… بعد هذه النتائج التي لم ترض الجنرالات، قام الجنرال خالد نزار، وزير الدفاع وبدعم من بقية الجنرالات، بإجبار الرئيس على تقديم استقالته وإخضاعه لإقامة جبرية استمرت حتى عام 1999. وفي الوقت نفسه، تم إلغاء الانتخابات التي أدت إلى نشوب حرب أهلية استمرت حوالي عشر سنوات وأسفرت عما لا يقل عن 200 ألف قتيل ومليون مشرد، وعشرات الآلاف من المنفيين وأكثر من 20 مليار دولار من الخسائر الاقتصادية. محمد بوضياف، مؤسس جبهة التحرير الوطني (FLN) ومحرر بيان فاتح نوفمبر 1954 (وهو أيضًا أحد القادة الخمسة الذين تم اختطافهم، من طرف طائرات مقاتلة فرنسية، بتحويل طائرة الخطوط الملكية المغربية التي كانوا على متنها وتم إجبارها على الهبوط). أثناء وجوده في السجن الفرنسي، تم تعيينه في عام 1958 وزيراً للدولة في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية (GPRA) ونائب الرئيس في عام 1961. أطلق سراحه في 18 مارس 1962. وبعد استقلال الجزائر في يوليو1962، اختلف مع بن بلا والعسكر. وفي محاولة منه إرساء التعددية السياسية أسس حزب الثورة الاشتراكية (PRS) في 20 سبتمبر 1962. وفي يونيو 1963 تم اعتقاله بتهمة التآمر ضد أمن الدولة. وبعد إطلاق سراحه في أكتوبر لجأ إلى المغرب حيث استقر إلى عام 1992. في يناير 1992، وفي أعقاب استقالة الشاذلي بن جديد وإلغاء الانتخابات، بحث الجنرالات عن قائد تاريخي ليكون رئيسًا للجزائر يقوم بتلميع الانقلاب وتبييض يد العسكر وإضفاء المشروعية علي عملهم، فتم الاتصال بالسيد بوضياف، الذي كان لاجئًا في مدينة القنيطرة منذ الستينيات، فتم إقناعه بالنوايا الحسنة لقادة الانقلاب الذين زعموا أنهم يعارضون فقط حكم الإسلاميين المتطرف. بقبول بوضياف العرض الخادع، قبل الزعيم الجزائري أن يكون مصيره نهاية مأساوية وبشكل مكيافيلي بغيض ومقيت ارتكبه العسكر في حق أحد مؤسسي الدولة الجزائرية ومحرر بيان ثورة فاتح نوفمبر المجيدة. لقد حاول محمد بوضياف، وهو مفرط في الثقة، إدخال إصلاحات وتطهير البلاد بشكل يخالف مصالح طغمة الجنرالات والعصابة المرتبطة بهم. فبعد خمسة أشهر فقط من وصوله لرئاسة الجمهورية تم اغتياله بوابل من الرصاص، في 29 يونيو1992، أثناء ندوة متلفزة وعلى المباشر. بعد هذه الجريمة الشنعاء وخلال العقد الدموي من الحرب الأهلية، قام الجنرالات باستعراض ثلاثة رؤساء للجمهورية (علي كافي واليامين زروال وعبد العزيز بوتفليقة). وآخرهم هذا، عبد العزيز بوتفليقة، الذي كان الخديم الوفي لبومدين والمفضل لديه في الحيل والمؤامرات على الصعيدين الوطني والدولي، استطاع خلافا لسابقيه تمديد مكوثه في السلطة عشرون سنة ولم يتخل عنها إلا بعد أن تخلي الجيش عليه بقيادة نائبه في الدفاع ورئيس الأركان القايد صالح. ولد عبد العزيز بوتفليقة في 2 مارس 1937 في وجدة، (المغرب) وخلال حرب التحرير، كان جزءًا من التيار المعروف بجماعة وجدة، حيث أصبح في عام 1958 سكرتير لهواري بومدين ثم عضواً في هيئة الأركان العامة. إنه رجل ثقته الذي تولى مهام خاصة. فكما سبق ذكره تم تكليفه عام 1961 بالحصول على دعم الزعماء التاريخيين أو بعضهم والذين كانوا لا زالوا رهن الاعتقال بفرنسا. فلعب دورًا حاسمًا في إقناع وجذب بن بلا إلى الجناح العسكري، والوصول