أفضت نتائج النسخة التاسعة من برنامج «مصالحة» لفائدة المعتقلين على ذمة الارهاب، الى صدور عفو ملكي بمناسبة عيد الفطر بالافراج عن 29 شخصا محكومين في قضايا الإرهاب،«بعد تأكيدهم تشبثهم بثوابت الأمة و نبذهم للتطرف»، بحسب بلاغ لوزارة العدل. المعنيون بالعفو الملكي ، خضغوا لبرنامج فريد عالميا، علىمستوى تدبير الاعتقال المرتبط بالارهاب الديني، جوهره المراجعة العلنية والذاتية للمواقف والتوجهات التي أسست للتطرف والإرهاب وشكلت التسويغ العقدي لهما، وهو برنامج «مصالحة». وتجربة «المصالحة»، قد تبدو امتدادا لعمل المصالحة التي تمت في زمن سابق، بين معتقلين سياسيين وايديولوجيين وحقوقيين، في الفترة السابقة من المغرب السياسي، وبين دولة بلادهم، غير أنها في الحقيقة تختلف اختلافا جذريا عن العمل الذي قامت به «هيئة الانصاف والمصالحة» التي قادها الراحل ادريس بنزكري.. والأسباب لا تكمن في الاختلاف بين التجربتين، اليسارية الديموقراطية من جهة والتجربة السلفية الجهادية من جهة أخرى من حيث المرجع الفكري فقط بل، هو اختلاف في الطبيعة وفي الدرجة، من حيث أن تجربة الإرهاب الجديدة على المجتمع المغربي ، كَفَّرت المجتمع والدولة والمواطنين، واستباحت دمهم، كما أنها استعملت في ذلك وسائل محرمة شرعا ، كالعمليات الانتحارية واستحلال أرواح الناس وأمنهم. والتفرد في التجربة التي نحن بصددها، ، يكمن في كون الدولة المغربية، اختارت، ضمن شبكة الرد المتعددة الأبعاد، أن تقود تجربة ثلاثية الاضلاع للمصالحة داخل التيار السلفي الجهادي، ولِصالحه. ويجدر بالذكر في هذا الباب، أن برنامج «مصالحة» لمكافحة التشدد في السجون انطلق بالاشتراك بين إدارة ادماج السجناء والرابطة المحمدية للعلماء والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، فتم بذلك تجميع عناصر النجاح، من خلال دمج المقاربة الحقوقية،مع المقاربة الدينية ، في عرض إنساني وروحي وعقدي واجتماعي يستفيد منه المُدان في قضية الإرهاب. يتعلق الأمر بالمصالحة مع الذات، التي عادة ما تكون ذاتا رافضة، مهمشة ، قد سجنت نفسها في علاقة خصام جذري مع المحيط، وفي كراهيةِ الذات لِنفسِها والاستعداد للتضحية بها لأجل افكار هدامة وتكفيرية وسلبية ، بل لا دينيةبالمطلق. وهو بعد نفسي وتربوي، ادركت المقاربةالتي عرضتها الدولة على السجين ضرورة استحضاره. وخلاصة ذلك هو تحرير السجين من شياطينه.! ويتماشي ذلك مع بعد المصالحة مع الفهم الصحيح للدين و منع السرديات الدينية المتطرفة التي شكلت وعي المتطرف طيلة مدة انخراطه في مشاريع التدمير، من توجيه تفكيره وسلوكاته وأحكامه على محيطه وبلاده . وهو ما يجعل الدولة هنا، من خلال إمارة المؤمنين ، وعاهلها، تعمل على التصحيح المذهبي، وتقوم بدورها في حماية معتقدات المغاربة، ولو كانوا مدانين بالتطرف، عبر إعادتهم إلى جادة الصواب. وقوة التفرُّد المغربي، تكمن في استناده على تاريخ طويل من التلازم بين إمارة المؤمنين وحماية الأمن الروحي العام من الفتنة والتطرف القاتل! إن المصالحة مع النص الديني، لا تقف عند تصحيح علاقته مع المغرر بهم،، بل تتعداه أيضا الى الخروج من الانغلاق والتحجر ، الذي يعتبره التيار الارهابي ومنظِّروه، عربون ثبات على المبدأ والعقيدة وأصولية حاضنة للمعتقد ! أما البعد الثالث فيتمثل في المصالحة مع المجتمع، الذي كان ضحية ثلاث عمليات إرهابية قاسية، والعديد من المحاولات المجهضة وضحية تفجيرات أودت بأرواح العديد من أبنائه، المجتمع