أجمع عدد من السياسيين والفنانين والمثقفين على ضرورة النهوض بالشأن الثقافي والفعل الفني والإبداعي بالمغرب وذلك من أجل ضمان استقرار البلاد وازدهارها وتقدمها في شتى المجالات. ودعا عدد من المتدخلين، في لقاء نظمه حزب التقدم والاشتراكية حول موضوع "الثقافة أولوية وطنية" ليلة الأربعاء الماضي، بالرباط، إلى فتح نفاش وطني حول الثقافة باعتبارها أولوية وطنية ومحورا رئيسيا لتطور البلاد وازدهار التنمية. وأكد المتدخلون أن الثقافة هي وقود أي نموذج تنموي جديد من شأنه أن يساهم في التحاق المغرب بمصاف الدول المتقدمة والرائدة على جميع المستويات سواء اقتصاديا أو علميا أو غير ذلك، مشددين على دور الثقافة كمحرك أساسي للتطور * محمد نبيل بنعبد الله: هناك حاجة ماسة اليوم لأن يعود المثقفون لحمل الكلمة في هذا السياق، قال محمد نبيل بنعبد الله، الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، إن الثقافة، على غرار قطاعات ومجالات أخرى، في حاجة لمن يحمل همها سياسيا، معتبرا أنه "لا يمكن أن يكون هناك فعل ثقافي أو فعل اقتصادي أو اجتماعي دون أن يكون هناك من يحمل هذا الهم". وتابع نبيل بنعبد الله أن هذا الإشكال والهم يخصان بالأساس المفكرين والمثقفين والمبدعين، "لأننا في أمس الحاجة اليوم لأن يعود المثقفون لحمل الكلمة وذلك على مستوى الأفكار المعبر عنها"، مضيفا أن "الثقافة التي نريدها والتي من الممكن أن يكون عندها عمق حقيقي في بلادنا هي الثقافة التي لا تعيش ولا تتنفس إلا في إطار فضاء ديمقراطي منفتح". وأبرز زعيم حزب "الكتاب" الذي يشرف على منتديات النقاش التي ينظمها حزب التقدم والاشتراكية أسبوعيا، في إطار التحضير للمؤتمر الوطني العاشر المرتقب التئامه في منتصف ماي المقبل، أن الثقافة تعبير عن أفكار وعن اختلاف في الرؤى للوصول إلى أحسن ما يمكن أن يحمله المجتمع، موضحا أن هناك حاجة ماسة لحضور "الهاجس الثقافي" في الفعل السياسي المغربي. وأشار المتحدث إلى أن المفهوم الوحيد للثقافة الذي يجب أن يتم ترسيخه في المغرب هو الانفتاح والحرية والتعبير الحر عن الأفكار وبطرق مختلفة، مؤكدا على أن هذه الثقافة وهذا التصور "ورش كبير" يحتاج إلى انخراط المثقفين والسياسيين. في هذا الإطار، قال نبيل بنعبد الله إنه يتعين الاعتراف بوقوع "ابتعاد" بين المثقفين والفنانين، من جهة، وبين السياسيين، من جهة أخرى، مبينا أن هذا "الابتعاد" أضر بالحقل السياسي والثقافي معا، سواء من خلال فراغ الأحزاب من النخبة الفنية والثقافية بالشكل الذي يجب أن تكون عليه، أو من خلال الوضع غير المريح الذي يعيشه الحقل الثقافي. وعلى شكل إجابة للإشكالات التي طرحها، دعا الأمين العام للحزب إلى مصالحة بين المثقفين والسياسة ، من خلال "عودة رواد الثقافة من فنانين وكتاب ومفكرين ومبدعين وغيرهم إلى الاهتمام بالشأن العام إلى جانب الشأن الثقافي"، بالإضافة إلى "متابعة ما يحدث في هذه البلاد والانخراط في الدينامية المجتمعية والصراع من أجل الكرامة والعيش الكريم.."