وأنا أتصفح مذكرات المرحوم عبد اللطيف الفيلالي، الذي تقلد على مدى خمسة عقود عدة مناصب دبلوماسية وحكومية، قبل أن يعين وزيرا أول في عهد الحسن الثاني، استوقفتني هذه الفقرة المثيرة للاستغراب. "أتذكر وأنا على رأس وزارة الخارجية (1971- 1972) أن دعانا عبد العزيز بوتفليقة ذات صباح لوجبة فطور ليقول لي :"إنها مناسبة للحديث عن مشاكلنا الثنائية...لا يعقل ونحن الآن في السبعينات أن تظل إسبانيا تحتل أقاليم الصحراء الغربية. فحتى إفريقيا السوداء تخلصت من مشكلة الاستعمار". طلبت رأيه في الموضوع فأجابني:"يجب التحرك من أجل أن تستقل هذه الأقاليم في أسرع وقت ممكن. يمكن أن تعود للمغرب أو لموريتانيا. ويمكن أيضا أن تستعيدها الجزائر، المهم أن تتخلص من قبضة الاستعمار". وأنا أسمعه يثير الخيار الثالث أجبته :"لم نأت هنا يا عبد العزيز للحديث عن هذا المشكل. ثم إنكم ما فتئتم تصرحون منذ أن كان بن بلة في السلطة بأن فرنسا أعادت لكم بلدكم بكامل حدوده الطبيعية. ولا أرى سببا يدعوكم إلى إثارة المسعى الجزائري في الصحراء". خيار الجزائر فتح شهية الرئيس فرانكو لتقرير مصير الشعب الصحراوي. وفي كلا الموقفين خلفيات جغرافية وسياسية وحسابات مدروسة : فالجزائر تبحث عن نافذة على المحيط الأطلسي، أما بالنسبة لإسبانيا الفرانكوية، فالتراب الصحراوي يوجد قبالة الجزر الجعفرية، وكل هذه المنطقة من موريتانيا إلى طنجة غنية بالأسماك، وبالتالي فإن إبعاد المغرب عن الساحل الصحراوي سيجعل إسبانيا تستفيد بكل حرية من هذه الثروة السمكية. ثم إن اكتشاف مناجم هامة من الفوسفاط بالمنطقة قوى من أطماع إسبانيا التي أرادت استغلال هذه الثروة لصالحها وليس لفائدة 70 ألف من سكانها، كما تزعم. وأمام تلاقي المصالح الجزائرية والإسبانية آنذاك، لم يجد الراحل الحسن الثاني من بد سوى ابتكار حل يعيد له صحراءه، فكانت المسيرة الخضراء التي أربكت إسبانيا وأثارت الضغينة في نفوس القادة الجزائريين اللاهثين وراء بوابة على المحيط الأطلسي. وأنا أستعرض مشكل الصحراء وأطماع الجزائر العلنية في هذا الجزء من التراب المغربي (وهذا ما غفله المؤرخون)، أجدني مثقلا بأسئلة لا يمكنني تفاديها : أي جار هذا رزقنا الله إياه؟ وكيف يمكن لأناس تجمعنا بهم روابط الدين وتعاليم الإسلام أن يتحالفوا ضد واحد من أكثر البلدان دعما لهم في كفاحهم من أجل الاستقلال؟ ولماذا لم تنطق الجزائر وهي التي تتشدق بدفاعها عن الشعوب المستعمرة، بكلمة واحدة بشأن إقليم كاتالونيا الإسباني؟ أسئلة بقدر ما ترهق المغاربة تبدو غير ذات معنى بالنسبة للقادة الجزائريين الذين قد يغيب عنهم أن المغاربة جميعا مطمئنين أشد اطمئنان بأن المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها. وأنا أستعرض كل هذا شرد بي الذهن إلى جمهورية القبائل الاتحادية التي أعلنت مؤخرا عن دستورها وحدودها الجغرافية بباريس على لسان رئيس الحركة من أجل تقرير المصير في منطقة القبائل (ماك)، فرحات مهني، في تطور ملفت لمطالبها الحقوقية والدستورية التي لطالما قاومت من أجلها. ويأتي هذا الإعلان كمبادرة حبلى بمعاني التطلع إلى دولة حرة مستقلة على غرار دولة فلسطين المغتصبة. فكما دولة فلسطين ترزح تحت الاحتلال الإسرائيلي الذي يصنف حركة فتح كمنظمة "إرهابية"، نفس الحالة تعيشها منطقة القبايل تحت القوة الاستعمارية الجزائرية التي صنفت على هواها وبشكل يدعو للسخرية حركة "ماك" كمنظمة "إرهابية"، وليس حركة تحررية تتطلع إلى الاستقلال وتطالب به منذ بداية الألفية الثالثة، لتشكل بذلك شوكة في حلق نظام الكبرانات الجزائري، الذي وظف كل أساليب التخويف والترهيب لإخماد شعلة هذه الحركة المسالمة التي يعود تاريخ تأسيسها بعد أحداث "الربيع الأسود" عام 2001، من قبل الناشط فرحات مهني، وهي حركة تضم عددا من القادة غالبيتهم يعيشون في فرنسا، وتنحصر أهدافها في المطالبة بالحكم الذاتي لمنطقة القبائل بالجزائر. والسؤال الذي يجب طرحه وإعادة طرحه هو لماذا لم تقطع الجزائر علاقتها الدبلوماسية مع فرنسا التي تأوي حكومة القبايل وتوفر لها شروط العمل وعقد التجمعات المسالمة؟، ثم كيف نزل خبر دعوة حركة القبايل لإلقاء كلمة أمام ممثلي اللجنة الدائمة للسكان الأصليين بهيئة الأممالمتحدة بنيويورك، كالصاعقة على البوليساريو قبل الجزائريين من منطلق أن قضيتهم المفتعلة ستكون سببا لمطالبة القبايل هي الأخرى بتقرير المصير، وهو ما قد يربك حكام الجزئر الذين احتضنوا ورعوا الجمهورية المزعومة بسخاء لا حدود الله. والآن وقد اكتست قضية القبايل طابعا دوليا، وتم الإعلان عن ميلاد دستور ينظم حياة شعب مضطهد ومحتل يسعى إلى تقرير مصيره، هل ستضطر الجزائر تحت تأثيرات الوضع الجديد الذي يسير باتجاه تدويل قضية "شعب القبايل"، وتحت ضغوط داخلية ودولية، إلى الكف عن التشدق بما تعتبره حق تقرير مصير الصحراويين الذين يمارسون فعلا هذا الحق في أقاليمهم الجنوبية ومع إخوانهم المغاربة على كامل التراب الوطني؟ . الجزائر تعتبر مطالب القبايل بمثابة بداية مرحلة البلقنة والتقطيع الإثني لجغرافيتها المترامية، فيما لا تنظر إلى جبهة البوليساريو سوى من زاوية أنها مطية نحو بوابة على المحيط الأطلسي، وتتعامل بسخاء مع ما تبقى من دول إفريقية داعمة لها، على حساب أموال الشعب الجزائري الذي لم يعد يتحمل مزيدا من هدر ثرواته وإمكاناته في قضية مفتعلة لا طائل منها. ومن هذا المنطلق، فقد ترغمها تطورات قضية القبايل العادلة إلى مراجعة موقفها إذا أرادت أن تكسب مصداقية حقيقية على الصعيدين الداخلي والدولي.