لم تختر "عهد التميمي" أن تصبح يوما، وهي في ربيعها السادس عشر، "الأيقونة الجديدة لمقاومة الاحتلال الصهيوني"، لم تختر أن تواجه جنديا إسرائيليا مدججا بالسلاح بيدها الصغيرة، لأن ذلك الجندي، وذلك الاحتلال هما اللذان اختارا وطنها وبلدتها وأسرتها واختارا "عهدا" معهم ليسجلا على أرض فلسطين وجثث رجالها ونسائها وأطفالها انتهاكاتهما اليومية لكل الحقوق وكل الشرائع. لم تختر "عهد التميمي" أن تولد طفلة محرومة من طفولتها وبراءتها بسبب الغطرسة الصهيونية، بل إن الاحتلال هو الذي اختارها ليجعل منها عهدا متجددا للشعب الفلسطيني مع المقاومة، عهد لم ينجح جنون الاحتلال وحماقة دونالد ترامب سوى أن يزيداه قوة ومصداقية في ربوع المعمور، ولتزيده "عهد التميمي" وهجا وألقا. "عهد" التي تقول عنها قريبة لها: "بعيدا عن الكاميرات عهد بنت تحب الحياة ولديها أحلام ومجتهدة في المدرسة وهي في سنتها الأخيرة في مدرسة البيرة الجديدة. اعتقلت الآن في مرحلة مصيرية قد تؤثر على حياتها، فقد يدمرون مستقبلها. "عهد" تحب كرة القدم وتحب الحياة والمزاح. لكن "عهد" تريد أن توصل رسالة للعالم عن معاناة الشعب الفلسطيني وأعتقد أنها نجحت في إيصال هذه الرسالة بسبب الزخم الإعلامي الكبير". والدها باسم التميمي، الذي اعتقل بدوره 11 مرة من قبل قوات الاحتلال، يتحدث بفخر عن طفلته مؤكدا أنها "منذ نعومة أظافرها تشارك في المسيرات الأسبوعية المناهضة للاستيطان وجدار الفصل، وتواجه الجيش الإسرائيلي ببراءتها وطفولتها"، متابعا "عهد، تتلمس معاناة شعبنا الفلسطيني تحت الاحتلال، وبات خيار المقاومة بالنسبة لها وللعائلة واجبا أكثر منه خيارا" وأنها "تنتمي إلى جيل يعرف الاحتلال ولا يخشاه". نعم عهد التميمي تعرف الاحتلال، خبرته منذ فتحت عينيها عليه وهو ينتزع الأرض ويقتلع أشجار الزيتون، وهو يحاصر بئر الماء ويقطع طريق الوصول إليه وإلى كل خيرات أرض فلسطين المستلبة، شاهدته وهو يعتقل ويأسر أباها وأمها وأقاربها، وهو يقتل خالها وعمتها ويصيب ابن عمها بجراح خطيرة… كل ذلك شاهدته عهد ورضعته مع حليب أمها.. إن طفلة ترضع حليبا بهذه المرارة لا يمكن إلا أن تكون مقاومة! معاناة عهد وأمثالها من أطفال قريتها "النبي صالح"، هي التي جعلت كاتبة صحفية إسرائيلية، هي ليزا جولدمان، تجهر بقولها "في النبي صالح فقدتُ بقايا صهيونيتي.. تَحوُل لم يكن فقط بسبب العنف والوحشية اللذين رأيتهما أمام عيني، بل نتيجة رؤيتي لعائلة التميمي وهي تتعرض للعنف أسبوعا بعد أسبوع، وهم يرون أقاربهم جرحى أو معتقلين أو قتلى، ولم يروا بعد أن ثمن المقاومة باهظ. هم فقط يرفضون دفع ثمن مقابل التوقف عن المقاومة". ليزا جولدمان، شاهدة من أهلها تتحدث عن تجربة وليس من فراغ، حيث كانت حاضرة على مدار أشهر خلال مظاهرات أيام الجمعة في قرية النبي صالح، وكتبت: "لم أر أي مراسل صحفي لوسيلة إعلام إسرائيلية. لكنني عدت لأجد التلفزيون الإسرائيلي يتحدث عن المشاغبين في القرية بالضفة الغربية وأن جنودنا تعاملوا معهم بضبط نفس.. إن عائلة التميمي تتظاهر كل يوم جمعة