إلى تحالف مع بومدين. وعندما سيطر هذا التحالف على الحكم، عين بوتفليقة عام 1962 وزيراً للشبيبة والرياضة في أول حكومة إلى عام 1963. ثم عين وزيراً للخارجية حتى وفاة بومديان في عام 1979. وكان أحد المشاركين الرئيسيين في انقلاب عام 1965 وشارك في الحكومات الأربعة لبومديان والتي تقلد خلالها حقيبة الشؤون الخارجية. ومجموع السنوات التي قضاها كوزير هي سبعة عشر سنة. وبعد وفات ولي أمره، هواري بومدين، وصعود الشاذلي بن جديد، اتهمته محكمة الحسابات باختلاس الأموال من ميزانيات عدة سفارات جزائرية وتحويلها لحسابه في بنوك سويسرية. وعلى إثره إختار المنفى خارج الجزائر. وبعد عشرين سنة تم تقديمه من طرف العسكر إلى الانتخابات الرئاسية المبكرة عام 1999 كمرشح “مستقل” والوحيد في انتخابات انسحب فيها جميع المرشحين احتجاجًا على التلاعب الذي صاحبها. بعد انتهاء الولاية الثانية لبوتفليقة على رأس الجمهورية، قدم نفسه للانتخابات الرئاسية للعهدة الثالثة في أبريل 2009، بعد ما أدخل تعديلا على الدستور ألغى بمقتضاه الفصل الذي يمنع رئيس الجمهورية من تجديد عهدته لأكثر من ولايتين متتاليتين وطبقها لصالحه بأثر رجعي. وبالفعل، انتخب للعهدة الثالثة بعدد لا يصدق من الأصوات، فاقت التسعين في المئة . خلال العهدة الثالثة، منذ عام 2013، أصبحت صحة بوتفليقة غير مستقرة وتتدهور. عاش خلالها على كرسي متحرك مجهز بجهاز مزيل الرجفان ومصاب بفقدان القدرة على الكلام ومع ذلك، وعلى الرغم من عدم قدرته الواضحة على تسيير نفسه، قام الجنرالات وزمرتهم بتقديمه للانتخابات قصد تسيير البلاد. وأعيد فيها انتخابه للمرة الرابعة في 17 أبريل 2014 بنسبة 81.5 في المائة ودون مشاركته في حملته الانتخابية. وطوال فترة الولاية الرابعة، كان فخامة الرئيس خلالها في حالة إعاقة جسدية وذهنية عن القيام بمهامه العادية فبالأحرى الدستورية والشأن العام. وعلى الرغم من ذلك، وبسبب غياب أو تغييب لمرشح آخر يضمن مصالح الجنرالات وزمرتهم بنفس ولاء وإخلاص بوتفليقة، تم الإعلان في 10 فبراير 2019 عن تقديم فخامة الرئيس للانتخابات محسومة النتائج لتقلد عهدة خامسة، مع العلم أن بوتفليقة كان طريح الفراش في المستشفى بسويسرا، ومع ذلك قدم مدير حملته رسميًا طلب الترشيح في خرق صارخ للقانون الانتخابي الذي ينص على أن طلب الترشيح يقدمه المرشح شخصيًا. وهكذا وصل السيل الزبى والاستخفاف بالشعب الجزائري تجاوز مداه وبشكل مهين للمواطنين، فنشبت ثورة سلمية خرج فيها مئات الآلاف من المواطنين في مظاهرات لم يسبق لها مثيل رافضين هذه المهانة والتحقير. ومع ذلك، وبعدما وصل ضغط الشارع أشده، وفي مناورة جديدة، تم سحب ترشح بوتفليقة في 11 مارس 2019 مع تأجيل الانتخابات الرئاسية ليبقى في السلطة بعد انتهاء ولايته في أبريل 2019، بدعوى إدخال إصلاحات علي النظام السياسي. وهي إصلاحات لم يقدم عليها بوتفليقة، وكان بوسعه ذلك، خلال السنوات المديدة التي بلغت عشرون سنة. وأمام تواصل المظاهرات والاحتجاجات لم يسع الجنرال أحمد قايد صلاح، نائب وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش، الذي يجسد السلطة الحقيقية للنظام إلا تنحية بوتفليقة في 2 أبريل (2019) وتعويضه بشكل مؤقت وفق الدستور برئيس مجلس الأمة