أن تكتب، يعني أن تفكر خارج الذات، أن تبني تماثلات، وتحكي أشياء غامضة، تبدع مفاهيم، وأن تقاوم، لأن الإبداع يتطلب التفكير النقدي، والمغاير، حيث من السؤال يتولد الاندهاش، وتسود البداهة وتسعى المعرفة إلى إبراز ظلالها، ماهيتها آنيتها، انطولوجيتها. أن تكتب يعني أن تذوب العوالم، والأفكار، وأن تصنع نغمات إيقاعية، وتدوينات للممكن، لأن السؤال مع الكتابة هو سؤال في النشأة، والولادة، والتعريف سؤال عن الهوية، واللحظة، والثورة، والتجديد، والتجريب. إن التجريب هو فعل القراءة والتفكير، وتمرس لاكتساب الذات، هذه القدرة على التوليد، والنقد، ونسيان السائد لزرع الاختلاف في الائتلاف، والوحدة في التعدد، لأن ممارسة التجريب في رحاب المسرح يعني التفكير في إعطاء لهذه الذات مقاومتها، وأصالتها. فعندما طرح التجريب في المسرح المغربي هل طرح كمرض لهذا الجسد البالي أو كمهمة للتفلسف، أو عبارة عن مراجعة أو معالجة لأمراض النص، ووفقا لهذا الطرح أصبح هذا المفهوم علاجا وتطهيرا لمواجهة تقلبات التجارب المغربية، بدءا بالمرحلة الاقتباسية، ومرورا بمرحلة التأصيل، والتأسيس، وأخيرا التحديث، وما بعد التحديث. فالتجريب هو تحول في المقاومة، وبحث في طبقات النص، والإخراج والسينوغرافيا وفي ثنايا المناصات، وفي انكساراتها وتموجاتها، حيث يكون المخرج المغربي هو المركز، والرائي، والجمالي، والأركيولوجي والجينالوجي، حيث يولد السؤال ليتجاوز به العهود القديمة، والحديثة. هكذا ظل هذا المسرحي يحاكم التراث باسم التجريب، ويجرب التفكير تحت فنون القتل الأبوي. إذن لا داعي للقلق إذا ذكرنا بموت المسرحي، حيث يشير هذا المفهوم القطبي إلى بعض الكتابات النقدية الغرامية أو الزمالية التي تتناوله بكثير من النجومية، لذا ينبغي التصدي لها بالقراءة الضدية التي تستقرئ الكتابة المغايرة، وتنم عن عمق في التفكير والتفكيك. إن وجود بعض التجارب الشبابية كتجربة الخمار المريني، وحميد الرضواني، ومحمد الادريسي (المرحوم)، ومحمد أسميد، وغيرهم حيث عملت هذه الجماعة على إخضاع النصوص لتأويلات دون تصنيف واحد، ولا قيد، وهذه الأحكام غريبة عند البعض، وتكون عند الآخرين بديهية لأنهم تربوا فوق الخشبة وشربوا من كأس باخوس الدرامي، وشموا رائحة أغاميمتون وتدثروا بشعر عشتار، وحملوا مشعل بروميتيوس … وجربوا مثل تجربة تسيس وأرسطوفان، ويوربيدس فظل خطابهم يتداخل ويتكامل في إطار تمسرحي، مما ساهم على تبني قراءة مضاعفة كأداة إجرائية لإدراكية العرض الدرامي، إنه إدراك لأبعاده التاريخية والمعرفية والإيديولوجية التي جعلت منه نصا متعاليا وفكرا مغايرا، لأن البحث في الفكر المغاير وكيفية تكونه في اللامتناهي النصي، يجعل الوعي ليس كمعطى أولي وليس مرتبط بالآخر فقط بل كفعالية دينامية في الزمكان، فالعرض هو الذي يصنع الإنسان لغير ذاته كحافز للمعرفة وكفضاء ابستمولوجي بصري، فالتحليل التجريبي هو وعي شمولي، وليس عرضي، أو تلقائي كما يرى هوسرل صاحب الفلسفة الظاهراتية، بل التجريب أسئلة الكتابة الركحية، تجعلنا نحكم، ونتكلم مع العصور والمجتمعات، ومع الفنون.. لمعرفة الجذور والأصول الأولى للخطابات التي باتت تهدد المتلقي، من هنا نود أن نوجه السؤال التالي هل التجريب هو فلسفة التدمير؟ وهل هو واسط بين الخير والشر؟ وهل هو ضرورة أم حتمية؟ انطلاقا من هذه الأسئلة المفتوحة والقابلة أن تستوعب كل الشرائط الاجتماعية والسياسية والثقافية، لأن الحديث عن هؤلاء المسرحيين، هو حديث عن الممارسات الثقافية والفكرية التي تنم عن قوة شاعرية وفنية، فقد رسموا أسماءهم في سجل التاريخ المسرحي، فهذه النخبة عملت على تعدد أفعال الكلام، بتعدد الظروف الخارجية والعناصر السياقية. إشكالية الفكري والمعرفي في المسرح مما لا ريب فيه أن النسق المعرفي يلعب دورا أساسيا في تحديد الماهية حيث يتحدد هذا الدور وفق اتجاهين أساسيين: – اتجاه معرفي يرتبط بالتكوين العام للمعارف سواء كان فردا أو جماعة. – اتجاه تنظيمي يجعل النسق المعرفي في تواصل دائم مع النظري والتجريبي. وهذان البعدان يعملان على بناء نظرية معرفية تدعي البناء، والهدم، لأن فعلها يعد ذا صبغة علمية، ففيادامير مثلا لا يرتبط بالأحكام المسبقة في بناء نظرية معرفية، بل ينطلق من فكر وضد نفسه، وهذه المواجهة هي استحضار وتوسل بالمفاهيم التي تتحول السابق (العيني) إلى المتغير والمعرفة لا تردد أصداء الخارج، بل أصداء الداخل كما يقول سامي أدهم في (الرمز الرياضي) ص 181 مجلة ألف المعاصر، ع 52 – 53 – س 1988، ومن ثم يصير المعرفي جنسا يحول الواقع إلى نظرية تجريبية، ليتحول المؤلف ناقدا لهويته المتعددة، وهذا الانتساب يجعل المبدع في حوار مع البنيوي والظاهراتي، والميتولوجي، والتوليدي والتداولي. إن الانتماء كما ذكرت هو الذي يحدد ضجة التجديد في الاتجاهات النقدية المغايرة له، لأن فتح الحدود للمعرفة هي رسم لشروط الإبداع، لكي يمرر المفاهيم ليتساءل عن المعرفي في الدرامي، وعن الدرامي في الجمالي، فالمبدع ظاهرة كونية لا يوجد في المتناهي، بل يعمل على تكسير جدار الفرضيات ليزداد الدرامي إشكالا، وضرورات معرفية وإرغامات تتعلق بجذرية التداولي. إن الارتباط بين المعرفي والدرامي هو تكسير لكل الصياغات الموجودة في النص، وكل ما يحيط بالمعرفة السابقة، حيث لا ينفصل المعرفي عن الخارجي، إذ يمدد رؤيته لإعادة تشكيل هوية وصياغة ملفوظية، ولتوزيع كل العلاقات الما قبل، والما بعد، وهذا ما نجده عند امبرتو ايكو في قراءاته “لجيمس جويس”، حيث اعتمد على الخلفية المعرفية (الفلسفية)، جاعلا من هذه الخلفية الرابط بين كل الحركات الفكرية والفلسفية الكبرى التي أظهرت هذه القراءة العلمية ويقول “إن أي حقل معرفي يشترط من أجل ضبطه بالضرورة إخضاع موضوعه لفحص دقيق”. انطلاقا من هذه القولة فالبرهنة على إمكان تشكيله حدوديا، يبين لنا أن الكيفيات التي صيغت بها هذه المفاهيم جعلت النظرية تتخذ تطورا وتجاورا بين هذه الحقول، لا من خارجها، بل من داخلها. فهذه النزعة التقعيدية ترتب الإجراءات لتشكيل آليات في التحديد والتوجيه، (الفكري / والمعرفي وفي التشبيه والاختلاف. إن هذا التصور للنسق المعرفي هو الذي يحدد مفهوم “الكوني” و”العقلي”، و”السياسي” و”الأخلاقي” و”الإبداعي” و”النقدي” وكل معضلات التوالد بين المعارف، وبين الحقول النظرية، وعلى المستوى المرجعي. لكن أهم ما ينبغي الوقوف عنده والانصات إليه هو الواقع، كلغة (هيدجر)، “انية (جاك لاكان)، ولا شعور (فرويد)، وإرادة وحياة (شوبنهاور)، والكود أيدي (نتشيه)، وكعقل (أفلاطون)، وأرسطو. فتقطيع الواقع إلى مفاهيم، واصطلاحات ورموز وأساطير، يجعل التفكير فيه تفكيرا مرآويا بمفهوم، (غاستونباشلار)، حيث يظل مرتبطا بالتاريخ، وبالعقل، وبالسياسة والفكر، وكل ما يمارس حقه في إمداده بمحتوياته المتنوعة والمخالفة للتعليق Glose، (كما يقول فرانسوا ريكولو في كتابه La renaissance du texte in poétique N° 50 ومهما كانت هذه التداخلات والاختلافات، فإن الواقع يبقى مستقلا عن غيره إلى أقصى الحدود، لأنه تعرض للهزات التوظيفية، والتصنيفية، جعلته يلغي الهواتي الذي ينسجه الكلاسيكي، والخيالي الذي يدثره الرومانسي، والجديد الذي يبنيه (المادي) والرمزي الذي يشيده السيميائي، والتداولي واللساني،فهذا النزوع النظري هو عملية إبداعية تعريفية تتوسط بين الحضور والغياب، وبين الكائن والممكن، وواجب الوجود، وممكن الوجود حيث تسمح لنا بطرح الأسئلة: ما هي الصيغة التي بموجبها نعتمد المعرفي، والفكري، والجمالي، والرمزي في المسرح؟ وما هي القرائن على صحة هذه الصيغة الدرامية؟ لا تخرج الأسئلة عن التوظيفات المبنية، كونها نماذج أولية مصوغة بتعريفة متعددة، حيث تبقى التعريفات هي المنطلقات القابلة للمغايرة والبطلان، لذا يتطلب فهم الخلفيات التي تبسط ظلالها وآلياتها المنطقية والتي تشتعل وفق نسق متعدد. لا يعني فقدان ضفاف المخرج، ولا ينابيعه، فهدفه هو تلقي المعرفة دون مقاربة، ولا مقاومة، ولا وظيفية ولا مقارنة تكوينية كما يقول غريماس في كتابه D. Raisonné, pour une théorie du langage P 86. فيبقى المعرفي والدرامي من بين المفاهيم والأسس التي شكلت رهانا في فكرنا النقدي وقضاياه، لأن هذا الموضوع لم يكن ينظر إليه إلا من خلال زاوية واحدة، أي من رؤية انطولوجية (نصية) معتبرا أن النص هو كل شيء، لكن هذا السؤال لم يبقى ذاتيا، ولا ذوقيا، ولا مبحثا لغويا، ولا وجوديا، بل أصبح كيانا متعددا، وبناءالا مركزيا وموضوعا غير خاضع للسلطة المعرفية كما حددها فوكو، وبودريار، بل تعدد النقد المسرحي الفكري بداء بالأسطورة إلى نهاية الحداثة، وبذلك اتخذ النص المضاعف تعدده وصياغته المفاهيمية، واتخد احتفاء بلا توارثه وبتوازنه ما وراء النص، ككينونة مناصية، وكموقف من التاريخ، وعلم الاجتماع النصي، لأن الهدف هو البحث عن الطريق المتعدد أو المدارة المتعددة كما يقول بذلك عبد اللهالعروي. إن الكتابات الدرامية المغربية هي فلسفات تجعل من هذه الثنائية العارف “والضمني” أرضية خصبة، لمحاكمة قياس النص على اللغة الدرامية أو مقاربته تمسرحيا بها، لأن النص الدرامي يكون مماثلا دوما للهوية، بوصفها الوحدة المركزية في البنية، كما يقول بارت في كتابه S/2. فالموقف المعرفي هو بناء ماهوي ونسقي وسيميائي، يؤسس لنفسه التنظير، كمتوالية مكتوبة وممسرحة، تشكل مرآة مكتملة، فالفكري مطلب أساسي وجوهري عند المؤلف والمخرج، والناقد، والممثل ولا مجال لتحديد الوظيفي وفق المنظور السطحي،بل على ما يتصف به المخرج من ضبط ذاتي يحقق للفريق وحدته التي تتقاسم الحضور زمانا ومكانا، فإذا أخذنا الممثل فريد البوزيدي في مراحله الأولى، فإننا واجدون أنه يمتلك فكرا واقعيا، حيث لعب عدة أدوار هواتية واحترافية، مما أعطى لشخصيته براعة فكرية تنم عن قوة إدراكية تمثيلية، واكتساحية للمجال الركحي كما في أساطير معاصرة وبغداديات، وغيرها، وهذا التنوع جعل الفكري يحضر في التمثيلي، وكذا التجربة في الممارسة الركحية، لذا عد من أحد أعمدة المسرح المغربي، لأن الغاية من هذا الإجراء النظري هو دعوة إلى إعادة النظر في الانتماء الفني والثقافي في هذا البلد، لأن التمثيل له قواعد وأسس علمية، لا يعطي نفسه بسهولة لكل من يزرع الملح ويحصد السمك، فالمسرح علم، ومعرفة ودرية، وممارسة، وتنظير، وتفلسف وجمال، وذوق، وليس كما أذكر دائما “الصعلكة والنهلوانية، والبوهيمية، بل هو موقف، ورؤية، ومعرفة وقيم، وأخلاق، وأورغانون تجريبي. أما حميد الرضواني، ذاك الفنان الذي يبتلع ريق الفن، لا يتكلم كثيرا مثل فريد، يمد يده إلى هذا الركح، يجاهد نفسه كالمتصوف، ويكابد محنة الفرجة لكي يكون المتلقي في أسطوانته سعيدا، هكذا يعمل حميد على زرع الصمت في جوانب النص ليعرف من أكون، ولماذا أكون، وكيف أكون، ومتى أكون، يعقلن الركح لكي يأخذ الفن سرمدية مطلقة أمام هذا الضجيج والعجيج الفني، يرتل النصوص في شكل أنوية وفي أمكنة، يبحث عن السامي وليس الفاسد، لا يدعي أنه مخرج أو أول مخرج عربي، كما سمعنا ولا زلنا نسمع عن أول تجربة في المغرب، ما هذه الأكفان أم هذه زوبعة طحين في محراب المجنون. يقود الفريق المسرحي بعين ثاقبة، شأنه شأن الفنان الخمار المريني، يوزع الأدوار، ويبحث دوما عن إنسان في إنسان آخر بواسطة الإنسان، لا يهادن النقد، بل يسمع ما يُقرأ وما يُكتب من طرف النقاد كما يقول كريم الفحل، حيث جالسته لمعرفة بعض المفاهيم كالإخراج، والجمال، فحميد يخرج عن نطاق المسرح للبحث في قضاياه رغم عدم وجود متفكر أغلى من الإنسان. فالمسرحي هو الذي يدنس الثابت ويبحث في تاريخ الجنون، والسحر، والعذاب