ميمونة بنعمر أو “ثَامِيمونْتْ” كما تنطق محليا بالريف، إسم ورد في أكثر من مؤلف، شريط وثائقي، برنامج تلفزي وإذاعي، ومعرض وطني ودولي، وإن كانت بعض هذه الأعمال التوثيقية هي لباحثين وكتاب مغاربة، فإن أغلبها يعود لباحثين ومهتمين أجانب، وبالخصوص الإسبانيين والفرنسيين الذين اشتغلوا كثيرا على موضوع الصناعة التقليدية والحرف اليدوية بالمغرب، وبالضبط على حرفة “أَمَسَارْ” أو تشكيل الفخار، فلا يمكن الحديث عن هذه الحرفة المتميزة والعريقة بمنطقة الريف دون الإتيان على ذكر إسم هذه “المعَلْمَة” التي رحلت عنا في يونيو من سنة 2015 عن عمر يناهز 89 سنة. آخر لقاء لي بهذه الحرفية المتميزة، كان ذات ربيع من سنة 2006، حينما زرتها صحبة بنت شقيقتي التي كانت تدرس حينها في شعبة التدبير السياحي، والهدف كان هو تسجيل مختلف مراحل إنتاج الأواني الفخارية بالمنطقة، استقبلتنا بحفاوة وكرم كبيرين، خاصة وهي تعلم أننا نتحدر من دواري “إبَغْلياً” و”أيثْ هِشام” الواقعين قبالة دوارها “إدَرْدوشَنْ” على الضفة الأخرى لوادي غيس، كانت حينها تبلغ حوالي 80 سنة من عمرها، كانت في غاية الحيوية والنشاط، ولم تنل منها أي شيء متاعب الحرفة التي تتطلب جهدا وصبرا وتركيزا. ورغم هذا العمر فقد كانت تشرف على كل صغيرة وكبيرة في ورشتها الحرفية، تصنع، تشكل وتزين، وقبل هذا وذاك تحضر المواد الأولية، وتوقِد وتعِد الفرن التقليدي لإنضاج الأواني الفخارية التي تكون قد صنعتها من قبل. “ثَاميمونْتْ” وإن جلست إليك لتحدثك عن حرفة الفخار النسائي بالريف وأسراره البديعة، فهي تفعل ذلك وفي نفس الوقت تراقب وتشرف على كل العمليات التي تقوم بها مُسَاعِداتها، وهن في الغالب إبنتها الوحيدة وحفيداتها الأربع، اللواتي ورثن أصول هذه الحرفة بمهارة كبيرة سمحت لبعضهن اليوم، لأن يؤسسن تعاونية لإنتاج الفخار وتسويقه، وحظين إلى جانب باقي فتيات الدوار، بإنشاء مركز لهذا الغرض سنة 2002 مدعم من طرف منظمات وطنية ودولية تهتم بالتنمية المحلية والقروية، وبالضبط من طرف جمعية بادس للتنشيط الاقتصادي والاجتماعي، وبدعم من مركز الاتصال والبحث والتوثيق لأوربا وأمريكا اللاتينية، والوكالة الإسبانية للتعاون الدولي. عن بداياتها الأولى في عالم تشكيل الفخار، قالت لنا السيدة ثاميمونت: “لا يمكن لي أن أتحدث عن سن معينة حين انخرطت في هذه الحرفة، يمكن أن أقول إنه منذ نعومة أظافري، منذ أن كنت طفلة يافعة، حوالي العاشرة من عمري أو أكثر بقليل، كل أفراد الأسرة كانوا يمارسون هذه الحرفة، بل أغلبية ساكنة الدوار، حرفة ترعرعنا معها، بل ترعرعنا بها وبفضلها، أخذت أصولها عن والدتي، كذلك حينما تزوجت وانتقلت للعيش عند زوجي، وجدت أسرته تشتغل في نفس المجال، طبعا إلى جانب الفلاحة التي تعتبر أساسية أيضا في دوار “إدَرْدوشَنْ”، فالفخار يمكن اعتباره هو النشاط الثاني بعد الفلاحة”. ودوار “إدَرْدوشَنْ” الذي يقع قريبا من ضفاف واد غيس وعلى بعد خمس كيلومترات من مركز الجماعة القروية لإمرابطن، و35 كيلومترا من مدينة الحسيمة، يعتبر من أشهر المناطق المعروفة بالريف – طبعا إلى جانب دوار تغزة بالرواضي، إحدوثا بأيث حذيفة، تيغزة قرب أربعاء تاوريرت، وإكني وبوكمالت بأيث بوفراح- بإنتاج الفخار التقليدي النسائي بالريف، كما هو معروف في مختلف المصادر التاريخية، في حفاظ تام وكلي على خصائص هذا النوع من الفخار سواء على مستوى التشكيل أو التزيين، أو على