لم يعيشوا حياتهم جزافا، بل كانت لهم رسالة أرادوا إيصالها للناس، إنهم أولياء الله الصالحين الذين خاضوا تجربة روحية وتأملا وجوديا لتحقيق الوعي بمقامات التقوى، وبما أننا في شهر العبادة والذكر، تأخذكم "بيان اليوم" طيلة أيام شهر رمضان المبارك، في صحبة أشهر أعلام التصوف في الإسلام، لنسافر معهم إلى عوالم العشق الإلهي، ونسبر أغوار عالم التصوف وخباياه، ولنتعرف أيضا على التنوع الكبير في أشكال الولاية والطرق إلى الله. الرحلة العاشرة: عبد الغني النابلسي "لي في الإله عقيدة غراء، هي والذي في الوجود سواء" لم يكن صوفيا فحسب، بل كان بالإضافة إلى ذلك فقيها، مؤرخا، أديبا وشاعرا، فهو الفقيه الحنفي المعتمد صاحب الآراء والاجتهادات الفقهية في المذهب، كما أنه الصوفي المجدد في مذهب الشيخ محي الدين بن عربي والمفسير لأقواله وأحواله، وهو الشاعر الكبير والأديب المشهور، صاحب الدواوين الشعرية التي تناقلها الناس وأنشدها الصوفية في حلقاتهم ومجالسهم، هو المؤرخ الذي أرخى لعصره وللصوفية من خلال رحلاته ومشاهداته ولقاءاته العلمية. عبد الغني بن إسماعيل بن عبد الغني النابلسي الدمشقي الحنفي، (1050\1143ه)، (1641\ 1731م)، يرجع نسبه إلى الخليفة عمر بن الخطاب، أغنى أنواع العلوم العقلية والنقلية المعروفة في عصره، ولد في دمشق، وتوفي أبوه وهو صغير فنشأ يتيما، اشتغل في صباه في العلم فدرس الفقه والنحو والصرف والمعاني والبيان والحديث ومصطلحاته، والتفسير على مشايخ زمانه، ولما بلغ العشرين من عمره حدث تحول في حياته العلمية، فأدمن المطالعة في كتب الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي. له مؤلفات عديدة، بلغت زهاء ثلاث مائة مؤلف، ما بين كتب ورسائل ودواوين ذكرها خلال رحلته الكبرى، تميز بدفاعه عن الصوفية، أبرزها: (التحرير الحاوي على تفسير البيضاوي)، (تعطير الأنام في تعبير المنام)، (جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص)، (الفتح الرباني والفيض الرحماني) وغيرها الكثير، كما عرف برحلاته الحافلة في ربوع العالم الإسلامي. قرأ بعد وفاة والده الفقه وأصوله على أستاذه الشيخ أحمد بن محمد القلعي الحنفي، والنحو والمعاني والتبيان والصرف على الشيخ المعمر محمود الكردي نزيل دمشق، وأخذ الحديث ومصطلحه على مفتي الحنابلة بدمشق الشيخ المحدث محمد بن عبد الباقي الحنبلي البعلي الدمشقي، وقرأ أيضا وأخذ على الشيخ الصالح الورع محمد بن أحمد الأسطواني، ودرس على الشيخ إبراهيم بن منصور الفتال وغيرهم من العلماء في ذلك الوقت. بانت على الشيخ النابلسي معالم النبوغ والتفوق منذ شبابه، فقد رثى أباه وهو في الثانية عشرة من عمره، وابتدأ التدريس في الجامع الأموي وهو في العشرين من عمره، فدرس الجامع الصغير والأربعين النووية والأذكار للنووي، وفي سن الخامسة والعشرين نظم بديعيته التي سماها " نفحات الأزهار على نسمات الأسحار في مدح النبي المختار"، وهي تشمل كافة أنواع البديع اللغوي في حلة مدح المصطفى، ولجودتها وسعة مواضيعها استبعد بعض أهل الأدب والعلم أن تكون من نظمه، فاقترح عليه أن يشرحها، فشرحها في مدة شهر شرحا لطيفا في مجلد. ثم سلك بعد ذلك طريق التصوف، فانتسب للطريقة القادرية والنقشبندية، وأقبل على مطالعة كتب ابن عربي وابن سبعين والعفيف التلمساني. بعد ذلك دخل الشيخ النابلسي في أزمة فكرية شديدة دامت سبع سنوات، اعتزل فيها الناس وأهمل الاعتناء بنفسه وشكله، "إنه صار له في أول أمره أحوال غريبة وأطوار عجيبة، وبقي في داره بقرب الجامع الأموي في سوق العنبرانيين مدة سبع سنوات لم يخرج منها، وأسدل شعره، ولم يقلم أظفاره، وبقي في حالة غريبة، وصارت تعتريه السودا في أوقاته، وصارت الحساد تتكلم بأنه يترك الصلوات الخمس، وبأنه يهجو الناس بشعره، وقام عليه أهل دمشق، حتى إنه هجاهم وتكلم بما فعلوه معه". يقول الشيخ عبد الغني النابلسي في قصيدته "كن غنيا في صورة الفقراء": كنا غنيا في صورة الفقراء… لا فقيرا في صورة الأغنياء ومرادي بالفقر ما كان فقرا… دنيويا للأخذ والإعطاء لا مرادي بالفقر لله ربي… ذاك فقر ما إن له من عناء ذاك عز بدون ذل وعلم… فاصطبر إنه لخير بلاء وتمسك بربك الحق واقتنع… بالتجلي في سائر الأشياء وانفض القلب من غبار الترجي… والتمني لجاههم والعلاء إنما جاههم توهم عز… في هوان وشهرة في خفاء