أكدت للجنة الاستشارية لحقوق الإنسان في فرنسا في تقريرها السنوي الذي نشرته وسائل الإعلام أول أمس أن الإسلام يبقى "خطرا على هوية فرنسا" بالنسبة ل51 بالمائة من الفرنسيين، وتظل الجالية المسلمة التي يفوق عددها الستة ملايين نسمة، الأقل تقبلا لدى الفرنسيين، حسب التقرير الذي خلص إلى أن نصف الكثافة السكانية الفرنسية تعتبر نفسها "غير عنصريةعلى الإطلاق"، بعدما كانت هذه النسبة أقل من ذلك في السنوات الماضية. ولاحظ التقرير أن الفرنسيين أكثر تسامحا وتقبلا لثقافات الآخر رغم الهجمات الإرهابية التي تشهدها البلاد بين الفينة والأخرى، والمناخ الاجتماعي المشحون الذي تميزه البطالة المتأصلة وكذلك أزمة المهاجرين التي أغرقت أوروبا في الفوضى، فضلا عن تحسن بورصة اليمين المتطرف ممثلا في "التجمع الوطني" في الاستحقاقات الانتخابية بعدما أصبحت القوة المعارضة الأولى في البلاد مقابل تراجع شعبية يمين الوسط والأحزاب الاشتراكية. وقد انكبت اللجنة منذ بداية التسعينات على دراسة نسبة التسامح وتقبل الغير والانفتاح عليه من خلال معايير متعددة حصرتها فيطرح 70 سلسلة من الأسئلة. وفيما تكلف معهد "إيبسوس" الفرنسي بإنجاز هذا التقرير في الفترة ما بين 27 مارس و11 أبريل 2022 وشمل عينة تضم 1020 شخصا، تكلف أربعة من كبار الباحثين الفرنسيين بدراسة نتائجه وتحليلها. ولم يأخذ التقرير بعين الاعتبار سوى الشكايات المسجلة لدى السلطات المسئولة والتي أثبتت أن الأعمال المرتبطة بمعاداة السامية سجلت تراجعا طفيفا ب 6،1 %لكنها تبقى الأعلى، فيماتجاوزت الأعمال العنصرية الأخرى نسبة 18،5%. كما أن 11بالمئة من الفرنسيين يعتبرون أن هناك "أجناس بشرية" أرقى من أخرى. وكانت فرنسا أطلقت في شهر فبراير الماضي حملة واسعة ضد العنصرية من خلال إعلانات صادمة بثتها في وسائل الإعلام وشهدت إقبالا على مواقع التواصل الاجتماعي، تضمنت صورا من اعتداءات لفظية وجسدية مستوحاة من الواقع، تعرض لها الكثير من المسلمين واليهود والسود، بدأت جميعها بكلمات نابية، لتنتهي بالبصاق والضرب والدم. ويأتي التقرير في ظل أجواء سياسية تتسم بالتوتر جراء سوء فهم الكثيرين للدين الإسلامي، حيث أضحى الإسلام في وعي المجتمعات الغربية منذ أحداث شتنبر 2001 قرينا للعنف، وأصبح المسلمون عنوانا للتعصب والتشدد. وجاء التقرير لإسقاط هذه الانطباعات السلبية، وتقديم صورة موضوعية عن الإسلام لدائرة واسعة من الجمهور الفرنسي والغربي بشكل عام، وتعريفه بالإرث الحضاري للمسلمين وابتكاراتهم الفنية والعلمية، فضلا عن إبراز غناء تجربتهم التاريخية، وما تميزت به من روح التعدد والتسامح إزاء مختلف الأجناس والطوائف والأديان. وقد حرص التقرير رغم بعض السلبيات التي تضمنها بخصوص الجالية الإسلامية، على تقديم رؤية موضوعية لمجمل المشاكل الراهنة التي تواجه المجتمعات الإسلامية في علاقتها مع الغرب، وذلك بعيدا عن القراءات الاختزالية والسطحية على نحو ما هو شائع في دوائر السياسة والإعلام. وما يصدم المسلمين في الواقع الديني الاغترابي أن كلمة "عربي" في ثقافة عامة الفرنسيين وحتى لدى بعض الفئات المحسوبة على النخب المثقفة، تعني "إسلامي" ثم "إرهابي" بمعنى أن العرب يختزلون صفتين في واحدة : (مسلمون إرهابيون).. أمثلة كثيرة تكرس هذا الواقع سواء في الشارع حيث نظرات الاحتراس والشكوك تطارد المحجبات المسلمات، أو في المؤسسات حيث إقصاء هذا الاسم في الكثير من الحالات من قاموس التوظيفات، أو حتى في زيارتك لبعض المواقع الإلكترونية بحثا عن موضوعات مرتبطة بكلمة "إسلام"، فلا تجد سوى الإرهاب والتطرف. هكذا يتلخص وضع الإسلام اليوم في فرنسا، فالمسلمون لا يشتكون من مؤامرات تحاك ضدهم في دهاليز السلطة لطردهم أوقمعهم بقدر ما يعانون من الاتهامات الدائمة المعتمدة على خلفيات قد لا تكون لها علاقة بالواقع الفرنسي أساسا. ويأتي الإعلام الفرنسي بمختلف قنواته واتجاهاته ليجعل من الإسلام والمسلمين مادة خصبة ورصيدا يتغذى منه ليكرس هذا الواقع الناقم على الإسلام والمسلمين، في غياب شبه تام لإعلام إسلامي في فرنسا يدافع عن تميز الإسلام واعتداله. ومسئولية الدولة والأحزاب والمنظمات المناهضة للعنصرية بفرنسا في التصدي لظاهرة معاداة الإسلام التي بدأت بالحجاب وأصبحت تأخذ أبعادا قد يصعب احتواؤها فيما بعد، تقتضي صياغة رؤية شمولية لما يجب اتخاذه من إجراءات ملموسة مثل سن قوانين ضد معاداة الإسلام كما هو الشأن بالنسبة لقانون معاداة السامية المعمول به في فرنسا. فاقتلاع مظاهر العنصرية وكراهية الإسلام، لن يتم بالتأكيد من خلال انتقاد النخب السياسية، وفي مقدمتها رئيس الدولة، لذبائح عيد الأضحى وتعدد الزوجات وارتداء الحجاب وغير ذلك من العادات والتقاليد الإسلامية، بل من خلال تفهم هذه التقاليد واستيعاب دلالاتها الروحية لدى المسلمين دون تخوف من أي مد إسلامي أو أي ضرر قد يلحق بالعلمانية.