بخطابات تتطلب الإدراك وتقنيات السلطة المعرفية، واستثمار الإنسان واجتياحه في أدق التفاصيل، وهذا لا يعني أن الممثل والمخرج لا يبحثان في إرادة الحياة، بل يراجع كل إرادته لممارسة لعبة التفكيك حتى نتلمس منها مختلف أوجه الكونية، والفكرية، وهذا يدل أن الخطاب المعقلن عنده، يفضح السلطة المهيمنة وخاصية النصية، ويرفض الإقصاء والمحو، فهو مساكش يسافر في الاختلاف المتوحش ليطهر المتلقي من أرذان السالب، ومن كل الحساسيات القديمة. فإرادة الحياة الدرامية تريد أن تصبح مسألة التقنية هي الحقيقة لمواجهة كل تطرف لا يعي كينونته ولا ماهيته، يتسلق جدار جماعة العكاكيز لكي يصبح متصوفا دون معرفة، ولا جهد، فالمسرحي حميد الرضواني هو الإنسان، والعاقل، والأخلاقي كما يقول أفلاطون، فهو المسؤول عن المسار الذي يتخذه لنفسه دون نزعة أرتودوكسية التي تسيج مسؤوليته، وهذا يعني أنه ليس من الضروري والحتمي أن ننتصر للفراغ بقول أو خرجة فنية، لأن الفنان الكبير والمشاكس الخمار المريني، لا ينخرط في هذا السلك المهلهل بل يبني علاقة مع المسرح من خلال الفعل والقول، يعنف السائد والمضاد قصد تأريخ جديد يسكنه الهم، والبحث عن الجديد، إنه أرسطو الذي يخلخل كل المستويات الفنية ليؤسس موازين إرادية كاستراتيجية التي تهدف إلى جعل المسرح هو الذي يقر الحقيقة، وليس الحقيقة العينية، يحاول أن يرتبط بالتراث كبعد جنيالوجي لكي ينتج الأشكال التاريخية والدرامية بلغة تؤشكل المفاهيم بصمت حول الأشياء التي سكتت منذ قرون حيث جاء هذا الفنان ليمنح فرصة للكلام، وإظهار الوضعيالركحي ليس في النص أو الممثل بل في الفكري، والمعرفي. من هذا الأفق البعيد، يبدو لنا أن ما قام به الخمار المريني هو خطوة أركيولوجية يصعب معرفة لحظتها المفصلية، لأن الخمار يتحدث عن موت الواقع كما قال جان بودريار، كخطوة مميزة في هذا الاتجاه، مما شكل هدفا أساسيا في مشروعه الدرامي، فإن اهتمامه بالإخراج ظل موجها نحو هدم الميتافيزيقيا النصية بكل أوهامها، مشكلا نصا مفتوحا قادرا على هدم المكتوب كما فعل في مسرحية “الكبيرة” لأن فكرة النص تحيل إلى كلبية مغلقة، ولمركزية النص، دون تأويله لكي يكون حكما فإلغاء المؤلف هو قتل الإله، والأب ومطاردة للكتابة بمعناها الواسع في المسرحيات التي أخرجها (12 مسرحية)، إن الخمار المريني يعد في نظري ممثلا مقتدرا ومخرجا تجريبيا شأنه شأن حميد الرضواني الذي بدوره جرب أكثر من 20 مسرحية مع الدعوة إلى نقد فلسفة المسرح السائد في مدينة فاس، هذه المدينة العلمية، أصبحت تعيش الإحباط، والانتظار المشحون بالأمل والوعود، تنظر إلى ظلها في هذا الفن الدرامي لا تجد إلا السفسطة النقدية المنبعثة من هنا وهناك والخرجات التي ترافق المفاجآت دون النظر إلى أسس هذا الفن الدرامي ولا في تاريخه، ولا في فلسفته، من هذا نطرح الأسئلة التالية، هل يحتاج المسرح في هذه المدينة إلى تفلسف جديد وتجريب جديد لكي يوجد؟ وهل هذه الهرطقة النقدية ستظل أفقا مناسبا للإنسان هنا وهناك؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة تسمح لنا بالارتباط بالتحولات التي عرفها هذا المسرح في هذه المدينة، حيث ولد في متخيل الحلقة، بباب الفتوح وبوجلود، بالإضافة إلى دور الشباب ثم المدارس التربوية التي مسرحت هذا الفن كثانوية مولاي ادريس مرورا بمسرح الشعبي، … إلى مسرح الهواة مع تيمود، والفنان الكبير إبراهيم ادمناني، والسقوط –وأسميد، ومحمد الإدريسي والحاج العربي، ومحمد الكغاط، وعبد الحق الزروالي، وحسن العلوي المراني، وبادريس، والسقاط، بالإضافة إلى ادريس المعناوي، وفريد البوزيدي وحميد الرضواني، والخمار المريني، واللائحة طويلة. إن البحث في أفق تجريبي يسمح لنا بتناول الموضوع من جانب السؤال الذي طرحته ولازلت أطرحه حول ماهية الفكر، والمعرفة والتجريب، وما نعنيه بنهاية المسرح