تهدف هذه القراءة إلى الوقوف على أهم الأفكار التي تنظم المشروع الفكري للباحث امحمد جبرون، التي تشكل بداية نقلة نوعية في العقل السياسي الإسلامي في بناء المعاملات على أساس القيم مطلقة عابرة للزمن، وليس على أحكام متأثرة ببيئة معينة. فوجود مساحة بين النص الديني و الواقع سببه بالأساس عند الأستاذ جبرون غياب المشروع الكلي الشمولي في الفكر الإسلامي، ما جعل المسلمين يتعلقون ببيئة معينة مضت في التاريخ دون الإستفادة من التجارب الأخرى رغم أنها شكلت عمران بشريا ضخما. سواء في البيئة الإسلامية أو البيئة الغربية، فالتعلق بمرحلة الخلافة والتركيز عليها هو إختزال و إجحاف في قراءة التاريخ. الباحث الإسلامي امحمد جبرون من خلال كتاباته الكثيرة يسير بخطى ثابتة نحو الحداثة، ملتمسا طريق أجداده التنويريين الافغاني ومحمد عبدو ومحمد رشيد رضا، الذين ما بات يستشهد بأفكارهم و إجتهاداتهم المتقدمة على عصورهم. إنه يدفع بالحركة الإصلاحية الإسلامية التي يعتبر نفسه أحد روادها دفعا للتوفيق بين الفكر السياسي الإسلامي و الحداثة السياسية، رغم ما أصاب الفكر الإسلامي من صدمة الحداثة الذي جعلته ينتج الحاكمية وحركات متشددة. لهذا فخطورة كتاباته أنها تتم من داخل الحركة الإسلامية وليست من خارجها، و أنها تستهدف أبناء الحركة الإسلامية أنفسهم من أجل ربط واقعهم المعاصر بالنص الديني، ليس قفزا على النص الديني، بل إعادة قراءته قراءة قيمية مقاصدية تحقق تصالحا مع الواقع، لهذا يحتاط من المفاهيم والمصطلحات التي جاءت بها العلوم الحديثة، فيستعمل ألفاظا ومفاهيم تقليدية، كما أنه لا يخاطب الذين يودون إحداث قطيعة تامة مع النص،لأنه حسب جبرون النص القرآني يحتوي العالمية والكونية. ومحمد جبرون يعتبره البعض العلماني الذي انشق من صفوف الحركة الإسلامية دون أن يبتعد عنها كثيرا، حيث انفصل عنها تنظيميا، لكن بقي متعلقا بها فكريا، لأنه يقدم مراجعات عميقة في فكر الحركة الإسلامية، خصوصا كتابه الأخير محور القراءة “هدي القران في السياسة والحكم أطروحة بناء فقه المعاملات السياسية على القيم”. كما يعتبر نفسه أحد الإصلاحيين الإسلاميين المعاصرين المؤمنين أشد الإيمان بقضية الإصلاح والتجديد من داخل الحركة الإسلامية، إذ يقول في مقدمة كتابه “تجديد يناسب ضرورات العصر و مقتضيات من جهة، ويتمتع بالصدقية من جهة ثانية”، والذي جعل كتاباته تتلقى انتقادات لاذعة من طرف الواقفين على ثغور هذه الحركات الإسلامية، المؤدلجين بالصراع الإسلامي/العلماني. السياق العام للكتاب: بدأ الأستاذ محمد جبرون اهتمامه بالتراث الإسلامي مبكرا؛حيث بدأ بكتابة مجموعة من الدراسات و الأبحاث حول الحركة الإسلامية وقضاياها من سنة 2009، بعضها نشر في مواقع الحركة الإسلامية، و البعض الآخر في مواقع وطنية عامة، هذه الدراسات تهتم بالأساس بإعادة تفسير بعض الأحكام القرآنية وإعادة قراءتها في سياقها التاريخي، أحكاما يراها الأستاذ جبرون معيقة للكونية الإسلامية. لينتقل بعد ذلك إلى كتابة أمهات الكتب في الموضوع نفسه، و أهم هذه الكتب في اعتقادي الشخصي التي تحتوي مشروعه هي؛ الحركة الإصلاحية في تمحلاتها ومفهوم الدولة الإسلامية أزمة الأسس وحتمية الحداثة ونشأة الفكر السياسي الإسلامي وتطوره، وكتابه الذي بين أيدينا: “هدي القران في السياسة والحكم”، أطروحة بناء فقه المعاملات السياسية على القيم. هذه الكتب شكلت مشروع امحمد جبرون الفكري في نقد التراث الإسلامي لكن دون تجاوزه، وفي بناء نظرية