نفسه الذي يعلن مَلكُه عن »العفو« في سياق دينامية عميقة تسير مع المصالحة وطلب الصفح والاقرار بالخطأ من طرف المُعتقَل. انه اعلان نهاية فكرة «الطاغوت»، التي شكلت الاسمنت العقدي المنحرف، من خلال البحث عن «حاكمية» افتراضية، خارج ما توافقت عليه الأمة منذ قرون، حول إمارة المؤمنين وثوابت المغرب، من مذهب ( المالكية ) وعقيدة ( الاشعرية )وتوجه صوفي (الجُنيد)... و بالرغم من أن الاسماء البارزة، مثل أسماء محمد رفيقي ( الملقب أبو حفص) و أربعة من أبرز شيوخ السلفية، من الذين انخرطوا في العمل السياسي القانوني أو أنشأوا منظمات غير حكومية أو سارعوا إلى العمل الجمعوي والاعلامي » الحداثي«، هي التي حظيت بالمتابعة والتتتبع من طرف الاعلام ، فإن الاستفاة شملت عشرات المعتقلين السابقين، الذين بلغ عددهم 222 مستفيداً! كما أن المندوب العام لإدارة السجون وإعادة الإدماج صالح التامك لم تفته في وقت سابق الإشارة إلى «مقاربة النوع» في برنامج المصلحة، حيث أفصح عن توسيع البرنامج ليشمل النساء المعتقلات بموجب قانون مكافحة الإرهاب خلال دورته الخامسة المنظمة سنة 2019، حيث استفادت منه 10 نزيلات من أصل 13 ... هذه المراجعات الفكرية التي تعززها في الغالب مطالب بالاستفادة من العفو الملكي تتم بشكل إرادي وعفوي،( أكثر من 300 سجين جهادي تقدموا بطلبات للمشاركة في المراحل الاخيرة ) يستوجب تعبير المعتقل عن رغبته في الاستفادة من البرنامج واستعداده للانخراط في روحه ونتيجته النهائية، وهي الاعلان عن القطيعة مع ماضيه. ومن أهداف هذه المراجعات ، منع تَحوُّل السجون إلى مشاتل ومصانع لتخريج المتطرفين، عبر أنسنتها وتحويلها إلى جسر للعودة الى المجتمع ..بعد إدراك السجناء لخطورة خطاياهم. وتجربة «مصالحة » المغربية بالرغم من أصالتها فهي ذات أفق دولي، من خلال دعم برنامج الاممالمتحدة للتنمية لها منذ 2017 ، ودعم خطتها لتفكيك خطاب التطرف ومحاربته، وتعزيز التسامح وفرص الاندماج .. ومن خلال اعتمادها على مبدأ «تكريس البعد الحقوقي والقانوني، حيث يتم تأهيل السجناء على مستوى فهم واستيعاب وقبول الإطار القانوني المنظم لعلاقة الأفراد بالمجتمع وبالدولة وبضوابط النص القانوني، انطلاقا من معادلة الحقوق و الواجبات».،كما توقل أدبيات إدارة السجون. وتكتمل الصورة، في تقييم هذه التجربة ، عندما نضع اطارها العام الذي يشتغل المغرب ضمنه أي إطار يعتمد المقاربة الأمنية الاستباقية، التي تجنب البلاد آثار الضربات قبل وقوعها وتضمن «تحييد» الخلايا الإرهابية وتحجيم تأثير المناخات المساعدة، شرقا وغرب وجنوبا، «داعشية» كانت أو «قاعدية»، على خلق تربة خصبة للتغلغل في البلاد. كما رافقها مجهود استرتيجي شامل في الحقل الديني ، عبر إطلاق ملك البلاد وأمير المؤمنين لدينامية إصلاحية واسعة لهذا الحقل بِضبطٍ واسع للأداء الديني ولسرديات التطرف في الحقلين العام والخاص ، مع متابعة بَعْدِية بواسطة المقاربة التنموية الادماجية التي تهم المعيش اليومي للعناصر المستفيدة من المصالحة، بعد مغادرتها المعتقل. الواضح أن المقاربة المتكاملة، الامنية الاستباقية، والروحية الدينية، والاقتصادية التنموية ، والسيو-نفسية، التي اعتمدها المغرب تتحرك بشكل متزامن ومتواز، ولا تكل ولا تتراخى مما يحصن البلاد من أي اختراق أو تغلغل في تربتها، ويقدم المغرب كتجربة فريدة في مكافحة الارهاب دوليا يجعل نموذجه قابلا للاستلهام والقراءة، إنْ لم نقل قابلا للتصدير والتعميم..