في هذه المدينة ولماذا هذا الإقصاء لكل الفرق باسم الدعم والترويح، و… فهذا يسمح لنا بالجواب عن تراثنا المسرحي العربي لكي نمارس لعبة التفكيك عند أحد أعمدة المسرح المغربي، وهو حسن العلوي المراني الذي سميته بحسان بن ثابت حيث زاوج بين مرحلة الهواة، ومرحلة التجريب، جاعلا من المسرح تربة صالحة للتجريب، والإنبات، وراسما حدثا للإنسان لكي يتوجد عبر الأحداث التي يصنعها هو نفسه، والتأثيرات التي يكتشفها في الأرض والاجتماع، ومن هذه التأثيرات التي يرسمها حسن العلوي هي نظرته إلى نفسه ومكانته داخل الركح وخارجه. إن تجربة حسن العلوي تجربة عرفانية فلسفية تخاطب السائد في حضوره وغيابه، وتعمل على هدهدة كل عقلانية متعالية بنزعة تحريرية تخص الإنسان في قضاياه، لكي يعمل بحركة تقلقل الحاضر، فالسؤال المطروح أين يكمن التصور الجمالي عنده؟ هل في النص أو العرض أو في التأثيثاتالركحية؟ سؤال أطرحه عليه دوما، لأن بعض جهابذة الفن لا يدركون ما معنى الجمال الذي يسود فيه صراع الإنسان ضد الطبيعة، والإنسان ضد نفسه،فالجمال هو إرادة حقيقية معممة في الكون حيث تصيب الإنسان، والكون والأشياء، والجنس، والأفراد، فالجمال نزعة إنسانية تكون تحت مسؤولية الإنسان، وهذا يعني أن حسن العلوي يرى الجمال في الجسد واللغة، والإنارة، والديكور، والممثل، لأنه قدر محتوم علينا كما يقول، فحسن العلوي يؤكد أن الجمال هو المقاومة باعتبارها أداة تعدل وتقوي حينا الذوق، وحسن التمييز، لأن مصير الجمال مصنوع بمصير الإنسان، محليا وكونيا، فهو الحركة المستطيلة التي تمد الإنسان بالسعادة (دوبامببن) حسب التحليل النفسي، ومهما يكن من أمر، فإن الشيخ – حسن العلوي يعد أعد رواد المسرح المغربي بجانب عبد الكريم برشيد، ومحمد الكغاط، ومحمد تيمود، وبلهيسي ومحمد مسكين، والمسكيني الصغير، وغيرهم. أما إذا أخذنا الدكتور محمد الكغاط فإننا واجدون أنه يحاول أن ينتصر للحقيقة وللأسطورة اليونانية وهذا الحضور يجعل المسرح المغربي كتظاهرة احتجاجية ضد النهاية والثبات، وإعطاء مناعة له لكي يعي وجوده، وهذا ما فعله المرحوم محمد الكغاط في إخراجه، وتنظيراته، أراد أن يثور التراث، وأن نكون قادرين على امتلاكه، لا أن يملكنا، كما يقول الجابري في كتابه (نحن والتراث) فالمقصود من هذا الانفتاح هو خلق لمسات جينية لإنتاج نصوص وفق مواصفات محددة، لأن مصير المسرح في هذه المدينة هو حق مطروح للنظر والتساؤل انطلاقا من الكونية، وانطلاقا من فكر وقاد يقظ وتفكيكي، ومن ثمة أتت أهمية استكمال السؤال عن هذا الفن الدرامي كقوة نووية عالية تشخص الملهم والملتصق جدرية التمسرح وبمحاولة تحديث التربة العربية سلسلة من التجارب العالمية التي تدمر هذه الكرة المحلية بكاملها، لكون السؤال الذي يطرح هل المسرحي المغربي والعربي عاش مرحلة اليونانية والرومانية والألمانية، والفرنسية؟ لقد ظل الإنسان مركز الكون ليس أي إنسان أو العامة وإنما الإنسان العاقل والأقدر على المعقولية، وهذه الأخيرة هي التي دفعت أفلاطون إلى تقييم المجتمع الأثيني إلى تراثية سياسية وأخلاقية ومعرفية، ضاربا كل القيم السائدة في مجتمعه، معتبرا إياها ضربا من العبث والوهم، وحتى الديمقراطية أو منزلة المواطن اقتلعها من جذورها يؤسس لنا مثالية ميتافيزيقية، لأن السياسي هو راعي البشر، لكن يرى جيل دولوز: أن هذا الطرح سيوقعنا في المزالق النظرية وهذا ما سماه بالادعاء Prétention، فالإنسان حسب أفلاطون لا يكون إنسانا إلا باستخدام العقل والقدرة على التذكر،Réminiscence، لكن أرسطو ساير هذا النهج معتبرا الإنسان بمثابة حيوان سياسي لكن هذا لم يعر أي اهتمام لأستاذه، بل احتفظ على المفهوم جاعلا من العقل أربعة مجالات: الأخلاق، السياسة، والبلاغة، والأرغانون،عارضا براعته الفكرية التي تعمل على نقلنا من مرحلة القوة إلى مرحلة الفعل، من أجل