جديدة في التعامل مع القرآن مبنية على القيم و الغايات، حيث بقيت له إصدارات قليلة يطبق فيها منهجه الاصولي القيميالذي توصل إليهفي الكتاب لتكتمل أطروحته في التجديد؛ كتب تشمل مجالات أخرى اقتصادية واجتماعية و سياسية. الانتقادات التي رافقت الكتاب: قبل صدور الكتاب؛ ألقى الأستاذ جبرون مداخلة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بقطر حول منهجه المعتمد في قراءة التراث، والتي عنونها بقوله “في أصول فقه القيم ومنهجه، دراسة في الأزمة المنهجية في الفقه الاسلامي”، وهي المنهجية التي اعتمدها في كتابه موضوع القراءة، كان ذلك قبل دخول الكتاب إلى المغرب يوم الثالث من المعرض الدولي للكتاب بالدارالبيضاء “ما بين 07 و 17 فبراير 2019 “. من خلال هذه الورقة التي أصل فيها لمنهجه المتبع، تحدث عن الأزمة المنهجية في أصول الفقه، والتي أرجعها بالأساس إلى المؤسس الأول الشافعي. ليرفق هذه الورقة مجموعة مقالات من طرف من يحسبون أنفسهم على التيار الإسلامي المغربي؛ المشتغلون بالخصوص بقضايا “التجديد” والكتابة، تهاجم الكاتب و ليس الكتاب، ليس مدافعة الفكرة بالفكرة بل مصادرة الرأي و الشخصنة. وبعد ظهور الكتاب في المغرب وقراءته من طرف مهتمين و أكاديميين وتخصيص فضاءات لذلك، والباحث نفسه اهتم بهذه القراءات وشجعها، لأنه يعتبرها هي حواشي المطورة لأطروحته، كما أن أغلب هذه النقاشات تمت في مقرات حركة التوحيد والإصلاح، أو بعض المنظمات التابعة لها؛ يسجل من هذه القراءات كلها، سعة صدر الباحث اتجاه كل الانتقادات التي وجهت إليه وغير المبررة أحيانا، ورده الموضوعي الرصين على كل الانتقادات، كما يحكي هو نفسه أنه قبل طباعة الكتب قام باستدعاء مجموعة من المختصين إلى منزله وعرض عليهم المستودة و طلب ملاحظاتهم. إلا أني أسجل من جهتي كمتتبع لكل هذه القراءات؛ أن الكتاب لحد الآن لم يقرأ بشكل علمي وموضوعي من طرف مختصين، سواء جماعة العلماء الشرعيين خصوصا الأصوليين والمقاصديين، أو جماعة علماء العلوم الحديثة، خصوصا المختصين في الفلسفة الدينية والإيتيقا؛ لأن الكتاب أيضا يقيم سجالا واسعا مع مجموعة من القضايا الفكرية الحديثة. كما أن الكتاب لم يقرأ بروية و تأن، بل صوحب في أغلب الحالات بالحس الأيديولوجي المدافع عن “الإسلام”. مقدمة حول الكتاب: تأتي قراءة محمد جبرون للسياسة والحكم في القرآن على ضوء إشكالية يراها مؤرقة للعقل العربي المسلم، رغم الكثير الذي قدم في الموضوع، إلا أنها لم تستطع الجمع بين النص والواقع دون المساس بالجانب الأخلاقي القيمي. فالاجتهادات الأولى التي بدأت أواخر القرن 19 غلب عليها حسب الباحث البراديغم السلفي رغم حداثتها، في مقابلها قُدمت أيضا اجتهادات أخرى غلب عليها الطابع العلماني الذي ينتصر للعقل على حساب النص. أما مع النصف الثاني من القرن العشرين، فقد ظهرت قراءات معاصرة للقران الكريم، يراها الباحث مهمة، سواء التي اعتمدت المنهج المقاصدي أو التي اعتمدت المناهج الحديثة المأخوذة من اللسانيات و الأنثروبولوجيا، لكنها بقيت محدودة الأثر و مخرجاتها لم ترقى للمستوى المطلوب،و بعضها رغم تجاوزها للقراءات الكلاسيكية فإنها ما لبثت أن ألبست اللبوس التقليدي لباسا عصريا، “إذ اقتصر تجديدها على الأشكال الظواهر ولم ينفذ إلى عمق الإشكالية”. وأغلب الأطروحات حسب الباحث ظلت تتأرجح بين العلمنة الشاملة المؤسسة لقطيعة إبستيمولوجية مع النص، وأخرى تتبنى الحاكمية الإلهية وتطبيق الشريعة ولم تستطع تجاوز “المأزق