على مر التاريخ لم تكن الأوبئة حكرا على زمن أو جغرافيا محددة، وإنما تصاحب البشر في مختلف العصور والأزمنة، وفي ظل هذا الجو الذي يخيم فيه وباء كورونا على العالم ومعه المغرب، ارتأينا السفر عبر الذاكرة والوقوف على جوائح وأوبئة واجهت أسلافنا وخلفت خرابا ونزيفا بشريا ترك ندوبا عميقة في الذاكرة المغربية، يعكسها الخوف والتوجس وقسوة الموت الذي أعقب سنوات الطاعون والكوليرا، والجذام والجذري والتيفويد والقحط والجراد. وتحتضن الخزانة المغربية متونا عديدة ومتنوعة، صاغها إخباريون ومؤرخون قدامى ودراسات باحثين معاصرين إضافة إلى أبحاث أوروبيين عايشوا محطات مؤلمة ومأساوية من تاريخ المغرب، سنحاول الترشد بها لنطل عليكم في هذه النافذة الرمضانية التي سترصد الجوائح التي ضربت المملكة واكتوى بها المغاربة. “عام البون”.. عندما تصدى المغاربة بحزم وشجاعة للجوع تصدى المغاربة بحزم وشجاعة شديدين لعام “البون”، الذي بدأت أولى تجلياته منذ دخول الاستعمار سنة 1912 عبر فرض نظام جديد ضيق على أحوال معيشة المغاربة وسن أنماطا حياتية واقتصادية لم يعهدها المغرب قط، لينفجر الوضع سنة 1944 وهي السنة التي تعرف عند المغاربة بعام “البون”. حسب ما أجمعت عليه معظم الكتابات التي تناولت تلك الفترة بالدارسة. وسمي أيضا بعام “التيفوس”، هاته التسمية وردت في كتاب “إتحاف المطالع” لعبد السلام بن سودة، وهذه الكلمة هي ما يصطلح عليه بحمى التيفويد التي اكتسحت البلاد سنة 1945، حيث بلغ عدد من أصيب بها في المدن حسب تقرير إدارة الصحة العمومية 26290 شخصا. وتجدر الإشارة إلى أنه أطلقت على تلك الفترة الزمنية تسميات متعددة، عمل المغاربة من خلالها على تحقيب الزمن بمسميات تختلف من مكان لآخر، فسمي كذلك “بعام خزو، وعام كرنينة، وعام حميضة، وعام حرودة، وعام لحفا ولعرا…”. في سنة 1944 انخرطت فرنسا في الحرب العالمية الثانية وأجبرت المغرب على الانخراط بدوره في هذه الحرب، تم ذلك عن طريق تجنيد مئات “الأهليين” وتوجيه موارد الاقتصاد المغربي لسد نفقات الحرب الفرنسية. اضطر المغاربة، إلى التسول وأكل خشاش الأرض والأعشاب البرية لسد جوعهم بينما فرضت السلطات الاستعمارية نظاما اقتصاديا جديدا لتجاوز هذه الأزمة الغذائية التي كادت تعصف بسكان المغرب الأولين، واستطاع المغاربة بتضامنهم المعهود تجاوز الوضع والتصدي للجائحة. هذا النظام تجلى في فرض استعمال أوراق الإذن لشراء بعض المواد، هذا الوصل عرف عند المغاربة ب”البون” ومنه جاءت تسمية هذه السنة الكالحة في تاريخ المغرب ب”عام البون”. وأدت مجاعة عام “البون” حسب تقرير إدارة الصحة العمومية التابعة لسلطات الاستعمار إلى وفاة 49.986 شخصا أغلبهم من الأطفال. وكلمة “البون” في الدارجة المغربية يقصد بها “وصل”، حيث أخذت الكلمة على غرار العديد من كلمات الدارجة المغربية من الكلمة الفرنسية “BON” أو “BON POUR”، والتي تعني باللغة العربية “ورقة لأجل”. وقد أخذ المغاربة هاته الكلمة من صيغتها الفرنسية ووظفوها في الدارجة المغربية فتم نطقها ب“البون” بإضافة “ال”. كان الطحين المقدم في شكل مساعدات من الولاياتالمتحدةالأمريكية، والتي انخرطت في الحرب العالمية إلى جانب فرنسا هو المادة الأساسية التي حصل عليها المغاربة مقابل “البون”، وبالتالي فقد كان هذا العام هو بداية استعمال المغاربة للطحين “الفارينا” في تغذيتهم إلى اليوم، لم يقتصر أثر هذه النكبة الغذائية على أهل الحضر، بل طالت سكان البوادي الذين سموا سنة 1944 بعام “بونتاف” والسبب هو بوار الفلاحة بسبب الجفاف.