيعا يشدُّهما، ويوحّدُ بين عوالمهما… إنَّها الْكِتَابَةُ. لا شك أنك تعي أكثر من غيرك، أن كل شيء إلى زوال. وأن الكتابة كما النبوة لا تُوَرَّثُ لأحد عدا ما تضمّه دفَّتا كتاب، وأن “السياسي” و”النقابي” و”الصحفي” و”الإنسان” الذين يتوارون خلفك، حتما سيعيشون بعدك وينبعثون في حيوات كل الأسماء التي عايشتك وتتلمذت على يديك، بدءا بأشبالك وحتى أصغر مريديك، بينما الكاتبُ، وللأسف الشديد، لن يجد طريقه إلى الخلود إلا فيما سَتَرْقُنُهُ يداك، وتخرجه من عتمة الفكر إلى بياض الورق. لذا حين أقدمتَ على نشر نص “السّاروت”، قلت بيني وبين نفسي، أخيرا آمن “الحسين” أن الكتابة وحدها ما سيخلده بين العالمين، وحتما سيكون هذا النص “ساروتا” لنصوص أخرى تصطخب داخلك وتأبى أن تجد لها متسعا للولادة. انتظرت… وانتظرت… حتى بلغني استهلال نص “الوزيعة”(1)، بَسْمَلْتُ وحَمْدَلْت، وكعادتي لم أُفَوِّت فرصة التَّعليق، فهمست بيني وبين نفسي، بعد أكثر من عشرين عاما، أخيرا أفرج “الحسين” عن “الرَّاڤَدْ”(2). فكم يلزمنا من الوقت يا عزيزي، لنسمع استهلال مواليد أخرى لا تزال “رَاڤْدَة” في درج مكتبك؟… كم يلزمنا من العمر لنُثبت لأنفسنا قبل غيرنا، أنَّكَ كبيرُنا الذي علمنا السحر، وأنّ وجه “السياسي” و”النقابي” و”الصحفي” ما هو إلا صدى لوجه “الكاتب” المستكين للظل؟! كم يلزمنا من الانتظار، لنقنع أنفسنا بأن تواريك خلف وجهك الآخر مؤقَّتٌ وزائل. وأن غربتك مهما طالت، لابد أن تنتهي يوماً وتعود إلى حضن حقيقتك؟… وما حقيقتُك أولا وأخيرا، إلا الكتابة. عُدْ إذن إلى قلمك، وارتدّ إلى نصوصك، فليس من باب المُروءة أن تتركها هكذا وَقْفا بين الوجود والعدم. ارجع إلى شخوصك، مُدَّ لها يديك وقُدها بحكمتك حتى آخر المسير، كما قدتنا يوما، وأخرجتنا بمعية رفاق الحلم من سديمِ كهف الفوضى إلى ضياء التنظيم، بعد أن مَكَثْنَا فيه لسنين طوال. أعد إلينا وجه كاتبنا المتواري خلف وجه “السياسي” و”النقابي” و”الصحفي”، أيقظه من سباته الذي طال حتى كدنا ننساه، واكتُبْ.. اُكتبْ.. اُكتُبْ، فقد آن لخريف العمر أن يزهر بنفسجا وقصيدة. عزيزي الحسين… كثيرا ما تساءلت، لماذا يصرُّ “الشعبي” على إخفاء رأسه خلف قبعته الإنجليزية؟… لماذا يحجب عنا رأسه، ويأبى علينا أن نكشفه ونكتشفه؟! في البداية كان يبدو لي الأمر عارضا، وغالبا ما كنت أرجع ذلك إلى شخصية “العرّاب” التي لا يمكنها أن تستوي أو تستقيم دون قطعة “إكسسوار” مكملة. لكنني كنت كلما رأيتك تمدّ يدك وترفع قبعتك لتضعها بجلال فوق رُزْنَامَتِك، ثم تمسح بعض العرق الرابض عند ناصيتك أو المنساب بهدوء خلف رقبتك، كنت أسترق النظر إلى الشُّعَيْراتِ الفضية الجامحة في رأسك، فأرى فيما يراه المُريد، قصصا معتّقةً لشيخ تَرَقَّى في المقامات والأحوال حتى وصل مقام “الحسين” المنتصب أمامنا اليوم كوجه الحقيقة. فخلف الشعيرات الفضية ترقد ألف حكاية وحكاية، أزهرت جميعها هناك بسوس العالمة، على التخوم المفضية إلى رحابة الصحراء، لتُثْمر هنا، على العُدْوة اليسرى لأبي رقراق. حينها عرفت، بحس السَّالِك إلى طريق الشيخ، لماذا كلما نزعت قبعتك، أصدرت تنهيدة وكأنك تزيح عن كاهلك ما أرهقه طول المسير، وأعياه شقاء الوعي، ولفحته حرقة الأسئلة. هو الرأس يشتعل إذن، والعرق الذي يَنْتُعُ من ناصيته