الأخلاقي للسياسة”. لتتشكل أطروحة الباحث جبرون بين التفسير السلفي الذي يريد استنساخ تجربة الصحابة، وبين الأطروحة التاريخانية التي تتجاوز النص؛ أطروحة مبنية على حاكمية القيم وليس على حاكمية الشريعة. منهجية الباحث امحمد جبرون في الكتاب: يفترض الباحث جبرون من الأساس أن المشكل في الفكر السياسي الإسلامي هو مشكل منهجي، يتعلق بأصول الفقه عندالشافعي التي لم تستطع حتى القراءات المقاصدية تجاوزه، والمنهج الذي يؤسس له جبرون يتعلق بمنهجية جديدة تقارب النصوص المعاملاتية بالبحث في المناهج والقيم الكامنة وراءها، والفصل بين الظروف التاريخية المرتبطة بها، لاستخراج القيم المؤسسة للنص من أجل الوصول إلى ما هو كوني مطلق. وفي هذا فهو يفرق بين الدين والتدين؛ ليس التدين كما أصلت له المدرسة الوضعية في علم الاجتماع، بل هو يعثر أن العقيدة والعبادات هي دين مطلق متعال لا يقبل الاجتهاد والتأويل، بينما التدين هو تلك المعاملات التي تشكلت في بيئة محلية معينة أو تلك التي جاءت من سياقات تاريخية أخرى تم استدماجها في الإسلام. هذه المعاملات التي تستبطن مجموعة من القيم المثالية المتعالية عن الزمان والمكان، هي ما يبحث فيها المؤلف. بمعنى أن هذه الدراسة تسعى إلى إثبات التاريخي في القرآن السياسي واستخلاص القيم الكلية منه، لتصير صالحة لكل زمان ومكان، وهي ما عبر عنه بالإثبات والنفي، الذي يعني إثبات التاريخية من الأحكام من أجل تجاوزها إلى قيم عليا. والباحث لا ينكر أنه استعان في تشكيل منهجه بثلاث أطروحات كبرى يراها مهمة في الموضوع؛ وهي أطروحة المفكر، فضل الرحمن حيث تركز هي الأخرى على القيم؛ قيم كونية متعالية عن التاريخ و قيم تاريخية محلية تتعلق بالجماعة ولا تتعداها إلى الكونية، والأطروحة الثانية هي المقاربة السياقية لعبد الله سعيد، التي هي الأخرى تحاول ملاءمة التراث الإسلامي مع العصر الحالي، حيث تعتمد ثلاث مفاهيم أساسية؛ السياق العام “1” الذي يعني السياق السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي للنص القرآني، و السياق العام “2” الذي يعني به السياق المعاصر المحيط بالنص، ثم مفهوم ثالث و هو الرابط السياقي الذي يجمع بين الاثنين. ثم استفاد من أطروحة المفكر التونسي محمد الطالبي الذي عالج موضوع تأديب المرأة في سياقه التاريخي. إلا أن الباحث امحمد جبرون، استفاد من هذه المناهج الثلاث كلها وتجاوزها إلى ما هو عملي تطبيقي. في البداية يعمد هذا المنهج إلى حصر القرآن السياسي وبيان دلالاته التاريخية. ثم بعد ذلك يقوم بيان الخلل الفقهي الذي سببه إهمال أصول الفقه للجانب التاريخي وتركيزها فقط على الجانب اللغوي فقط. ثم بعد ذلك يتم التأصيل للمنهج القيمي في المعاملات المبني على اعتماد القيم الكبرى في فهم النصوص الدينية. وفي الأخير يقدم مجموعة تطبيقات عملية في الموضوع من خلال تطبيق المنهج القيمي. في البداية يقيم الباحث امحمد جبرون سجالا واسعا مع من كل الأطروحات المقاصدية وأطروحات القراءات المعاصرة للقران الكريم، ثم ينتقل إلى التشابك مع أصول الفقه لدى الشافعي، ليؤسس لمنهجية جديدة يراها هي السبيل الوحيد بين كل هذه المناهج التي بمقدورها قراءة الإسلام قراءة موضوعية تتوافق و متطلبات العصر. يقدم أمحمد جبرون قراءة لأهم الأطروحات التي اعتمدت مقاصد الشريعة في قراءة النص القرآني، والتي قسمها إلى صنفين؛ الأطروحات الكلاسيكية و التي تتمثل في كل من الشاطبي و الإمام الطوفي، وأطروحات معاصرة أصحابها كل من