يغلب ظني، أن المكتبة رافعة إنسانية وثقافية، من أجل الجدل والبناء بأشكاله وأبعاده دوما. لأنها وسيط معرفي يتجسد على الأرض، ليمدنا بالأفكار المبثوثة في الكتب على تنوعها. وهو بذلك مكان مخصوص، له حرمته ورمزيته؛ على الرغم من طغيان الهاجس التجاري الذي يسعى إلى تحويل أي شيء إلى منتجات وسلع مادية، بما فيها القيم الإنسانية والمعرفية. وتكبر الحاجة إلى وجود المكتبة في المؤسسات التربوية التعليمية، لأنها تساهم في التنشئة والتكوين بشتى الطرق. لكن الغريب أن هذا المرفق غدا يبدو غريبا في هذه المؤسسات أيضا. من خلال تجميد حركته وتعطيله عن الصلة بالمواد المدرسة وبالنوادي الموجودة في الأوراق بكثرة. وهي نفسها النظرة حول الثقافي والمكتبة خارج أسوار المؤسسات التربوية. مما يثبت العلاقات الهشة بوسائط الوعي و الخيال. وتعطيل ملكات الإبداع وتغشية آفاق العطاء والحرية، بما فيها النقد والبناء. خطرتني هذه الفكرة المركبة بقوة، من خلال التأمل في واقعة تتمثل في تحويل مكتبة ثانوية الكندي بالفقيه بن صالح إلى قاعة للدرس، فتم الاجهاز على مكسب له حرمته ورمزيته. كأن هذه المؤسسة العريقة بلا تاريخ ولا ذاكرة، والحال أنها أنشئت في الخمسينات من القرن السالف، وكانت بذلك معبرا ثرا لكتاب أجانب مشارقة وغربيين ، وبعد ذلك، لأدباء وشعراء مغاربة لهم أصواتهم البارزة في الأدب العربي والمغربي، يتعلق الأمر بعبد الله راجع، محمد العمري، محمد بوجبيري .. تذكروا ويتذكرون الكندي كوجود رمزي. مكان بالأحرى اقتضى رد الجميل وتعميق المعنى، من خلال تطوير هذه المكتبة مرفقا و أداء. لكن العكس حصل، فتم لف الكتب في أكياس القمح والعلب. وقضيت الحاجة، كأن الأمر يتعلق ببضاعة باردة، لا روح ولا حرارة فيها. أتساءل عن العقل المدبر الذي اتخذ هذا القرار الانفرادي، ولو رفقة حاشيته التي لا حول ولا قوة لها. وهو أي الفريق بهذا الفتح العظيم يكرس أزمة القراءة و الكتابة، في تثبيت للعلاقات الغريبة بالكتاب. و لي اليقين، أن التلميذ والطالب حين لا يربط صلة بالكتاب على أدراج الدراسة ولو نظرا واستئناسا، لا يستطيع مرافقة ومصاحبة الكتاب والأدباء. لأن القارئ يصاحب الكاتب من خلال الكتاب، بخلاف النظرة التي تمرغ الكتاب في وحل المجتمع، بهدف إلغائه. ومهما فعلنا، لا يمكن القضاء على الوعي والفكر، أعني عن الإنسان الحي بالقراءة و الكتابة .. تلميذ بهذا الصنيع، فإنه يتشكل بالحشو وبلع الحقائق، دون قدرة على إعادة النظر، وبناء مقدرة الإبداع والنقد. هكذا بسرعة وبجرة القرار، تفرغ المكتبة كحانوت وتغير وظيفتها المعنوية. كأن شيئا لم يقع. في حين خلف ذلك طعنة غائرة في رمزية هذه المؤسسة، بل في نفسية التلاميذ والأطر التربوية. فكان بالإمكان التفكير في تطوير هذا المرفق بناء و أداء، من خلال الأرشفة وتمثيل وتخليد ذكريات من عبروا و تركوا أثرا للمشي، فضلا عن الحفاظ على كتب و وثائق نفيسة نعرضها للإهمال. والأخطر أن هذه الرؤية لا تومن بالثقافي ودور المكتبة؛ كأن هذه الأخيرة مؤسسة بالاسم فقط، وضعت للادعاء. وهي ليست واقعة فيما يبدو لي غريبة ومعزولة، بل تعكس غربة المكتبات في المؤسسات التربوية، لأنها لا تؤدي دورها المطلوب. هي فقط للادعاء. وما أكثر مؤسسات الادعاء المعطلة والمحنطة. إذ أصبح البحث عن مكتبة في مدينة ما تيها لا يفضي لشيء. الواقعة وهي تنضاف لحالنا وأحوالنا بهذا التوصيف، جريمة أخرى بكل الأوصاف: أن تنحر مكتبة على مرأى من التلاميذ والأطر التربوية، أمر فيه نظر طويل، كأن لا راد لقدر عشوائي هو مجرد نزوة وتفكير سريع، على الرغم من ادعاء خصاص البنية ومحدوديتها. فهل مجرد خصاص قاعة أو قاعتين، يقتضي ذلك؟ وبهذا الهجوم العنيف الذي يعمق أزمة التربية والثقافة في المؤسسات والمجتمع. هل الكتاب شيء، والتعليم شيء آخر؟