مستوى المواد الأولية والآليات المستعملة في هذه الحرفة، وكذلك على مستوى محيط الإنتاج الذي يبقى هو العالم القروي. مصطفى سلطان، نجلها البكر، الذي فضل العودة من الديار الألمانية ليكون إلى جانب عائلته في تسويق هذا المنتوج التراثي يقول: “عائلة سلطان لم تكن يوما تهتم بالمقابل المالي الذي قد تجنيه من هذه الحرفة، فكما تعلمون، الحرفي آخر من يستفيد من حرفته، بل المستفيدون الحقيقيون هم التجار والوسطاء، ولكن يكفينا فخر الإسم، وفخر الحرفة، فالوالدة رحمها الله خلدت إسمها من خلال الفخار النسائي بالريف، فأينما وليت وجهك في الندوات والمؤتمرات واللقاءات العلمية التي تهتم بالصناعة التقليدية بالريف إلا وإسمها يذكر باعتزاز وفخر كبيرين، وحتى في الأفلام الوثائقية والكتب، سواء داخل المغرب أو خارجه، الوالدة لم تكن متمدرسة، ولكنها كانت تعرف بالفطرة أن هذه الحرفة هي هوية المنطقة وجزء من ماضيها وحضارتها ويجب أن تستمر وأن لا تندثر”. أفلام وثائقية ومؤلفات احتفت بثَامِيمُونْتْ سفيرة فوق العادة للفخار النسائي معظم الأعمال التي تناولت بالدراسة والتنقيب والتوثيق هذه الحرفة في الريف، إلا وكانت فيها السيدة “ثَامِيمونْتْ” حاضرة بقوة، وكانت ضيفة فوق العادة، سواء من خلال تجربتها وثقافتها في الميدان، أو من خلال مهاراتها ومعرفتها الفنية والحرفية الواسعة، فقد كانت بحق، رحمها الله -هي وعائلتها المعروفة بلقب “سلطان” – مؤسسة فعلية للحفاظ على تراث الفخار النسائي بالريف وتسويقه على أوسع نطاق، وذلك عن طريق المشاركة في المعارض الوطنية والدولية، وأيضا من خلال تمرير هذه المهارات إلى الأجيال المتعاقبة من أبنائها وأحفادها. فهذه السيدة التي كانت تتقن بشكل عجيب حرفة تشكيل الأواني الفخارية وتزينها منذ نعومة أظافرها، خبرت كل مراحل وتفاصيل هذه الحرفة، حتى تشبعت بأصولها وقواعدها الصحيحة، فمن مرحلة جلب الطين وجمع الحطب، مرورا بالتشكيل، والتزيين بمستخلص أوراق شجر الدرو، وصولا إلى مرحلة إنضاج هذه الأواني في الفرن التقليدي “ضَيَنُوثْ” أو في المطمورة “ذَسَفْثْ”، فكل هذه المهام والمراحل خبرتها عن دراية عالية، وظلت تقوم بها بحيوية ونشاط كبيرين إلى أن وافاها الأجل المحتوم، وهي لم تكن يوما تنظر إلى العائد المادي لهذه الحرفة، بقدر ما كانت مؤمنة ببعدها الفني الثقافي والحضاري. وبالفعل فهي كثيرة المؤلفات والأفلام الوثائقية التي تناولت الفخار النسائي بالريف، وكانت “ثاميمونت” محور هذه الأعمال، ومن الأفلام الوثائقية، نذكر منها على سبيل المثال الوثائقي الذي أخرجه جون فرانسوا كويزين، لفائدة مؤسسة بنجلون مزيان سنة 2003 تحت عنوان “فخاريات الريف” وقبله الوثائقي “ثاميمونت: آخر الفخاريات” لماريا خوصي، والذي تم إنتاجه سنة 2002 وتم اختياره للمشاركة في الدورة الخامسة من المهرجان الدولي حول “الطين والزجاج” بمونبوليي الفرنسية سنة 2006. ومن المؤلفات التي تناولت الفخار النسائي بالريف وضمنت فيها السيدة “ثاميمونت” حضورا مهما نجد “ذاكرة الحركة: الفخار التقليدي والنسائي بالريف، وهو مؤلف جماعي لأندري بازانورحمة الحرايكي وإيف مونتموسان الصادر سنة 2003 عن دار النشر “ميزون نوف” وكذلك كتاب” الفخار النسائي بالمغرب” لحماد برادة الذي صدر عن منشورات مرسم.. أما المعارض فقد حظيت إسبانيا بالنصيب الأوفر من تنظيمها واحتضانها، بالخصوص تلك التي نظمتها كل من ماريا خوصي وزوجها خورخي