مصطفى شلبي والفقيه احمد الريسوني ومحمد سعيد رمضان البوطي ثم الشيخ يوسف القرضاوي. ليخلص الباحث إلى نتيجة شاملة؛ أن هذه الأطروحات كلها رغم اختلافها سواء من يرى أن النص يوافق المصلحة أو من يرى أن النص يخالف المصلحة؛ لم تستطع أن تقرأ النص على ضوء المصلحة، وإنما قيدت المصلحة وحدت منها وحجمت من دور العقل، خصوصا فيما يتعلق من المعاملات ب “المُقدَرات” كأحكام الإرث والحدود والقصاص، وأن حكمها لدى هؤلاء حكم العبادات لا يستخدم فيها العقل، وأن المصلحة هي مصلحة الشارع. من ذلك قول الشاطبي عن الشريعة وهو إمامهم: “جارية على مقتضى العقول، لا أن العقول حاكمة عليها و لا محسنة فيها و لا مقبحة”. أما القراءات المعاصرة سواء التي اعتمدت المنهج اللغوي أو التي اعتمدت المنهج التاريخي حسب جبرون، أنها استعملت قاموسا جديدا من الألفاظ، غريب عن التفاسير التقليدية غير مألوف لدى العامة، وبعضها صعب الفهم وصعب التطبيق، كما أنها لم تراع العقل الجمعي المسلم ولم تحترم الشعور العام في بعض القضايا العقائدية. أطروحة محمد جبرون حول بناء المعاملات السياسية على القيم: قبل الحديث عن كتابه “هدي القران في السياسة والحكم” لابد من استعراض أهم الأفكار التي وردت في بعض كتبه، و التي أراها مهمة كمدخل لفهم كتابه “مفهوم الدولة الإسلامية أزمة الأسس وحتمية الحداثة “؛ حيث يقوم في هذا الكتاب بتقديم قراءة للتاريخ للسياسي الإسلامي لكل من دولة الخلافة دولة العصبية الأموية والعباسية والعثمانية؛ قراءة في حركية الدولة والمجتمع والعمران وليست قراءة تاريخية مجردة، يقوم بهذه القراءة من أجل الوقوف على منسوب الأسس الثلاث التي يراها تشكل العمران البشري، وهي البيعة التي تشكل سيادة الأمة، و العدل والمصالح العامة. حيث وجد أن دولة الراشدين نجحت إلى حد كبير في الحفاظ على شرعية الأمة في تعيين الخلفاء و تنصيبهم وإقرار قدر من العدل، لكنها فشلت في توسيع مجال المعروف “المصالح”؛ فباستثناء التوسعات العسكرية، أما الاقتصاد و زيادة الإنتاج و العناية بالعلوم وتدريسها لم يكن للدولة اهتماما بالغا بها. ثم يرصد الباحث اجتهادات الصحابة في السياسة والاجتماع وانفتاحهم على الأمم الأخرى وعلى التاريخ؛ فقد تم استيراد نظام الجيش من الحضارة الرومانية، و استيراد نظام التجارة و استخدام العملة. أما في الدولة العصبية فالبيعة لم تكن كما كانت في عهد الخلافة الراشدة، حيث تقوم المدينة بالنيابة عن المدن الأخرى في اختيار الحاكم، بل أصبحت حكرا على عصبية الدولة والأمة تابع لها. هذا التحول كما يقول جبرون ليس انحرافا أخلاقيا أو ذكاء سياسيا، بقدر ما كان تحولا تاريخيا عميقا، ساهمت فيه مجموعة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. كما أن المعروف ازداد فتوسعت الأرزاق وقل الفقراء والمحتاجون، وسبب توسع المعروف حسب الباحث هو “زوال الهاجس العسكري الذي كان موجودا في السابق”. عموما يرى الباحث في كتابه مفهوم الدولة، أن المسلمين عبر العصور كانوا منفتحين على التاريخ وعلى الأمم الأخرى، كما أن الفكر النهضوي الإسلامي هو الآخر كان منفتحا على التجربة الحداثية المعاصرة، لولا تدخل المستعمر على الخط، الذي أجهز على الحركة الإصلاحية التي بدأت في القرن 19. لهذا دولة ما بعد الاستعمار حسب جبرون، عرفت ولادة قيصرية، أحدثت مشكلة في السياق التاريخي، “أصبحت مؤسسات وتنظيمات سابقة لواقعها”، كما سبب لها أزمة شرعية أخلاقية، وهو ما جعل منسوبها من الأسس الثلاث “العدل