، وطرح المتحدث خيارا وحيدا قال إنه الخيار الذي يمكن أن نسير فيه ويؤدي إلى استقرار المغرب ويشق مساره إلى جانب الأمم المتقدمة، وهو "تعميق الديمقراطية وجعل المؤسسات تلعب أدوارها وتمارس صلاحياتها وترك الأحزاب تقوم بعملها ودورها المجتمعي ومهامها السياسية، بكل استقلالية فضلا عن ترسيخ الحرية وتمكين حاملي الرأي من مثقفين وحملة القلم ورجال الإعلام والفضاءات الأخرى من العمل بشكل مستقل ومتحرر، وأن يكون التنافس في ذلك من أجل إبراز برامج حقيقية، والانتقال بقفزة نوعية نحو الأمام في جميع القطاعات". وحذر بنعبد الله، في كلمته الافتتاحية للقاء الذي احتضنه المقر الوطني لحزب التقدم والاشتراكية بالرباط، من السقوط في دوامة الفراغ من خلال غياب النقاش حول البدائل الممكنة للبلاد كالنقاش حول النموذج التنموي الجديد، وغياب النقاش حول سبل النهوض بالسياسة، بالاقتصاد، بالثقافة، التي قال "إنها غائبة تماما، ومن شأن هذا الغياب أن يؤدي إلى تفريغ كل الأشياء من معانيها والسقوط في الفراغ الذي يضر البلاد والمجتمع كثيرا"، داعيا إلى التركيز على الثقافة باعتبارها من الأساسيات الحاملة للمعنى والتي من شأنها أن تعطي المعاني كذلك لباقي المجالات والقطاعات. كما دعا بنعبد الله الفنانين الحاضرين في اللقاء والإعلاميين والمثقفين إلى الانتصار للشأن الثقافي وحمله على العاتق والترافع من أجله لدى مختلف الهيئات والمؤسسات، من أجل ملء الفراغ الموجود بالمغرب، ومواجهة الركود الحاصل على مستوى النقاش المجتمعي حول القضايا المهمة. * الحسين الشعبي: مسعانا العام يتمثل في إشراك الأطر الحزبية والنخب الفكرية والسياسية والفعاليات المجتمعية في إنتاج الأفكار وتقديم البدائل هذا وبعد كلمة الأمين العام للحزب، أوضح الحسين الشعبي، الصحافي والمسرحي، المنسق الوطني لقطاع الثقافة والاتصال والفنون التابع لحزب التقدم والاشتراكية، الذي أدار أطوار هذا المنتدى بسلاسة واقتدار، أن هذا اللقاء يندرج ضمن منتديات النقاش العمومي التي يشرف عليها المكتب السياسي للحزب لخلق فضاء للتواصل والتبادل والتفكير الجماعي في مختلف القضايا التي تستأثر باهتمام الرأي العام، وذلك استعدادا للمؤتمر الوطني العاشر للحزب الذي سينعقد في غضون شهر ماي المقبل، مؤكدا أن "مسعانا العام من عقد هذه المنتديات، يتمثل في إشراك الأطر الحزبية والفعاليات المجتمعية والنخب الفكرية من مختلف التيارات والآفاق في التفكير والتحليل ومقاربة القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية الهامة، والخروج بخلاصات وأفكار وبدائل لإغناء مشروع الوثيقة السياسية التي يعدها الحزب للمؤتمر، انطلاقا من قناعة الحزب الراسخة بضرورة الانفتاح والإنصات لنبض المجتمع ومثقفيه ونخبه من أجل إنتاج أفكار جديدة قادرة على مواجهة كل الاستعصاءات والصعوبات والسير ببلادنا نحو التنمية والتقدم.. وبخصوص تيمة هذا المنتدى "الثقافة أولوية وطنية"، طرح الحسين الشعبي عدة محاور يمكن من خلالها الإطلالة على هذا الموضوع ومقاربة إشكالياته النظرية والعملية.. من بينها ضرورة تحديد مفهوم "الثقافة" الذي نتحدث عنه بعيدا عن المفهوم الأنتروبولوجي الشامل والعام والمتعارف عليه، واضعين الأصبع على المجالات الحيوية للثقافة في مختلف أبعادها السياسية والاجتماعية والبشرية. ومن ثمة لابد من طرح علاقة الدولة بالثقافة بما يعني علاقة السلطة السياسية بالفضاء الثقافي، ورسم معالم سياسة عمومية واضحة بنفس استراتيجي مستد على تشخيص الواقع واستشراف الآفاق.. وبالتالي فإن التحليل سيقودنا، يقول الشعبي، إلى طرح معضلات البنيات التحتية، والصناعات الثقافية، واقتصاديات الثقثافة، والدعم العمومي للإنتاج الثقافي والفني، وقيمة التظاهرات الثقافية والمهرجانات الفنية، ومسألة الاختيارات الفكرية وحرية التعبير والمسألة اللغوية وحماية التنوع الثقافي، وعرضانية الاشتغال في الثقافة وعلاقة المثقف بدواليب القرار السياسي.. وغيرها من المحاور الفرعية التي شكلت منطلقات