وانيير، بالعديد من المدن الإسبانية وكذلك بسبتة ومليلية المحتلتين بعناوين متعددة من قبيل “الفخار الأمازيغي الريفي: فن نسائي” سنة 2012 بمتحف “لافورما” الذي عرضت فيه العديد من قطع الفخار المتميزة ومعرض”عمل الفخريات بالريف” و”رمزية الفخار الأمازيغي بالريف” الذي قدم بالمؤسسة الأوروبية- العربية بغرناطة ضمن فعاليات المنتدى العالمي الأورو-أمازيغي سنة 2015، ومعرض بمتحف الفنون الجميلة بمدينة كاستيون الإسبانية، وفي المتحف الوطني للخزف ببلنسية. هذا إلى جانب العديد من الندوات واللقاءات الأكاديمية والمحاضرات. الفخار النسائي بالريف: استمرار حرفة آتية من عبق التاريخ لعل ما يميز الفخار النسائي بالريف هو طابعه القروي، طريقة تشكيله، وطريقة تزيينه، فقيمته الحضارية يستمدها من أصالته وعراقته وبساطته، بل إن طريقة التشكيل والصناعة يمكن اعتبارها -إلى جانب الزخرفة- الميزة الأساسية لهذا النوع من الفخار الذي يشكل رصيدا تراثيا مهما للريف والمغرب، فإلى حدود اليوم – ومنذ قرون 6000 سنة قبل الميلاد- حافظت نساء المنطقة على الطرق التقليدية والبدائية في تشكيل الأواني الفخارية التي كانت تنتج فيما مضى للإستعمال والحاجة أو للتزيين والديكور حاليا، فمختلف مراحل الإنتاج تتم بدون استعمال أية آلة كيفما كانت طبيعتها ونوعها، وتستعمل فيها مواد أولية بسيطة تتوفر محليا. ففي الصباح الباكر تذهب فتيات الدوار إلى مكان جلب الطين “إذَقٍي” الذي يتوفر على جودة عالية حيث تتم عملية الحفر إما بفأس كبير يطلق عليه محليا “سَاپَا” أو “أگزيمْ” كما يمكن استعمال فأس صغير، يقال له “ذَحْذِيتْشْ” وكلها أنواع من المجرفات اليدوية، وبعدها يتم تعبئة هذا الطين في أكياس بلاستيكية “ذَيخُونْشَايْ” وتوضع في “الشْوَاري/ إغَگْنَنْ” وينقل إلى المنزل على ظهر الدواب “إسَاذَنْ أو إغْيَارْ” إذا كان المكان بعيدا أو في قفة من الحلفاء تسمى “ذَاحَمتْشْ”، إن كان مكان جلب الطين قريبا من الدار، ويعملن على نشره في الفناء الداخلي “أزْقَاقْ” أو في الباحة الخارجية للمنزل “أزَاگ” قبل أن يتم تحضيره عن طريق تفتيته -أحيانا بعصا- حتى يصير ناعما وبعدها يتم خلطه بالماء لمدة 24 ساعة حتى يصبح سائلا، ويصفى من الماء حتى تبقى العجينة خالصة كالمَدَرُ فتؤخذ لعجنها مع مادة يكون قد تم إعدادها سابقا. واستمرارا في تحضير المواد الأولية المستعملة في هذه الحرفة العتيقة تقوم النساء الحرفيات بالريف، أو من يساعدنهن من فتيات العائلة، بجمع قطع من الأواني الفخارية القديمة التي تكون قد تكسرت وتسمى “إشَقُوفَنْ” الجمع) و”أشَقُوفْ” المفرد)، ويقمن بتفتيتها ودكها بعصا غليظة يقال لها محليا “ذَاهْرَوْثْ” وحين يسير على شكل حبيبات صغيرة يغربلنه في غربال له فتحات متوسطة “أَغَبَارْ” أو فتحات صغيرة “تَجُونْتْ” وتعاد عملية الدك والغربلة لمرات حتى يتم الحصول على دقيق بحبيبات ناعمة، وأحيانا تتم الإستعانة برحى حجرية يدوية “ذَسَثْ” ويخلط حينها بالطين الذي يكون معدا لتشكيل الأواني الفخارية حيث يمنح له تماسك ومتانة أكثر، وتكون أوانيه ذات جودة عالية ولا تتعرض للتشقق والكسر بسرعة، وهي المادة التي يعوضها حرفيو الفخار ببعض المناطق الأخرى بالرمل. وهنا يكون أحد أفراد العائلة قد تولى مهمة أخرى لا تقل أهمية من الأولى – وفي الغالب يتولاها الذكور منهم إذا كان المكان بعيدا- وهي المتعلقة بإحضار الحطب من الغابات المجاورة