إيجاد حقيقة هذا الكائن كحركة للفكر، وللمعرفة، فهو الواسط بين الوجود والموجود، لا هو غريزي وانغماس في الذات والملذات، وليس بعيدا عن الأرض، فالعقل هو علم قوانين الفكر، به نسعد أو نشقى، وبه نميز بين ما هو جيد، وما هو قبيح، فليس هناك عالم المثل كما حدده أستاذه، هناك اللغة الواقعية والمنطق، لكي تتوجد في ماهية الإنسان، لكن سقراط لم يطرح هذه النماذج المادية ولا المتعالية، بل هدفه الإنسان، والحكمة، قادر على توليد الحقائق من أفواه الرجال، إذن نحن أمام نزعة إنسانية التي لا تشيئ هذا الكائن، بل تجعله عاقلا وقادرا، ومركزا للوجود، ومبدعا للمفاهيم كما يقول جيل دولوز، وتبعا لسنة التطور وقانون الممارسة الإبداعية، فإن الحاكم هو خليفة الله في الأرض وهو الواسط بين الإله، والبشر، فهو الراعي لمجال العقل والمثل، فبقي المفكر، والمثقف يواجه صعوبات النبش في المسكوت عنه، لأن النفوذ الرهباني، والقساوسي ظل متحكما في الإبداع وفي السلطة، فهم ضد كل حركة مناوئة، وضد كل من يخرج من دائرتهم، فأمسى الفكر اللاهوتي هو الأساس في الإبداع العربي، وظهرت نزعات كلامية وفكرية تحاول أن تعيد النظر في المفاهيم المستوردة من السريانية واليونانية، وطرحت قضية النص، والعقل، والاجتهاد، والفيض، وغيرها … مما ولد لنا عدة تيارات: – تيار يؤكد على أن لا اجتهاد مع حضور النص. – تيار معارض يؤكد بمؤكد واحد هو العقل الذي لا يتناقض مع الاجتهاد. وعبر هذين البعدين طرحت أسئلة جذرية ومحايثة للواقع الجديد والمتحول منها: التأويل والخلق، والعدم أسئلة دياليكتيية وتأويلية أصبحت تدفع الفقيه والمثقف إلى توفير شروط إبداعية إما روحانية، أو عقلانية دون التميز بين الكوني، والمحلي … وهذا ما جعل الجابري المغربي إلى إعطاء تسمية هذه الولادة الجديدة التي برزت في التربة العربية بالبيان، والعرفان والبرهان، وبقي هذا الثالوث يفعل فعله عند القرب وخاصة عند توماس الأكويني، وسبينوزاوأوغستين وكثرت النزعات والمذاهب الفكرية والسياسية التي أصبحت منطلقا جديدا تتحارب فيه محاكم التفتيش، وتعمل على مناهضة العنف ضد الفلاسفة والمفكرين والمبدعين ولذا عملت الأنتربولوجية اللفستراوسية والتفكيكية على كسر اللوغوس الغربي، من أجل إبراز الآخر المقصي لكي يكون مركزا كما يقول أومي بابا في كتابه “موقع الثقافة”، وأصبح المهمش يعي أناه من خلال ثقافته وفكره ومعرفته الفطرية والمكتسبة وبدأ يفكر، ويبدع قارات معرفية ضمن القارات التي أسسها الغرب الكولونيالي وما بعد الكولونيالية، لذا عمل المسرحي العربي والمغربي بالانفتاح على الثقافات الشرقية والغربية والأسيوية، الشيء الذي ولد لديه رؤية ذوقية، وإحساس فذ يطرب الأذن، ويثري القلب بألوان من التجارب التي وجدها أمامه، وعمل على صياغتها بألوان تتساوق مع الشروط الجماهيرية كما يقول غوستاف لويون في كتابه “سيكولوجية الجماهير”، ص 11، وهذا ما رأيناه عند مبدعين مغاربة سواء على المستوى الشعري أو الروائي، أو القصصي أو الفني، أو المسرحي، وهذا الأخير اكتسب براعة فكرية تتسم بقوة تأليفية، وتجريبية أكثر ما تنم عن قوة اتباعية، وتقليدية، فالمسرحي بعج هذا اللون الدرامي إما بالرقص، أو باللغة، أو بالاحتفال، أو بالجنس والجسد، والطقس، والجدية وغيرها من المفاهيم الطقوسية والرمزية ولقد حاول الفنان ادريس المعنوي أن يمتطي صهوة هذا الطود العظيم، فوجده يسكب الخير ليهب الحياة للمتلقي، عارضا براعته الفنية التي تتأسس عن عبقرية تشخيصية وعن توليدات فنية، جعلته يعي كينونة المسرح من خلال قراءته للتراث، ومن خلال عملية الإخراج الذي قربنا إلى المغاير، والمستحيل، دون الركون إلى الثابت، وهذه العملية التي قام بها غيرت قوقعة المسرح وجعلته يكتسي طابعا فرجويا، من خلال التساؤلات التالية: – كيف أصنع الفرجة؟ – وما هي درجة هذه الصناعة؟ – وكيف نصنع صياغة تمسرحية على فعل الاحتجاج؟ – وكيف نربط المدني (الشارع) بالإنسان المقصي؟ – وهل يملك المهمش لغة تسمح له بالانتماء إلى الفضاء المديني؟ – وهل مسرح الشارع هو البديل لصناعة تاريخ المقصي؟ – وكيف نصل إلى البعيد من خلال القريب؟ أسئلة مفتوحة غير مختومة تجعلنا نستشف أن المسرحي ساير المسرح برؤية ثاقبة، جعلته يوصل إلينا قراءة عميقة التي تخاطب الوجدان، والذات، وتجعلنا نحس إحساسا شديدا بالرؤى والمضامين المنهجية التي هي السمة الوظيفية والجمالية والتداولية، إنه فنان يعطي للعشيرة الدرامية تاريخية ممكنة يمكن تسميتها بالهوية الدرامية، ومهما يكن من أمر، فالاختلاف المنهجي، والإيديولوجي جعلنا ندرك أن المسرح في هذه المدينة فوق كف عفريت نظرا للانقسام الإيديولوجي، وهذا الانقسام لا يتأسس على رؤية موضوعية التي تتساوق مع الشروط العلمية، بل تنبني عن رؤية علمية أناوية شوفينية، وشبقية لا تعطي للمسرح حقه الدرامي والتداولي، بل لابد أن يبقى المسرح خارج سرب النقابي، والأناني، من أجل أن يموت الفنان ليعيش الفن والمتفرج. لكن المسرحي أحمد جهيد يعطي لنا إرثا مسرحيا، مستقلا به كرؤية نقدية فنية للممثل، عارضا فيه التقنيات التي ينبغي أن يتسلح بها الممثل، ولكن سجله الحافل بالمسرح، وكمخرج يراعي درجة التلقي في أعلاه، ووسطه، وتأخره، حيث يعمل على جعله لا ينام وغير مستحضرا الأشباح كما يقول عبد الكريم برشيد، دون أن يهدهده في عقر داره، لذا يدعو أن يكون المسرح عبارة عن احتجاج، وتمرد وثورة، وسيكولوجية جديدة تكسر أفق انتظار القراء كما يقول “هانس روبير ياوس”، وهذه الرحلة السيزيفية التي يتسلح بها أحمد جهيد يجعلني أن أبحث عن فرضية فحواها، إمكانية إعادة النظر في المسرح وليس من خلال الرياضيات أو الفيزياء، بل من خلال المسرح بكل أبعاده ومشكلاته التي تعترض هذا الحقل الدرامي، والتي تشكل بنيته الجوهرية، بواسطة التدخل المعرفي، لأن المسرح هو التاريخ، والمعرفة، والفكر، والرياضيات والفيزياء، البيولوجيا، وعلم النفس وعلم الاجتماع، والانثربولوجيا، كلها تعرفنا بالتيماتالمبتورةفي الفرجة إما من زاوية سلبية أو من زاوية إيجابية، فيبقى أحمد جهيد فنانا يكيف نصه كوظيفة ايديولوجية، وكمعاني ودلالات ممارسية تثقل كاهل المتلقي كما رأينا في رحاب مركب الحرية. إذا انتقلنا إلى هرم المسرح المغربي المسمى “إبراهيم الدمناتي”، فهو مؤلف وممثل، ذا همة عالية، أبي النفس، لا يأبى إلا البساطة، وليس الشموخ، ملأ الدنيا، وشكل الناس ببساطته، إنه متنبي المسرح، لا يكثر من الكلام، يرى بالبصيرة، والفؤاد، يترجم أحاسيسه فوق الركح مع العديد من الممثلين كالكغاط، والسقاط، وتيمود، وسقوط، والحاج العربي، … لا يودع الفرجة، بل يحملها أينما حل وارتحل. فهو ذو تجربة متعددة، وهذا التعدد لون أنفته وجعلته مؤرخا للتجارب السابقة، واللاحقة يشكل زمنه في الحديث عن المسرح كأنه واصل بن عطاء، يصف لنا المسرح بالصفات التي تجعله يكسر الحدود والأمكنة، لا يطلق عنانه للسانه أو لذاتيته، بل هو مشروع معطى متكامل وكامل، يظل يتأسس ضمن الجماعة التي ينتمي إليها يعلمنا كيف تطلق العنان للتجريب وليس للنظري، فهو مشروع كما قلت، وتاريخ جامع بين الماضي والحاضر في وحدة منطقية وفي روح واحدة، فعبره يمكن أن تفهم حقيقة المسرح في هذه المدينة العلمية وفي المغرب لأنها حقيقة خاضعة للترقب والتجريب والمخطط الذاتي والمعرفي، فهذا التوافق يمثل عبثية المطابقة والهوية الناجمة عن الإخفاق النقابي والسياسي، لأن الهوية المسرحية تجاهلتها الاضطرابات والتقلبات، فلم نعد نجد تجربة شمولية، ولا تعدد فرجوي الذي يسكننا وتسكنه، وتمنى له طولالعمر، وتواب الإبداع،أما المرحوم محمد الإدريسي الفنان العصامي الذي انتقل من مرحلة الكمون إلى مرحل الإبداع، حيث كان مهوسا بالمعرفة، والفكر، وكثيرا ما كنت أجالسه