لم يأت عنوان ديوان الشاعر كريم ناصر "نبتة يدي غابة شوكية" اعتباطا ولا على عواهن الاختيار، بل هو توسيم فطن لشاعر يختزن هما حقيقيا يريد بنصوصه أن تكون مثلما النصال الخازنة لعذابات شديدة الإيلام، لا بنوايا التوجع الذي يستدر عطفا عابرا، بل بمكابدات حقيقية تحمل كوارث وطن وأنين شعب يعاني جراحات ما توقف نزفها يوما، إنه شاعر مسكون بوجعه الدائم ليتوحد مع أمكنة كانت ملاذات له فيما مضى، لم تبرح أبدا عن مواجده وعشقه لأرضه المبتلية بالكوارث على امتداد مآسي العراق، شأن بقية مبدعي المنافي ممن تكالبت عليهم صيغ الحنين الدامي لأمكنة تشوهت من مغامرات المخبولين ولم تبهت صورها الجميلة عن ذاكرة المبدع، رغم صيغ الخراب التي تعرضت لها، تظل في سريرته مزهوة كما دائما بزمن لم يكن يعرف غير الولادات الخضبة من عبق الأهل والأحبة والرفاق، الأحياء منهم والأموات، من هنا يدمي الشاعر متقصدا نصوصه لتحرك كل الفعل الإنساني الذي بات مصدر هموم لا مسرات، خلافا لبقية خلق الله في أكوان أخرى، وهكذا هو قدر العراقي المنحور على مذابح الخيبات الدائمة. أليت إلا أن أستشهد بتقديم الشاعر للديوان بمفتتحه، لأنه يكثّف بقوة أسئلته الحارقة ويرسل للقارئ مفتتحا شيقا ليحرك شهيته لما يأتي من نصوص، وهنا يكمن إعجابي بهذا الشاعر المبدع: هكذا مرّ الوقت ومعه كلّ شيء… كطفل يدفعه الكابوس إلى النوم، رأيت لسان العصفور في الساحة، الناس غطّوه بعيدان القش.. ألا تعلم حين جرفت السيول التماثيل الى المراكب… سهر القمر في الظلام، وكأنما نهسته حيّة. فالصقر نهش لحم العظاية، لأن حارس البستان قد فرّ. في هذا المفتتح الشعري نلاحظ أن الشاعر يختزل تفاصيل الوجع العراقي ضمن انتقالات حسية جارحة لمحطات هي بمثابة استلاب لأهل تلك الأرض متمثلة بإيلام الشاعر الذي هو الأكثر إحساسا بالضيم لكونه لسان حال المتوجعين من عذابات تضرب في وجودهم الإنساني المبتلي بكل الضغائن والأحقاد. الوقت هناك يمر محملاً بكل شيء مثلما طفل ابتلى بكوابيس يكون النوم هو المهرب الوحيد للتخلص منها، فالشاعر يستحضر طفولته هو حين كان يعاني من نوازل لا ذنب له فيها وكأنها باتت قدراً لعيناً. حتى لسان الطير لم يسلم من الرصد للفتك به وخوفا عليه، أخفوه الناس في كومة قش، حين جرفت السيول حتى التماثيل، لينتهي به الحال وهو يعدد الكوارث، حين فر حارس البستان بجلده. وهذه الإحالة الذكية والترميز النبه يخيّم بحضوره القوي على ما مر بوطن الشاعر من تغييب للناس وبشتى وسائل الفتك والهمجية، لينتهي بهم الحال، بأن من كانت يده أطول من قامته الرثة ولسانه أمضى من السيف، قد فر هاربا تاركا البشر كلا يواجه مصيره، ناسا وأرضا ووجودا. كلمات قليلة بلغة شعرية تكثف بقوة لحكايات جريحة وبتوظيف شعري يترك للقارئ التواشج معها لتحقيق هذه الألفة بين النص وقارئه. يؤثث الديوان اثنان وعشرون نصاً، تحمل عناوين لافتة تغري القارئ باختياراتها وغرائبيتها للولوج لمتون النص واكتشاف ما ينوي الشاعر قوله وبالتالي تتحقق لذة القراءة. في نصه الأول "مدن الضباب": "ما الذي يجعلنا لا نهتم؟ هذه الشجرة تذوي كتمثال يشهق في الحرّ ……………… مثل مدن تندثر في الضباب الدخان يملأ رئاتنا ………………. فمن أين لنا سماء حتى تترك الحمائم البراري" هذا الوجع المر يتلقفه الشاعر بإحساس شفيف ليخلق ذلك الربط بين وجوده وبوصلته الشعرية التي يريدها ألا تحيد عن ذات الاتجاه الذي يريد ويحس ويتوجع، وبلغة دامية، لنقول إن الشاعر بهذه التهويمات الشعرية وبتوظيف متمكن لأدواته الشعرية، يؤجج، وفي لحظات من المؤانسة المرّة، بينه وذاته الشاعرة، ليضفي على القراءة متعة قد تكون نادرة في نصوص مغايرة، بتمكنه في الإمساك بتلابيب لغته الشعرية. ما نلاحظه في هذه النصوص ذلك التداخل القوي بين ضمير المتكلم وضمير المخاطب، وكأن الشاعر يتكلم عن لسان قارئه، وهذه المشاركة المقصودة تمنح النص مساحة كبيرة، وكأنك كقارئ عاشق لنصوص أمام مرآة لا بمواجهة نص شعري، تتراقص أمامك الصور والكلمات بمعجمية تحفل بفتنة التوظيف والاختيار، مما يدفعك لاكتشاف ماهية الشاعر وخصوصيته التي تنم دون شك عن مرجعية واسعة بأدوات معرفية، يتداخل فيها التاريخ والطبيعة والفصول ودبيب المخلوقات الأرضية، وكأنه يمتح كائنات من أكوان أخرى، ليرتب لوحة متناسقة الألوان والتفاصيل بتعبيرية متداخلة بين التشكيل والكلمات واللغة الناطقة، بعيدا عن الصمت الذي لا روح فيه، بل نجد أن الشاعر كريم، من التمكن باقتناص كل هذه التفاصيل ليوظفها في لوحة واحدة تجعلك تقف أمامها طويلا وتتأملها ببصيرة المكتشف. "ما من سراب لا يعرف النهاية. وما من ريح تجلد التنين، ما معنى أن يطير الهوامّ ولا تفقس أشواك الورد؟ " عشقت هذا المقطع جدا وأنا أرتب دواخلي التي بعثرها لوقت، لأكتشف أنني أمام دقة توظيف بوصف مذهل، حين يستحضر الشاعر بين مكونات هذا المقطع: نهاية سراب/ ريح تجلد التنين/ يطير الهوام ولا تفقس أشواك الورد. بتساؤلات قد تسبب حيرة في بداية الأمر، لكنك ما أن تعيد قراءة المقطع بتشريح لغوي عارف بماهية المفردة، تكتشف أن الشاعر من العمق الفكري والتكوين الثقافي الموسوعي، ما يجعلك تنحني إعجابا بهذه الفطنة الشعرية الباذخة. *كاتب عراقي مقيم بالمغرب