تقدم الصحافة نفسها بوصفها سلطة رابعة، وتتمتع بكامل القوة والقدرة على النفاذ إلى الأخبار وما وراءها وبما تعنيه السلطة من معنى. فلم تعد الصحافة وجودا كماليا وهامشيا يحسّن الديكور السياسي للحكم، مع أن هنالك الكثير من أنظمة الحكم لا تريد للصحافة إلا أن تكون كذلك، وتكون أيضا ذيلا هامشيا تابعا لنظام الحكم. في ظل ذلك سوف يتهامس الجمهور العريض بقصص تحذر الصحافة من الخوض فيها وتتحاشاها أو تهرب منها، فأين هي سلطة هذه الصحافة المذعورة؟ وماذا عن مسؤولية الكلمة؟ في موازاة ذلك هنالك التسريبات التي تخرج من أروقة الحكم ومراكز السلطة، وتلك التسريبات تتراوح مصداقيتها صعودا وهبوطا لكن ليس من المنطقي في شيء أن تصم الصحافة أذنيها بالمطلق ولا تتعامل بجدية كافية وتفحّص موضوعي لمثل تلك التسريبات. على مستوى العالم تخوض الصحافة بين الحين والآخر في هذه اللجة من التسريبات متحملة قدرا كبيرا من المخاطرة. آخر هذه التسريبات كان ذلك الذي نشرته الصحافة البريطانية مؤخرا نقلا عن برقيات لسفير المملكة المتحدة في واشنطن، تلك التي أشعلت سجالا وخلافا بين البلدين. كانت انتقادات شرسة موجهة إلى الإدارة الأميركية وإلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب شخصيا ووجد الكثير من عشاق صحافة التسريبات أنها لم تخرج عن الموضوعية وعن قيام السفير بواجبه في تقييم الأوضاع من حوله ضمن مساحة عمله الدبلوماسي. لكن ما جرى في الساحة البريطانية اكتسب شكلا آخر، فقد وقع انقسام ملحوظ في مدى خرق الصحافة لوظيفتها في إقدامها على نشر تسريبات لوثائق رسمية ما كان ينبغي عليها أن تنشرها. بل إن السلطات البريطانية ممثلة بجهاز الشرطة عدت مثل تلك التسريبات ما يجب أن يتخذ بصدده إجراء تحقيق جنائي. على النقيض وفي الجهة المقابلة عد سياسيون ملاحقة الشرطة وبحثها عن مصادر التسريبات تدخلا سافرا في حرية الصحافة وأن السلطة الرابعة من حقها أن تتمدد فتنشر كل ما تراه مناسبا ويهم شرائح اجتماعية واسعة حتى ولو كان بمثابة تسريبات لا أكثر. بريطانيا نفسها كانت قد شهدت تسريبات في ستينات القرن الماضي نشرتها الصحافة آنذاك وكانت تتعلق بأسرار نووية تم التوصل إليها بواسطة ناشطين قاموا بنشرها في الصحافة على نطاق واسع. أما الولاياتالمتحدة نفسها التي أزعجها نشر انتقادات السفير البريطاني في واشنطن فقد كانت لزمن ليس بالقصير ميدانا رحبا لصحافة التسريبات. صحيفة نيويورك تايمز كانت قد نشرت في سبعينات القرن الماضي ما عرفت بأوراق البنتاغون والتي فضحت الكثير من أسرار حرب فيتنام، ثم جاءت تسريبات فضيحة ووترغيت وصولا إلى العام 2003 عندما نشر الصحافي الأميركي روبرت نوفاك أسرارا في شكل تسريبات عن الكاتبة في الجاسوسية والموظفة في "سي.آي.إي" فليري بالم. ذهبت القصة في هذه التسريبات إلى مدى بعيد يرتبط باستعدادات الولاياتالمتحدة لغزو العراق وذلك بناءً على مزاعم باقتناء الحكومة العراقية آنذاك أسلحة الدمار الشامل. في المقابل هزّ أركانَ الحكم في العديد من بلدان العالم ما عرف بوثائق ويكيليكس، وهي تسريبات جلبت إلى المنصات الصحافية آلاف الأخبار والمراسلات الدبلوماسية والمعلومات السرية رفيعة المستوى التي كشفت حقائق صادمة أمام الرأي العام. فلقد شملت تلك التسريبات العديد من سفارات الولاياتالمتحدة من حول العالم لمدة زمنية تمتد من العام 1966 حتى العام 2010. عدد من أهم الصحف العالمية سارعت لتبني تلك التسريبات ومنها صحف الغارديان البريطانية وشبيغل الألمانية والباييس الإسبانية وصحف أخرى عديدة. الحاصل أن صحافة التسريبات ربما تتحول يوما إلى نوع صحافي متخصص يتعدى أدوار ما يعرف بالصحافة الصفراء وصحافة الفضائح إلى صحافة أخرى تتبنى تسريبات تهم مصلحة العديد من المجتمعات فتظهر حقائق ليس من السهل الوصول إليها، ولكن ها هي السلطة الرابعة تمتلك من الجرأة والشجاعة ما يكفي للخوض في هذه المهمة إلى نهاياتها مستجيبة لعشاق صحافة التسريبات.