للمنزل “إزَدَمْ” وهي العملية التي تسمى “أزْذَامْ إكَشُوضَنْ” من فعل”إزَدَمْ” المفرد) و”زَدْمَنْ” الجمع) التي غالبا ما تكون من أغصان شجر اللوز، العرعار “أمَدْزي” الصنوبر”ذَيْذَا” والصفصاف…أو من نبتات السدر “تَازُوگارثْ” أو العليق/”أخَشَابْ” أو الدرو “فَاذيسْ” ويفضل أن يكون هذا الحطب يابسا حتى يتم استعماله مباشرة وفي أي حين دون أن يحتاج إلى وقت طويل لتجفيفه تحت أشعة الشمس، وأثناء إيقاد النار تتم الاستعانة ببعض الحشائش اليابسة ك “زُوكَمْ” أو “أسَكُومْ” أو “أَزُو”/ العالوق وفي الغالب ما يعرف ب “فَاگْرَا” وذلك لتسهيل اشتعال النيران في الفرن التقليدي “ذَيَنوضْثْ” و”ذَيَنوضْثْ” هي نفسها الفرن التقليدي الذي يستعمل لإنضاج الخبز، يستعمل كذلك في إنضاج الأواني الفخارية حتى تصبح صلبة ومتينة، وتتكون من المكان الرئيسي الذي توقد فيه النار وبعدما يشتعل الحطب نهائيا ويتم تحريكه بين الفينة والأخرى ب “أحَرَاكْ” حتى يصبح رمادا “ذْنٍيفَسْثْ” تقريبا فيتم سحبه ب “أَكَنَاسْ” – وهو عبارة عن مكنسة تقليدية تصنع من الملابس البالية ومختلف الأسمال فيما يدها يكون من أعواد الأشجار- إلى الجزء الذي يسمى “اسَنْشَا” وهو الجزء الذي يظل يحافظ على درجة حرارة الفرن بعدما توضع في الجزء الأول أواني الفخار بترتيب دقيق -لمدة ثلاثة ساعات تقريبا- حفاظا على جودتها ويغلقا بوضع “ذْمَاذُوْنْتْ” فيما تترك فوهة صغيرة في الأعلى لخروج الدخان، بعدها تنقل هذه الأواني إلى المطمورة “رْكُوشَثْ” أو “ذَسَفْثْ” التي تغطى بمعجون الطين والماء لمدة ست أو ثماني ساعات. بعدها يتم استخراجها وتوضع في ركن من المنزل أو الفناء الخارجي يكون في الغالب مغطى – حماية لها من المطر- لتأتي بعدها مرحلة “فَذْلَكَة” الأواني من الخارج بحجارة صغيرة ملساء لتلميعها تسمى “إسَذْرٍي” وصقلها جيدا “إٍذَدَگٍتْ” بمادة طبيعية يطلق عليها “تَبٍيَاضْتْ” وإعدادها لعملية التزيين والزخرفة بتحضير مادة طبيعية مستخلصة من أوراق شجر الدرو “فاذٍيسْ” حيث يتم قطف هذه الأوراق وتوضع تحت أشعة الشمس حتى تسير بنية اللون وجافة، حينها تجمع ويضاف إليها قليلا من الماء الساخن وتدق في أنية الهاون أو المهراس الخشبي “إٍذٍيذَگْ” حتى يصبح على شكل علك لزج، ويعدها يصفى عن طريق قطعة ثوب “ضصَفَيْثْ” ويكون حينها هذا المستخلص صالحا لتزين الأواني عن طريق رسم أشكال وخطوط عن طريق ريشة أو فرشاة صباغة تسمى “إسَنْقَامْ” فتعاد إلى الفرن قليلا لتثبيت الألوان وتكون حينها جاهزة للإستعمال. وإذا كان هذا هو جانب من الاهتمام الذي حظيت به الراحلة ثاميمونت بنعمر، سلطانة الفخار النسائي بالريف، من طرف باحثين وكتاب أجانب بالخصوص، ك”مْعَلْمْة” وفنانة ذائعة الصيت على المستوى المحلي والدولي إلى جانب زوجها الراحل قبلها سنوات (توفي رحمه الله بداية فبراير 2004) فإنها في وطنها رحلت وفي قلبها غصة التجاهل من طرف الجهات المسؤولة والمهتمة بتراث وتاريخ المنطقة، كيف وهي التي أقيم لها حفل تكريم خلال فعاليات المهرجان الأمازيغي للثقافة المتوسطية المنعقد بالمعهد الإسباني بالحسيمة سنة 2006 وتسلمت درع التكريم من القنصل العام الإسباني، فيما لم تحظ بأي تكريم أو عناية من طرف مسؤولي بلدها، وهو ما يستدعي إعادة الاعتبار لهذه السيدة، خاصة وأن أفراد أسرتها يراودهم منذ مدة، إقامة جناح بمنزلهم يكون شبه متحف ومزار بالدوار لعشاق السياحة القروية والثقافية.