ناقد مغربي موسوعي يُذيِّل ما يكتبُ من مقالات ودراسات نقدية بالناقد الأدبي، له اسم مُمَيَّز في عالم التلقّي النقدي العربي بين الأدباء والمبدعين، وله أيضا مساحة في خريطة التنظير والممارسة النقدية بين صفحات المجلات والصُّحُف العربية داخل المملكة المغربية وخارجها. إشعاعه لا يقف عند حدود المغرب، بل اتسع اسمه إلى دول عربية في مشرق الوطن وحيث يوجد الحرف العربي في منابر المَهجر الإعلامية، إنه الناقد المُبْحِر بين مساحات الحرف ودهاليز المعنى واختصار الدلالة، لا يقرأ ليكتب أو ينتقد، لكنه يزرع نصوصا أخرى بالموازاة مع النصوص التي يقرأها ويكتب عنها، هو عاشق النصوص الجميلة، الناقد الموسوعي، محمد يوب، الذي كانت لنا معه هذه الجولة بين النقد والإبداع والفكر، سافرنا معه خلالها في عوالم مختلفة، وكان معه هذا الإبحار- الحوار. أستاذ محمد، لو تعرفنا بمن هو محمد يوب؟ ناقد أدبي مغربي خريج جامعة الحسن الثاني كلية الآداب؛ باحث متخصص في تحليل الخطاب وجمالية التلقي؛ عشقت النقد الأدبي منذ صباي ويرجع ذلك إلى تأثري ببريق الحركة النقدية في المغرب في سبعينيات القرن الماضي؛ خاصة مع الكتاب النقدي المشهور (المُصطلح المُشترك) للناقد المغربي إدريس الناقوري؛ ومما زاد في هذا العِشق دراستي الجامعية على يد نقاد كبار من أمثال: محمد مفتاح؛ إدريس الناقوري؛ محمد الشيخي؛ عبد الرحمن حمادي؛ محمد بلاجي… إلخ، إضافة إلى حضوري للحراك النقدي الذي كان مزدهرا في ثمانينيات القرن الماضي أيام الانفتاح الثقافي الذي أسس له ودعمه الفكر الاشتراكي.. دخلت عالم الكتابة منذ التحاقي بالجامعة، وكان أول مقال منشور لي في (جريدة العلم) تحت عنوان: “المناهج النقدية المعاصرة” سنة 1984 لماذا اخترت النقد ليكون عالمك الأدبي، دون سائر الفنون الأدبية الأخرى؟ إنني عاشق للنقد الأدبي، والسبب في ذلك طبيعة تفكيري المختلف الذي لا يقبل بالأجوبة البديهية العفوية، إنما أطرح الأسئلة الفلسفية العَميقة، إذا كانت مهمة الناقد هي البحث في جيد الأدب ورديئه، فإنني لا أكتفي بهذا الحَدّ من المَعرفة وإنما أطرح السؤال النقدي العميق؛ لماذا؟ لماذا جيد ولماذا رديء؟ وكلمة “لماذا” هي التي تفصل الناقد الحقيقي عن الناقد الانطباعي أو الصحفي أو التسجيلي وغيرها من المُسَمَّيات. إن النقد الأدبي إبداع ثان على الإبداع الأدبي؛ إنه (ميتا إبداع) يعيد إنتاج النصوص الأدبية بطريقة خاصة يسمها الناقد ببصمته؛ النقد إبداع على إبداع يفتح للقارئ فضاءات تخييلية جديدة. نلاحظ أنك تكتب في توصيف اسمك أنك “ناقد أدبي”، هل هذا يعني الإشارة إلى التخصص الدقيق؟ أم هو لتبيان أن ما تكتبه “نقد” كي لا يخرج من ربقة الأدب؟ توقيعاتي في عمومها تكون تحت مُسمّى (محمد يوب ناقد أدبي) وهذا في الحقيقة مجال اختصاصي أولا وثانيا أعتز بهذا المجال المعرفي بالرغم من المشاكل التي تواكبه وتلاحقه، والنقد الأدبي هو المجال الذي أرتاح فيه وأقدم فيه إضافات نوعية؛ وإن كان من حين لآخر أكتب في مجال القصة والرواية؛ فإن ذلك أعتبره استراحة محارب. هناك علاقة جدلية بين الناقد والأديب لكنها علاقة تبدو في أغلب حالاتها مأزومة، كيف يمكن أن نقرأ هذه الأزمة؟ وما هي أسبابها؟ وهل هناك حقا نوع من التعالي من الناقد على النص الأدبي وكاتبه؟ النقد الأدبي في اعتقادي هو الدرع الواقي للأدب، وبدون نقد لا يستقيم الأدب. والنقد الأدبي يوسع مجال الصراعات والخصومات، وبالخصوص عند الفئات التي لا تتقبل النقد؛ وتعتقد بأن النقد صراع ديكة، لكن الحقيقة هي أن النقد الأدبي توجيه ومصاحبة وتقويم؛ يكون في الأول وفي الوسط وفي الأخير.. قيل إن النقد في المغرب العربي هو الأقدم من النقد في المشرق العربي، مثلما سهل مرور المناهج النقدية إلى المشرق العربي؛ هل للجوار الأوربي أثر في هذا الوصف أم أن معرفة اللغة التي يتمتع بها المثقفون المغاربة عن غيرهم بحكم الاحتلالات الأجنبية أم هناك سبب آخر؟ النظرية النقدية ملك مُشاع بين جميع الأمم، كل يُساهم برأيه وبآليات اشتغاله، وقد تطوّر النقد الأدبي منذ عصور قديمة، ابتداء من النقد اليوناني ومرورا بالنقد العربي والنقد الأوربي والأمريكي وغيره. وبالنسبة للمغاربة، فقد ساهموا بشكل كبير في تطوير النقد الأدبي عند العرب بحكم ترجمة الكتب النقدية من اللغات الأوربية في سبعينيات القرن الماضي؛ لتعرف حركة الترجمة قوتها بفضل التوجهات التي اعتمدتها الجامعة المغربية، إذ اعتمدت على ترجمة الكتب النقدية في الأطاريح الجامعية، وكان لهذا فضل كبير على المشهد النقدي العربي، إذ توسَّعت حركة الترجمة وتوسَّعت معها مُدركات الناقد الأدبي، كما لا يمكننا أن ننكر الدَّور الكبير الذي قام به النقاد المغاربة الكبار الذين ساهموا بقسط وافر في هذا المجال، ونذكر على سبيل الذكر: سعيد يقطين، محمد برادة، محمد مفتاح، سعيد بنكراد والحميداني حميد… كيف تنظر إلى النص الأدبي لكي تتناوله نقديا؟ بمعنى أن هناك آليات اشتغال خاصة بالناقد دائما ما تكون هي مفاتيحه الخاصة في الكتابة النقدية؟ النص الأدبي عبارة عن بنية مُرَكّبة فيها الفني والنفسي والاجتماعي، وهو عبارة عن علامات لها دلالاتها في البنية الذهنية والثقافية للمتلقي؛ تثير مجالاته التخييلية، فيصبح القارئ عنصرا مُكَوِّنا من مكونات النص الأدبي، ومن هذا المنظور أتعامل مع النص الأدبي وفق هذه المعطيات المتشابكة ولا يسعفني في ذلك منهج واحد وحيد، ولذلك أستعين بجميع المناهج وبجميع الآليات والميكانيزمات النقدية، لكن بحذر شديد، حيث لا ينبغي تطبيق هذه المناهج بشكل تعسفي، وإنما بحسب ما تتطلبه بنية النص؛ وأعتمد في ذلك على المنهج التقاطعي الذي يتقاطع مع النص في اتجاهه إلى البنية الداخلية، ويتقاطع مع النص كذلك في اتجاهه إلى البنية الخارجية والنفسية والتاريخية…إلخ. لكن دون فصل الداخل عن الخارج؛ بمعنى أنني عندما أنظر إلى الخارج، فإنني أنظر إليه من الداخل دون فصل البنيتين الداخلية عن الخارجية. كيف ترى النقد العربي والنقدية العربية؟ حقيقة بالرغم من التطور الذي يعرفه النقد الأدبي عند العرب ممارسة وتنظيرا، فإنه مازال متأخرا عن الحركة النقدية في العالم؛ لأن الاتجاهات النقدية المعاصرة تتطور بشكل ملفت للانتباه. وأمام هذا التطور السريع للنقد الأدبي في الغرب؛ يصعب مواكبته في الوطن العربي بالرغم من وجود عامل الترجمة؛ إذ أن هناك مناهج نقدية لم يكتب فيها النقاد العرب ولم يمارسوها بالرغم من أهميتها وملاءمتها لواقعنا العربي من مثل: (النقد الأيكولوجي) الذي كتبت عنه في إحدى المجلات المحكمة، لكن المقال لم يثر اهتمام النقاد العرب؛ كما أن هناك ظواهر اجتماعية ونفسية يعيشها بعض الأدباء العرب، لكن بحكم ضغوط العادات والتقاليد يصعب مناقشتها من مثل: (نقد أدب المثليين) وقد كتبت عن ذلك مقالا ونبهت إلى أهمية هذا النوع من النقد، لكن التنبيه لم يلقَ كذلك أي صدى، ربما لأن البيئة النفسية والاجتماعية للقارئ العربي لا تقدر على مناقشة مثل هذه المواضيع. النقد العربي، كما يقال، لم تتبلور له روحية أو شكل، وبالتالي ظل أسير المرجعيات الأوربية في النقد، ما هي الرؤية التي يمكن من خلالها طرح مفهوم نقدي عربي؟ صدر لي مؤخرا كتاب نقدي تحت عنوان: “البعد الفلسفي في النقد الأدبي عند العرب”، وفي العنوان إشارة إلى أن النقد الأدبي ليس عربيا، وإنما هو دخيل على الثقافة العربية، تأثر به العرب من خلال ترجمة كتب النقد اليوناني عند سقراط وأفلاطون وأرسطو؛ ومن “بيت الحكمة” عرف النقد الأدبي طريقه إلى البيئة الثقافية العربية؛ ولذلك ما عرفه النقد الأدبي عند العرب من نظريات ما هو إلا إعادة لإنتاج التراث النقدي اليوناني بأساليب ومصطلحات عربية، باستثناء بعض النظريات المحلية من مثل: مصطلح الفحولة ووضع الحافر على الحافر والطبقات التي تناولها النقاد العرب بطريقة خجولة. وفي الوقت الراهن يصعب إنتاج نظرية نقدية، لأن هذه الأخيرة تستدعي بيئة خاصة ينمو فيها النقد، وهذه البيئة من شروطها حرية التفكير وحرية التعبير التي نفتقدها في العالم العربي، وقد كانت هناك محاولات عديدة في هذا المجال لم يكتب لها النجاح، مع عبد العزيز حمودة ومصطفى ناصف. هناك بعض الحلقات الدراسية التي تقام في هذا البلد العربي أو ذاك، سواء ما كان منها مهتما بشأن الرواية أو الشعر أو حتى النقد.. السؤال هو: هل ساهمت هذه الحلقات أو المهرجانات أو الجلسات في بلورة اتجاه أدبي خاص؟ أم ظلت أسيرة للروتين والتكرار؟ أغلب هذه الحلقات الدراسية التي تنظمها الجمعيات والكليات، ما هي إلا روتين سنوي مَوسمي اعتادت الجهات المنظمة تنظيمه تحت عناوين براقة، تشعرك بأنها ذات أهمية وباستطاعتها أن تعطي للحركة النقدية إضافة؛ لكنه في الحقيقة تبقى هذه المهرجانات مناسبة تكرر نفسها وتكرر مواضيعها؛ في المغرب، كل جهة ثقافية تنظم مهرجانا نقديا حول موضوع براق، لكن في محتواه يكون فارغا من أي جديد، وتكرار لما قيل من قبل. النقد الأدبي يحتاج إلى فريق متخصص متفرغ يتتبع الحركة النقدية في العالم، وصفة التخصص والتفرغ تحتاج إلى تمويل، الشيء الذي نفتقده في عالمنا العربي، في أوربا هناك منحة تعطى للأدباء والنقاد، أما في عالمنا العربي فإن المهتمين بهذا المجال، يشتغلون في ظروف صعبة، يجمعون بين مشاغلهم الخاصة التي توفر لهم قوت يومهم وبين البحث العلمي؛ مما يعطي نتائج باهتة لا تليق بالبحث العلمي. هل هناك روابط بين النقاد العرب، يمكن أن تتبلور لإنتاج رابطة عربية بهم مثلا توصلهم إلى وضع رؤية نقدية عربية موحدة؟ مع الأسف، العقل العربي أناني يحب الاشتغال بشكل فرداني؛ وحتى وإن اشتغل بشكل جماعي فإن الذاتية تسيطر على البحوث الجماعية؛ مما يتسبب في عدم اكتمال الصورة واتضاح الرؤية. لقد سبق لي أن كنت مستشار لإحدى الرابطات؛ وكنت أتحمل مشاق السفر من مالي الخاص؛ وأساهم في تنشيط هذه الرابطة، لكن عندما تنتهي الدورة الثقافية لا يخرجون بتوصيات، ولا يعملون على جمع وطبع الدراسات النقدية لتذهب مجهوداتنا سدى، ويمكنك أن تقيس ذلك على اتحادات كتاب العرب وفروعها التي انعدم دورها، إلى درجة أن مصيرها صار كمصير وحال جامعة الدول العربية؛ جعجة ولا طحين. كيف يتم التفاعل بين المبدع والمتلقي، إذا كان المُلقي (الذي هو الكاتب) يُضمر ويُخفي ويخاتل المتلقي في كتابته؟ الكاتب مخاتل أوّل والقارئ مُخاتل ثان. الكاتب يكتب المنجز الأدبي وهو يستحضر القارئ المحتمل، يحاول إشراكه وتوريطه في تأثيث فضاء العمل الأدبي، من خلال بلاغة البياض، إن الكاتب يترك مجموعة من الفراغات في النص الأدبي التي يكون القارئ مُجبرا على ملئها بواسطة ما يحمله من مضمرات نصية ومضمرات تخاطبية، يشترك فيها الملقي والمتلقي، وبالتالي يكون النص الأدبي خاضعا لعملية التلقي والتأويل، حيث ينتج القارئ نصا آخر يتلاءم وقناعات وثقافة المتلقي. النص الأدبي رسالة صادرة من مرسل وهو الكاتب، يستقبلها المتلقي وهو القارئ، وهذه الرسالة مشحونة بحمولة فكرية وأيديولوجية تخضع لعملية التأويل. كل قارئ يؤولها حسب قناعاته وحسب ما يحمله من آليات وأدوات تفكيكية وتأويلية. وهنا يصبح القارئ ناقدا بدوره، وهكذا تتعدد القراءات بتعدد القراء. القصة القصيرة جدا تثير أسئلة مقلقة كثيرة وتنفتح على عدة قراءات، كيف نحكم على أهمية المنجز السردي ودوره في بلورة الرؤية وتحديثها؟ القصة القصيرة جدا، رغم قصرها الشديد، فهي تختزل العالم بطوله وعرضه، تتتبع تفاصيل المجتمع وتنقل مفرداته من مفردات الواقع إلى مفردات واقع القصة المتخيل، وعندما يختمر في ذهن الكاتب، ينقله أدبا، بأن يضيف إليه ما سماه جاكبسون بأدبية العمل الأدبي، وكل إبداع يحمل رؤية، والرؤية تختلف باختلاف الحمولة الفكرية والعمق الفكري للمبدع، ولهذا تتعدد القراءات للعمل الواحد، لأن القصة فن أدبي يشغل الكاتب والقارئ، يشغل الكاتب أثناء عملية الكتابة، ويشغل القارئ أثناء عملية القراءة. أحيانا يقع المتلقي في الغموض بين الشخص والشخصية في العمل الأدبي، كيف يمكن تجاوز هذه الإشكالية؟ الشخص هو الكاتب /الإنسان، والشخصية هي الأبطال الذين يؤدون الأدوار التي يعطيها لهم الكاتب، والشخصية في القصة أو في الأعمال الأدبية عامة، ليست من لحم ودم، وإنما هي شخصيات ورقية يسيِّرُها الكاتب انطلاقا من زوايا الرؤية، وغالبا ما يختار الكاتب زاوية الرؤية من الخارج، لتكون له الحرية في تسيير الشخصية والتحكم فيها من خارجها وتوجيهها التوجيه الذي يريد، وحينها تتحول الشخصية، من الشخصية العاملة إلى الشخصية الممثلة التي تقدم أدوارا في فضاء القصة. لكل مبدع لغته وطريقته في نقل الواقع، هل يجب بالضرورة أن تكون الكتابة مرآة تعكس المَعيش وواقع الحال؟ المبدع لا ينقل الواقع بشكل حرفي، وإنما يتمثله وينقله بطريقة أدبية. المبدع ينقل تفاصيل الواقع وينقلها من واقع الواقع إلى الواقع المتخيل، ومن هذا الأخير، يستقي المبدع مادته الأدبية. كل الناس يتأثرون بالأحداث الواقعية وينقلونها إلى متخيلهم. وكل واحد يعبر عنها بطريقته، إما بلغة المؤرخ أو لغة الأنثروبولوجي. لكن ما يميز الخطاب الأدبي عن هذه الخطابات هو أدبية العمل الأدبي، أي ما يجعل من الخطاب العادي خطابا أدبيا بامتياز. متى يكون النص جميلا؟ هل عندما يكون بسيطا في بنيته؟ هل يجب أن يتسربل بالترميز مثلا؟ الجمال حُكم قيمة. يشترك فيها كل من الكاتب والنص والقارئ، ولكي يكون النص جميلا، ينبغي أن يكون صاحب النص مبدعا، ويكون النص راقيا والقارئ متذوقا. وجمال النص، يكمن في بساطته وليس في تعقيده. واستعمال الرمز يكون من أجل خدمة النص وليس من أجل خدمة الرمز، لأن استخدام الرموز ينبغي أن يكون مُحَيَّنا يخدم العمل الأدبي، ويحدث تداعيات في ذهن القارئ.