الإهمال المتعمّد لوضع الأشياء في غير محلّها، الهندام الذي لا يأخذ شكلا واضحا ومتماشيا مع المعتاد، الجوارب التي يتيه ترتيبها عنّي إلى حدّ أن تصبح هي لوحدها متاهة تامّة في وجه حذاء واحد ومفرد مثل إله مقدّس. القمصان الصّالحة فقط للصيف تفرض نفسها أيّام البرد والصقيع بينما صنوتها الدّافئة تختفي بالمرّة فيما يشبه إعلانا عن عصيان بيتيّ محقّق، ثمّ أخيرا البدلتان اللتان لا يتمّ تذكّرهما إلّا لحظة الخروج، فيبدو الأمر كما لوأنّهما قد خرجتا فعلا بدونى، أو على الأقلّ أوهمتاني بذلك حين تسلّلت إحداهما بين قمصان تعود إلى فصل قد لا يعنيها البتة، بينما الثانية تركت نفسها عنوة تتهاوى من خلف المشجب الوقور باتجاه الركن الخلفي للدولاب، أمّا الملابس الداخلية فهي تندسّ في لؤمها الأبيض الدفين خالقة حالة من الالتباس بين المستعملة والجديدة...هكذا أجد نفسي ضائعا بين هذه الأشياء التي ينبغي لها أن ترتّب ظهوري العلني أمام المرآة وأمام الناس، وأن تضع لي معنى معينا قابلا للتمثّل والنعت به تتمّ قراءة المرء بتعابير من قبيل: «فلان أنيق»، «فلان، له حضور طاغ» «فلان، له هيئة مقبولة»... أنا لست بالخادم الجيّد لنفسي، لم يسبق لي أن ارتديت ياقة وبدلة رسمية إلّا ليلة عرسي ولدقائق محدودة لالتقاط صورة تذكارية بالمناسبة. لقد كنت وسط هذا الهندام مثل كتكوت مبلّل تحت مطر عيون نهمة. أنا لست بالخادم الجيّد لنفسي، ولكن في قضية الألوان أبدومثل جنرال حاسما نوعا ما. لي مبدأ قار يحميني من الفوضى الخارجية. أنا أحبّ الألوان المحايدة وحين أقوم بجولة لونية في لباسي أكاد لا أخرج عن دائرة محدّدة مركزها إمّا الأبيض أوالأسود، ومداها إمّا الرمادي الهادئ أوالبنّي الخافت. الرمادي لأنّي لا أريد أن أتورّط في معنى محدّد فهو لون ديبلوماسي بامتياز. البني يذكّرني بطفولتي الصحراوية... لون بمثابة أمومة مفتقدة بالنسبة إليّ. الأزرق الذي أتحاشاه وغالبا ما أرتكبه في لحظة سهو يملؤني بإحساس طاغ من الحذر، فهوله نسيب في الطبيعة أكرهه، هو البحر. فالشعراء، وما أكثر حماقات الشعراء، يضفون على البحر هالة كبيرة من السحر والجمال خاصّة أولئك الرومانسيون حينما يصابون بالغباء، وكما فعلوها مع القمر...هاهم يعيدون نفس الحكاية مع البحر: من البحر لا تأتي إلّا المخاطر والأسماك...الأسماك بطبيعة الحال لمن يحبّها... أعتقدّ بشكل جديّ أنّه لولا البحر لما كان تاريخ البشرية بهذا السوء. أنا لست بالخادم الجيّد لنفسي، شعر الرأس وإن بدا خاليا من الشيب لم أعرف له تسريحة مريحة، فهومزعج حقّا. أيّام الهيبيين السعيدة كان يتمنّع عن الطول وكلّما دفعته قسرا إلى التمرّد عن الأعراف المتداولة وأن يأخذ حرّيته في الاسترسال باتّجاهات عنيفة كان اللعين يقعى مثل كلب الحارة، وعندما دالت دولة الشعور المسترسلة وحلّت محلّها جمهوريات الموز أي الشعور المقصوصة، كانت لوثة الشعور الطويلة قد أصابته مثل مراهق متأخّر... من يومها وهوفي حالة شدّ وجذب فوق رأسي. قيل لي بأنّه من صنف الشعر الكهربائي، فلابدّ إذن من أنّني أنا المسؤول عن تزويده بهذه الشحنات الزّائدة من التوتّر التي تجعل من كلّ خصلة من خصلات شعري قد صارت متمتّعة بحكم ذاتي وأنّ هناك نوعا فريدا من الحكم المحلّي أوالجهوي قد تأسّس دون علمي فوق كيان رأسي. لحيتي كنت أريدها أن تكون شبيهة بتلك التي ينعم بها الكتاب الكبار الذين كنت أحبّهم، أي لحية وقورة وواضحة المعالم تشي بعبقرية صاحبها. لكنّها العنيدة لم تأخذ من ذقني إلّا ما يروقها، أي هي طبّقت حرفيا ما كان يردّده ذلك الأحمق برنارد شومتحدّثا عن صلعته: «غزارة في الإنتاج وسوء في التوزيع». كنت أريدها على الأقلّ واحتراما لمن وهبها طواعية هذا الجزء الضئيل والتافه من جسمه - الذي هو أنا - أن تغرس بؤرتها الثورية، كما يفعل أي مزارع يحترم من جهة حقله ومن جهة أخرى نفسه، على مناطق متوازية من الذقن... أي أن أشبه في الحدود الأدنى والمقبولة إمّا تشي غيفارا أوحتّى العم ليون تروتسكي. لكنها البغيضة ظلّت على فوضاها المزمنة خالقة كومونات هنا وهناك دون أيّ فاعلية ثورية، رغم تنديدي المباشر لها أمام العديد من المرايا والصور التي التقطت دون أن أفلح جدّيا في مواراتها بكفّي كما يفعل الكتّاب العظام عندما يريدون أن يخلّدوا وجوههم أمام منصّة التاريخ. «أنا لست بالخادم الجيّد لنفسي» عبارة أردّدها كثيرا، وأغبط أولئك الذين يستطيعون وضع نظام أساسي لمظهرهم الخارجي. أعتقد أنّ لديهم قدرة خارقة على رؤية أنفسهم من الخارج... أو لعلّ لديهم صورة واضحة عن ذواتهم. أنا محروم من هذه النعمة مقابل هذه النقمة الجميلة هي أنّ صورتي عن نفسي مشوّشة وضائعة، أنا في بحث دائم عن مجهولها... وهذا ربّما ما يستحقّ هذه الحكاية.