السيد عبد القادر بن صالح الذي يعتبره الجزائريون جزءًا لا يتجزأ من عصابة المافيا التي تسيطر على السلطة. وهكذا نرى من خلال هذا العرض أن مشكلة الحكم في الجزائر تعود إلى السنوات الأولى للثورة، منذ اللحظة التي استولى عليها الجناح العسكري واحتكرها لصالح طغمته، بعدما سيطر على جبهة التحرير الوطني وطوعها لخدمته، فقاد البلاد والعباد باسم الثورة المغدورة. وفي هذا السياق تمكن أيضا من استخدام المنظمات التابعة للحزب الوحيد كنقابة الاتحاد العام للعمال الجزائريين (UGTA)، والمنظمة الوطنية للمجاهدين (ONM) لتوجيه الجماهير في الاتجاه الذي يخدم مصالحه داخليا. أما على المستوى الخارجي، فمن خلال القسم الدولي داخل جبهة التحرير الوطني كان يقدم المساعدة والدعم بسخاء لمنظمات مثل “حركة تقرير المصير واستقلال أرخبيل الكناري” (MPAIAC) لأنطونيو كوبيلو ومنظمة الفاسكيةETA وجبهة البوليساريو وغيرها، والتي بدعوى دعم حق الشعوب في تقرير المصير كان يستخدمها، ولا زال، كوسيلة للضغط والابتزاز في سياسته الخارجية. الشعب الجزائري الشقيق قدم أكثر من مليون شهيد من أجل إنهاء الاستعمار والتمتع بالحرية والاستقلال ومع ذلك لم يتحقق له المبتغى. لقد حرم من الحريات الأساسية من طرف نظام العسكري شعبوي الذي حل محل الاستعمار الفرنسي. لهذا لم يتردد الزعيم الجزائري الحسين آيت أحمد بأن يصف هذا النظام بالاستعمار الداخلي، بل وأصبحت معه فرنسا، تلك القوة الاستعمارية بالأمس، هي اليوم ملجأ العديد من الجزائريين الذين لا يقبلون بنظام استبدادي وحكم العسكر. النظام العسكري في الجزائر يعتزم استمرار تدخل الجنرالات في الشأن العام والتجكم في الأمور السياسية واغتصاب حق الشعب الجزائري في الحرية وتقرير مصيره وتسيير شؤؤونه بشكل ديمقراطي. جنرالات الجزائر يصرون على إجراء انتخابات رئاسية تتغير فيها الأسماء والوجوه دون تغيير في النظام. والشعب الجزائري من جهته يرفض انتخابات لاختيار الأشخاص، بل خرج في ثورة سلمية يهتف في الشوارع مطالبا باستقلال وطني حقيقي في إطار الشمال الإفريقي، (تماما كما جاء في بيان الفاتح نوفمبر 1954) وتشييد نظام ديمقراطي مبني على التعددية الحقيقية تخضع فيه المؤسسة العسكرية لقيادة الحكومة المدنية، كما تم تبنيه في أول مؤتمر لثورة التحرير بالصومام . إن طموح الشعب الجزائري في “الاستقلال الوطني في إطار شمال إفريقيا” كما جاء في بيان ثورة الفاتح نوفمبر وفي التمتع بالحرية والديمقراطية والتعددية هو أمل يشاركه فيه ويتضامن معه ومن أجله، كل أبناء المغرب الكبير وخاصة الشعب المغربي، الذي أغلق النظام المستبد في الجزائر الحدود في وجه الشعبين، ويعمل بإصرار على خلق جمهورية صورية افتراضية فاشلة وعلى شاكلته، تزيد من تمزيق المغرب الكبير، وتزيد الفرقة بين أبنائه . إن شعوب المغرب الكبير اليوم، وكما كانت خلال الحقبة الاستعمارية في الخمسينيات من القرن الماضي، تشعر بتضامن كبير وتأييد للشعب الجزائري في ثورته السلمية الثانية لأن في تحقيق أهدافه فتح للطريق من أجل بناء المغرب الكبير على أركان دوله الخمسة والذي كان ينشده بيان الفاتح نوفمبر 1954. * النص الأصلي للمقال منشور بالإسبانية في الموقع الكولومبي كبلاتام للدراسات والتحاليل السياسية