في مقهى “الفنون” لتدارس قضايا الثقافة، والمعرفة، وكان مهووسا بأرابال، وأرطو، وبول وي مان، وأغستو بول (البرازيلي)، والمتنبي، والحلاج، وكثيرا ما يطرح الأسئلة الفكرية كأنه فيلسوف قبل أن يكون مسرحيا، عمل على إخراج العديد من المسرحيات مع ثلة من الممثلين كأخيه عبد الرحمان الإدريسي، وعزيز الحسني … وغيرهم، وكان لا يقع عند عتبة النص بل يطرح المعرفي داخل النسيج الركحي لكي يعطي لهذا الجسد شاعريته، ودراميته اللغوية، حيث يجعل الممثل يعيش الحال والمحال، ويعمل على مغربة بعض الشخصيات كفاندو، وبيرومثيوس وعازر، وايزسوأوزوريس، وايلز وكان مقتربا من جغرافية ومحمد الكغاط يحاول أن ينبش في الموروث الفكري لمعرفة الطبقات الثابتة والمتحولة قصد بناء رؤيا جديدة تغاير الكلاسيكي، والرومانسي لتنشد الواقعي، والدياليكتيكي، إنه محمد الإدريسي هو خزانة متحركة، إنه عباس محمود العقاد، كان يطرح معي أسئلة كالهوية، والديمقراطية، والثقافة، والفكر، والاستعمار الثقافي، والمسرح والمسرحي، … كلها أسئلة كنت أحملها محمل الجد، لأنه لا ينطلق من فراغ بل من مرجعيات متعددة، الشيء الذي جعلني أتقرب منه لأرشف من كأسه المسموم، حيث أن العبارة تسبقه، والأفكار تنثال عليه انثيالالحيةالرقصاء المتراكضة كأحلام المجانين إنه فنان لا يعتمد على النسخ، ولا الاقتباس القدحي، بل هدفه كما يقول هو البحث عن التأسيس، والتأصيل لتجربته الدرامية، ولكن النقاد لم يبالوا بهذه التجربة المنفردة كتجربة أسميد وخاصة في مسرحيته الأشباح يتمردون، وقد كتبت عنها في ملاحف ثقافية، رغم أن بعض حراس الجهل المقدس يعتبرون أن المغامرة النقدية بدعة وضلالة، وهذا ما جعلني أعيد كتابة النقد المضاعف لأتساءل، هل هناك نقد إبداعي أم فضلات نقدية. فيبقى إبراهيم الدمناتي بجانب الحاج العربي، وأمسيد، وأحمد جهيد، والمرحوم صوابو البورشيدي، وادريس المعنوي، ومحمد الادريسي، وسقوط، والسقاط، وحسن العلوي نبراسا نهتدي بهم في أمواج الرمز، وفي لغة الأسطورة ونجهل معهم سجل التاريخ بوصل معطوب، وبرؤية حداثية معطوبة كما يقول محمد بنيس، إنها شذرات من التجارب التي عاينتها وتعايشت مع بعضهم، وأتمنى أن تعود البسمة لهذا الطفل “المسرح” وأن تكون لديه في هذه السنة الجديدة رحلة في سجله التجريبي اليمي. أما بلمو محمد فهو المسرحي الشاب الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بأطاريحه المختلفة والمتنوعة، حيث ينقل لنا مادته الأولية من الواقع الذي يعيشه، واقع يكتنفه الغموض والإبهام، وراح يصنع لنا عالما غير العالم الذي نعيشه، إنه عالم مهمش، منسي، ومقصي، يريد أن يدخل المدينة بكتابة عاشقة، وإيروسية، لا تستوطن الأنا في الذات، بل تعتمد الإبداع، والتخطي، فمحمد بلمو لا يلوك أطياف الذكريات، بل يستشرف نحو أفق جديد، إنه أفق رحب يتحدث عن أشياء ليبني لنفسه رؤية جمالية، ينطلق منها بالمقارنة مع العلوم الإنسانية. الغير المتورط في النسيج النصي الركحي، لأن بلمو في مواقفه لا يختصر المسافة الإبداعية، بل يمتد في النسيج التاريخي، والفكري ليصنع لنا حداثة تجريبية تمنطق الواقع كعملية تثقيفية، بمعنى أن التحريك الإبداعي هو تحريك للماهيات المرفوضة، والتصورات اللغوية المرتبطة بالسياقات الفكرية والتجريبية. فحضور الواقع، والإنسان في المسرح هو اختراق وتجاوز للطبقات الثقافية والذاكرة المجروحة، إنه تحويل نقدي لفتح أفق جديد، إذ لا يمكننا أن نؤرخ للمهمش إلا إذا صار تقنية علاجية، تشخص الحاضر، من أجل المستقبل إن محمد بلمو، كاتب، وشاعر ومسرحي، وإعلامي، يريد دوما أن يغاير المألوف، ليبني المتحول من خلال الثابت. وأخيرا أتمنى أن يكون الأكاديمي المسرحي، ناقدا لنفسه، ولأدواته، ولمعارفه، إنها رسالة موجهة إلى جهابذة “حراس الجهل المقدس” الذين ينامون على الأمجاد الماضية، ويرفعون القناع كنز ثمين.