في النبي صالح على مدار عقد تقريبا، احتجاجا على محاصرة المستوطنين الإسرائيليين لهم ومنعهم من الوصول لأماكن مثل عين ماء قريبة من القرية.. فقد بنى الاحتلال الإسرائيلي المستوطنات بجوار القرية ثم بدأ في خنقها وتم منع الفلسطينيين من الوصول إلى نبع الماء، وحدد خطوطا لا يمكن للمواطنين في النبي صالح تخطيها". وأضافت الصحفية: "كل أسبوع يتجمعون على قمة التلة القريبة بقريتهم، يحملون الأعلام الفلسطينية والرايات، ويسيرون نحو الشارع الذي يفصلهم عن عين الماء. الهدف صريح وهو أنهم يريدون العبور إلى العين. وكل أسبوع، يرسل الجيش قواته إلى القرية وحولها لمنع المتظاهرين من الوصول لهدفهم". وتابعت أن الأمور تسير كل أسبوع بهذا الشكل "بمنتصف النهار، تدخل المركبات العسكرية القرية. القوات مدججة بالسلاح ينزلون من المركبات ويقفون بأسلحتهم وينتظرون. في بعض الأحيان يطلقون النار بمجرد بدء المظاهرة، وفي أحيان أخرى ينتظرون حتى يلقي مراهق حجرا نحوهم ليطلقوا النيران". وقد استعانت الصحفية بتصريح لمتحدث جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي أكد ل "نيويورك تايمز" أنه لا توجد أي إصابات بين الجنود بالحجارة في هذه المظاهرات. لكن خلال السنوات الأخيرة الماضية، قتل الجنود وأصابوا عددا من المتظاهرين". عهد التميمي لم ترفع سلاحا ولا حتى حجارة أسوة بأطفال الحجارة، لم تكن تملك سوى عينين أشعلت صفاء زرقتهما حرقة الألم والغضب على طفولة ضائعة.. لم تكن تملك إلا يدا صغيرة كانت تفضل لو تركها الاحتلال ترفعها بالقلم لتكتب قصيدة في حب الوطن داخل فصلها الدراسي.. لكن الاحتلال لم يعطها فرصة لتعيش طفولتها.. وحين رفعت يدها بالاحتجاج أنكر عليها ذلك.. فاستحق أن ترتد عليه غطرسته احتقارا وغضبا من العالم الذي رأى "طفلة بلا سلاح تواجه جيشا مدججا بالسلاح". عهد التي صارت "أيقونة شعب وأسطورة جيل"، هي واحدة فقط من مئات الأطفال والفتيات من سنها، الذين يعتقلون كل يوم ويرمى بهم في سجون الاحتلال، يعذبون ويقتلون بدم بارد وحقد ظاهر، يشهدون على صمت العالم أمام جريمة ترتكب في حق شعب مضطهد تنتهك كرامته وتستلب أرضه ولكنه يرفض أن يموت.. ذلك الرفض هو الذي وثَّقته عهد بذكاء في تقاريرها المصورة على مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك الرفض والذكاء هو ما أثار ويثير حنق الإسرائيليين وحماقتهم التي ينتفض ضدها اليوم العالم بأسره. فعندما قرر الاحتلال الإسرائيلي اعتقال طفلة ورميها في السجن لأيام دون منحها حتى الحق في إجراء استنطاق لها، وجرَّها إلى المحكمة مصفدة اليدين والقدمين، وأصر على تمديد مدة اعتقالها لأنها "تشكل خطرا على أمن الدولة"، فإنه حفر حفرة لعهد التميمي ثم سقط فيها.. إذ جعل العالم كله يشهد على انتهاكاته الصارخة لحقوق الطفل وحقوق الإنسان على الأرض الفلسطينية، وبالتأكيد فإن ذلك، وإن لم يحرك جيوشا متخاذلة ويغير مواقف منحازة، إلا أنه يساهم بقوة في تشكيل رأي عام ووعي دوليين ما فتئا يزدادان قوة وتأثيرا في وجه الوهم الذي صنع الدولة الإسرائيلية.