دليلُ ما يصطخب داخلك. فليس يسيرا ما عشته وعايشته، فأنت وحدك الفاضل من ليلة الاحتفاء بأبي الفنون، وحدك الباقي من لقاء “المِشْور السَّعيد” الذي أرسى أسس تأمين الطريق للسالكين إلى الخلاص. كلهم عبروا من هناك، وبقيت وحدك القابض على الجمر. ربعُ قرنٍ مضى، ولازلت تقبض على الأمل، وتصرُّ على المسير حتى آخر الحلم. خَبِرْتَ الحياة من تفاصيلها، واقتنعتَ أنّ العالِم الحقيقي من يجعل معارفه رهن إشارة الآخرين، ويُخضع علمه للاختبار، ولم لا يواجه الموت إن اقتضى الأمر. فلم يثبت يوما أنك رغبت في الانفراد بالمعرفة، فما تعلمته من الكتب ومن جزئيات الحياة، أعطيته مجانا لجيل من النقابيين والسياسيين والصحفيين. فقد آمنت دوما بأن المعرفة لا تكتملُ ما لم تُنقل وتعلّم للآخرين، لأنك تعي جيدا، أنّ التخلص من المعرفة كما يقول عبد الفتاح كيليطو، هو السبيل الوحيد لامتلاكها الحقيقي(3). بالمناسبة، يحضرني كتاب “ألف ليلة وليلة”، وتباغتني أسئلة كثيرة: ماذا لو لم يأمر الملك بتدوين الحكايات، هل كنّا سنعرفها، ونعرف شهرزاد ومفاصل الرحلة القاتلة التي خاضتها لإنقاذ نفسها، وعذارى غيرها، بل ولإنقاذ شهريار نفسه؟! قياسا على هذا، هل ستكون الأجيال القادمة محظوظة مثلنا، وتعرف كما عرفنا نحن، تفاصيل الرحلة السيزيفية التي قطعتها من تخوم الجنوب إلى ضفاف أبي رقراق بحثا عن وطن يسعنا جميعا؟! هل سيذكر أبناؤنا وأحفادنا حكاية الأستاذ الذي تمرد على وظيفته، واختار ركوب غِمَار مهنة كانت ولا زالت تراوح شرعيتها؟! هل سيعرف ورثتنا قصة المحارب الذي أغرق كل سفن العودة، وأعلن في العالمين ثورته ضد الفوضى وكل أشكال العبث الذي خيم علينا لسنوات طوال؟! هل سيذكرون حكاية شبل “أنوار سوس” الذي بسط له المسرح كل السبل، ليرتع فيه ريعا، فأبى على نفسه أن يصطفَّ خلف جوقة المهرولين، واصطفى لنفسه طريقا وعرا نحو تنظيم المهنة وهيكلة المجال الفني؟! هل سيذكرون كلَّ هذا، وغيره كثير؟! لا أظنّهم فاعلون، إلا إذا ترجّلت عن صهوة المغامرة، واستكنت إلى ذاكرتك الحبلى بالعبر، تنفض عنها بعض النسيان، وتكتب. فالنسيان آفة الذاكرة، والكتابة وحدها، يا عزيزي، تنقذ حياتنا من النسيان. عزيزي.. لا شك أن الاحتفاء الذي يخصك به “المركز الدولي لدراسات الفرجة” بمهرجان طنجة للفنون المشهدية، في محطته الرابعة عشرة، سيكشف الكثير من ملامح “الشعبي” التي نجهلها، ويجهلها العديد من السابقين واللاحقين. لكن ومع ذلك، ستبقى الكثير من مساحات الصمت في حاجة إلى بيانها وإضاءة عتماتها. ويبدو أن الوقت حان، لتترك “الشعبي” يستكين إلى نفسه، وتعود ل “الحسين”، الكاتب الذي ابتلعه اليومي، واستنزفته الرحلات المكوكية بحثا عن أفق أرحب. فلازال، يا عزيزي، للحلم بقية. هوامش نص مسرحي كان قد أعده الحسين الشعبي عن قصة “السماد الكيماوي” للكاتب التركي الساخر عزيز نسين، وقدمت على خشبة المسرح نهاية القرن الماضي بتوقيع المخرج المسرحي يوسف الساسي. الساكن والهادئ والثابت، ويطلق في المغرب على الجنين الذي يبقى في بطن أمه لمدة تفوق مدة الحمل المجمع عليها. عبد الفتاح كيليطو، العين والإبرة، دراسة في “ألف ليلة وليلة”، ترجمة مصطفى النحال، مراجعة محمد برادة، منشورات “نشر الفنك للترجمة العربية”، الدارالبيضاء 1996، ص 25. شهادة بقلم: محسن زروال