والبيعة والمعروف” يقل جدا، لتظهر بعد ذلك حركات إسلامية كردة فعل تتبنى حاكمية الشريعة وتريد استنساخ تجربة الخلافة. أما في كتابه “هدي القران في السياسة والحكم” يرى الباحث جبرون أن الاسلام رسالة شاملة مطلقة صالحة لكل زمان ومكان، تتضمن الديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، وأن هدي القرآن يتجلى في قيم كلية مطلقة تتجاوز أسباب النزول والظروف والأماكن. ومن خلال الاستقرار الكلي للقرآن، يستنبط الباحث مجموعة من القيم العليا تُمثل هدي القران في السياسة والحكم وهي: العدل والمساواة، الحرية والمسؤولية، المعاهدة والمعاقدة والمبايعة، الخير والمعروف والمصلحة، الكرامة. وهذه القيم تتوافق وما أنتجه العقل الإنساني الكوني. فالقيم التي أصل لها الباحث جبرون تتقاطع نسبيا مع القيم الحداثية المعاصرة، وتختلف معها في بعض الجزئيات التي تشكل خصوصية الإسلام؛ فالعدل مثلا ليس مصدره العقل الذي يتعلق بتحقيق مصلحة فردية أو جماعية، وليس مصدره الأعراف لدى المجتمع أو الجماعة القائم على التوافقات الثقافية والسياسية، بل “إن المسلم لا يكتمل إسلامه و إيمانه إلا بامتثال أمر العدل في نفسه وفي من حَكمه الله فيهم”، ومن ثم فجزاء العادل وأجره يتجاوز الدار الدنيا إلى الدار الآخرة، فهم على منابر من نور يوم القيامة. كما أنه من العدل أيضا الاعتراف بالجريمة والرضا بالعقوبة كأمر إلهي و نوع من التطهير، من ذلك “قصة الغامدية”. وهنا يكمن الاختلاف بين فلسفة الواجب في الفلسفة الغربية خصوصا لدى كانط، وبين الإسلام الذي يتجاوز الواقع المادي إلى الأخروي الغيبي، الذي يقدم للإنسان الحافز الداخلي المساعد على الامتثال للقيمة. كما أن الحرية والمسؤولية كقيمة في الإسلام حسب جبرون، تتعلق بالأساس بطريقة مخاطبة الله تعالى للإنسان، المتكررة دائما في فردانيته وفي شخصه. بمعنى أن الله تعالى يُقيم للإنسان الفرد مكانة ووزنا. ولو أن سياق ظهور الحرية في الإسلام ليس هو سياق ظهوره في الحداثة؛ فالحرية في الإسلام إرتبطت بالأساس بالتصوف و العرفان،و هو أنه كلما تقرب الإنسان الى الله عن طريق العبادة إلا و تحرر من قيود المادة و من الشهوات والنزوات، و كذلك إرتبطت الحرية بنقاش الإختيار و الجبر بين المعتزلة و أهل الحديث، إلا أن جبرون يقدم قراءة أخرى مغايرة تماما، حيث يربط الحرية بعلاقة الفرد الربانية بالله تعالى. أما المبايعة و التعاقد، فإنه نوع من التعاقد الاجتماعي والسياسي وإعطاء السيادة للأمة. أما الكرامة في المدلول القرآني فهي تعني تشريف الله للإنسان وتعظيمه وتسخير كل شيء له، وتفضيله على كثير من الخلق تفضيلا. خلاصة واستنتاجات: الباحث جبرون يحاول ما أمكن إخراج الأمة من المأزق التاريخي الأصولي الذي ربط الحياة السياسية بوقت الصحابة ولم يتعداها إلى الأزمنة الأخرى، كما يبعدها عن التصور الوضعاني العلماني الذي يفصل النص على الواقع ويقرأه أحداث ووقائع مرت لا علاقة لنا بها. فالدولة الإسلامية حسب جبرون، مبنية على قيم كبرى كونية متعالية عن الزمان و المكان، لا ترتبط بأحكام خاصة وجزئيات فقهية، بل هي القيمة والغاية والمقصد من الحكم، فالحفاظ على القيمة أهم من الحفاظ على الحكم الشرعي. كما أن القيم الكبرى تخرج العقل العربي من تلك الفقهيات التفصيلية وجزئياته إلى سعة الكون وشموليته، لهذا حسب جبرون أنه كلما ارتفع منسوب هذه القيم الخمسة، فنحن نقترب من الدولة الإسلامية وكلما ابتعدنا عن هذه القيم، ابتعدنا عن الدولة الإسلامية.