الحزب في إعداد هذا النقاش. * محمد الأمين الصبيحي: على الدولة أن تقوم بدعم الإنتاج الثقافي والفني بدون التدخل في اختياراته ومضامينه من جانبه، أكد محمد الأمين الصبيحي، عضو المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ووزير الثقافة السابق، في ذات اللقاء، أن السياسات الثقافية تهتم بمجموعة من المجالات التي تساهم في صنع القيم، مشيرا إلى أن الدولة مطالبة بالتدخل في الشأن الثقافي. لكن في نفس الوقت أن تضمن استقلالية الأعمال الفنية والاختيارات الثقافية. الفكرة يوضحها الأمين الصبيحي بالقول إن هناك رفضا لنماذج ثقافة الدولة أو مثقف الدولة، مشيرا إلى أن المطلب يكمن في أن تكون لهذه الدولة مسافة حقيقية مع الإبداع الثقافي والفني، وهي أحسن وسيلة، يقول المتحدث، "لضمان استقلالية الاختيارات الثقافية والفنية". وأضاف المتحدث أنه، إلى جانب ضمان استقلالية هذه الاختيارات، يبقى مطلب دعم الدولة قائما وذلك من أجل توصل هذه الأخيرة وسائل الدعم للإبداع الثقافي والفني في إطار الاستقلالية التامة للاختيارات الثقافية، مشيرا إلى أن هذه الاختيارات تتطلب شيئا من الذكاء لسن سياسة حقيقية يكون عليها توافق داخل مجتمعنا. هذه السياسية التي يجب سنها، حسب الصبيحي، تقوم على أساس مبدأ حرية الفكر وحرية التعبير وحرية الإبداع والحرص على استقلاليته، وذلك حرصا على تقوية التنوع الثقافي الذي ينص عليه دستور المملكة. كما أبرز الصبيحي أن هناك حاجة ماسة كذلك إلى ضرورة تدخل الدولة للولوج إلى الثقافة وبلورتها على صعيد المجتمع، من خلال الالتقائية والشراكة بين مختلف القطاعات، موضحا، في هذا الإطار، أن هناك تضاربا في الآراء، إذ أن "هناك من يرى ضرورة تدخل الدولة في اختيار المجالات الإبداعية التي يجب أن تدعم، ونحن نرى عكس ذلك، أي يجب إقرار آلية لضمان استقلالية الاختيارات الثقافية مع ضرورة دعم الدولة، وهذا ليس تناقضا، بل تدخل الدولة في إطار استقلالية الاختيارات الثقافية". وتابع الصبيحي "حين نقول إنه يجب أن نخرج من النظرة النخبوية للثقافة ونبلور الحق في الثقافة الذي جاء به الدستور مجاليا واجتماعيا، الجواب لا يأتي لأن ميزانية وزارة الثقافة محصورة وليس لها الإمكانية في تنفيذ سياسة الولوج إلى حق الثقافة سواء من خلال إحداث مؤسسات ثقافية أو دعم التعليم الفني"، معتبرا أن هذه الإشكالات قائمة في الوقت الذي فيه إمكانية متوفرة في قطاعات أخرى والتي قال إنها لا تتطلب إمكانيات باهظة. وأوضح الصبيحي أن هناك قطاعات أخرى كسياسة المدنية والسكنى ووزارة الداخلية والجماعات المحلية التي لها الإمكانية للمساهمة في هذا الأمر، لكن الإشكال هو أنه ليست هناك إرادة حقيقية من أجل هذه الالتقائية، يشير عضو المكتب السياسي لحزب "الكتاب". إلى ذلك أكد الصبيحي أن الثقافة يجب أن تكون مشروعا مجتمعيا يحمله الأشخاص الذين يؤمنون بالأدوار الأساسية للثقافة، سواء من فنانين ومثقفين، أو من المنابر الإعلامية المستقلة التي تعطي أهمية للأدوار التي تلعبها الثقافة، مشيرا في هذا الجانب إلى أن المغرب حاول، منذ الاستقلال، تدعيم الثقافة وحماية التراث، "لكن هذه الجهود، يضيف المتحدث، بقيت حبيسة لمقاربة متجاوزة والتي تتطلب ثورة فكرية". من جانب آخر، أكد الصبيحي أن هناك إمكانيات للدولة للمساهمة في تمويل ثقافة حقيقية، سواء من خلال الشراكة مع القطاع الخصوصي أو من خلال التقائية البرامج وذلك من أجل أن تلعب الثقافة دورا أساسيا في المجتمعات، سواء على الصعيد الاقتصادي والتنمية المستدامة، أو من خلال الصناعات الثقافية والابداعية. وشدد وزير الثقافة السابق على ضرورة أن تعطي الدولة الأهمية للصناعات الثقافية والإبداعية لما يمكن أن تحققه من إشعاع للقطاع الثقافي ككل، فضلا عن توجيه الدعم والتدخل لإشعاع الفعل الثقافي وليس الدعم كمجرد آلية، مشيرا إلى أن "أخطر شيء هو أن تقوم الدولة بدعم الإنتاج الثقافي والفني بدون ترويج"، لأن ذلك حسب، الصبيحي، يسمى "هدراً للإمكانيات"، لأن المبتغى من العملية الإبداعية هو تربية الأذواق والتربية الفنية والإحساس بالجانب الروحي الذي تسمح به الثقافة والفن والإبداع. * مسعود بوحسين: يجب أن نكف عن اعتبار الثقافة قطاعا غير منتج من جهته طرح المخرج المسرحي والأستاذ مسعود بوحسين رمن جهته طرح المخرج المسرحي والأستاذ مسعود بوحسين رئيس النقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية مجموعة من الأسئلة المرتبطة بتدبير الشأن الثقافي بالمغرب من قبيل هل الثقافة تجارة؟ هل تخضع كليا للمعايير الاقتصادية؟ وكإجابة على الأسئلة التي طرحها يقدم مسعود بوحسين مجموعة من الإجابات حيث ركز في منطلق كلمته على اتفاقية اليونيسكو 2005، التي تؤكد على ازدواجية أن الثقافة هي سلعة وفي نفس الوقت قيم غير اقتصادية، أي أن فيها جانبين الاقتصادي والقيمي. من هذا المنظور تحدث بوحسين عن ثلاث مستويات، الأول يكمن في النظر إلى الثقافة كخدمة عمومية هدفها إشاعة روح الابتكار في المجتمع وتجديد أنماط التفكير وبكونها خدمات ثقافية توجه للمواطنين. وثانيا باعتبارها مجالا لصناعة القيم، وبالتالي الثقافة تخلق قيما يحتاجها المجتمع وتنظم علاقة الأفراد بمحيطهم. وثالثا باعتبارها، أيضا، سلعة ونشاطا اقتصاديا من منطلق الصناعات الإبداعية التي لها مردودية اقتصادية محضة تتمثل في التشغيل والقيمة المضافة التي تستفيد منها الدولة. انطلاقا من ذلك كله يخرج بوحسين بفكرة أساسية مفادها أن "الثقافة كلها أرباح" سواء قيميا أو في علاقتها في تنظيم المجتمع أو حتى باعتبارها مدخولا اقتصاديا. مشيرا في هذا الجانب إلى أن عددا من الدول تستفيد من مدخولات الثقافة بل وتعتمد عليها كدخل أساسي كفرنسا التي يبلغ معدل إسهام الثقافة في دخلها الوطني 7 بالمائة. وفي حديثه عن الصناعة الثقافية قال بوحسين إن مداخيلها بالنسبة للدولة لا تحققها جميع المنتوجات الثقافية بما فيها المنتوجات المدعمة، معتبرا أن الصناعة الثقافية تدخل ضمن خانة المخاطر الاقتصادية، إذ أن الخطر في هذا المجال يشكل أعلى نسبة بالمقارنة بباقي المواد التي لا تعتمد على الذوق. الخلاصة التي يقدمها الفنان والمخرج المسرحي بوحسين هي هو أنه يجب أن نغير وجهة نظرنا اتجاه الثقافة والكف عن اعتبارها قطاعا غير منتج، ولا سيما في المغرب، بالإضافة إلى تأكيده على أن ما يصرف على الثقافة بطريقة غير معقلنة أكثر بكثير من الخطاب الرائج. رغم أن 0.26 غي المائة فقط هي التي تخصص لقطاع الثقافة من ميزانية الدولة. هذه الإشكالات يربطها بوحسين بوجود ضعف قانوني ومؤسساتي كبير جدا وغياب الالتقائية في القطاعات الحكومية، وعدم وجود أي تنسيق بين السياسات الحكومية في هذا المجال. وعلى شكل استنتاج، دعا بوحسين إلى ضرورة سن إطارات قانونية وآليات كفيلة بخلق التقائية بين القطاعات الحكومية، وبين الدولة والقطاع الخاص، وعلى مستوى الجهوية التي يجب أن يتم، على مستواها الأخذ بعين الاعتبار أن الثقافة منطلق وأداء للتنمية المحلية وخلق التوازن المجالي. محمد توفيق امزيان وفنن العفاني