الذين يتحدثون عن “نصف الحقيقة” في تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان حول أحداث الحسيمة، إما أنهم يتحدثون بالوكالة نيابة عن عبد العالي حامي الدين الذي انزوى إلى الخلف في الآونة الأخيرة، بسبب شبهة “القتل الجامعي” التي لازالت تمسك بتلابيب ثيابه، أو أنهم يرددون في العلن استيهاماته المبطنة حول تلك الأحداث، والتي كان قد صاغها في بيانات منتدى الكرامة لحقوق الإنسان التي تواترت عقب الوفاة المؤسفة لمحسن فكري. فرغم أن تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان خلص إلى نفس المخرجات التي أكدها في وقت سابق تقرير مماثل للمندوب الوزاري لحقوق الإنسان، وأقرتها أيضا الأحكام القضائية الابتدائية والاستئنافية التي صدرت في أعقاب أحداث الحسيمة، وصارت لها قانونا حجية الشيء المقضي به، إلا أن جريدة (أخبار اليوم)، أو من يدعي النبرة الحقوقية وراء ستارها، يكادان يجزمان بأن الحقيقة لا يمكن أن تكون كاملة غير منقوصة إلا إذا سيق برجال ونساء القوة العمومية زُمرا إلى القفص الزجاجي المخصص للمتهمين! وحتى لو تم تحميل الحكومة بعضا من المسؤولية في تلك الأحداث، فإن تقرير مجلس أمينة بوعياش سيبقى عنوانا للحقيقة وليس الحقيقة، لأن هناك من يصر على أن اكتمال النصف المغيب من الحقيقة لن يتحقق إلا إذا ادعى المجلس الوطني لحقوق الإنسان بأن قوات حفظ النظام هي من أضرمت النار عمدا في بناياتها بمنطقة إمزورن وتسببت في اختناق واحتراق 93 من أفرادها، كما زعم ذلك أحمد الزفزافي في وقت سابق بدون خجل! أو أن يدعي المجلس مثلا، وبشكل سريالي، بأن الحقيقة القطعية هي أن المسجد هو من اعترض مسار ناصر الزفزافي في الشارع العام، وأن الخطيب والمؤذن والمأموم ربما شكلوا اتفاقا إجراميا لأغراض المس وزعزعة عقيدة هذا المصلي الورع. إن الحقيقة لا تقبل التشطير ولا التجزيء، كما أنها لا تخضع لمقاييس الجرأة أو المكاشفة، بقدر ما هي انعكاس لواقع مجرد وملموس، مؤداه أن أكثر من 80 بالمائة من البروباغندا التي واكبت أحداث الحسيمة كانت تصدح بها صفحات فايسبوكية آتية من خارج المغرب. و”الحقيقة” التي تشكّلت لدى (أخبار اليوم) هي ربما ناجمة عن تراكمات الكذب والتضليل التي نقلتها تلك الصفحات المجهولة، وبالتالي فنحن أمام حقيقة مخدومة ومؤدلجة لا يمكن الاعتداد بها أو حتى بنصفها. فالجريدة التي لازالت تُسدل على المتجمهرين وصف “المتظاهرين”، رغم أحكام ومقررات القضاء التي وسمتهم بالطابع الجنائي، ورغم تقارير المجلس الوطني لحقوق الإنسان الذي نزع عنهم الطابع الشرعي والمشروع بسبب التجاوزات القانونية المرتكبة، إما أنها جريدة تحاول تبرئة المشاركين في تلك التجمهرات العنيفة أمام الرأي العام، أو أنها تمعن في تبييض سجلهم الإعلامي، أو أنها بكل بساطة لا تتملك “إيتيمولوجيا” المفردات القانونية ولا تستوعب مدلولاتها الاصطلاحية. فالمتظاهر في نظر القانون المغربي وسائر القوانين المقارنة، لم يكن يوما يحمل وشاحا يحجب معطياته التشخيصية، ولا شخصا يمعن في تخريب وتعييب سيارات وممتلكات الدولة، التي هي ملك للجميع، ولا جانحا يتفنن في استهداف رؤوس نساء ورجال القوة العمومية بالحجارة الندية، كأنه يصطاد أبناء الحجل في المراعي البرية، وإنما المتظاهر هو شخص يشارك في شكل احتجاجي مصرح به للسلطات العمومية، ومحددة مساراته التي لا تشكل خطرا على الأمن العمومي، من أجل تحقيق مطالب مشروعة، أما من يتولى “رجم” قوات حفظ النظام، فهو كل شيء غير مشروع قانونا إلا أن يكون متظاهرا. لكن للأسف الشديد، فالذين اجتمعوا في وقت سابق على مهاجمة المندوب الوزاري لحقوق الإنسان عندما رمى بالحقيقة ككرة لهيب مشتعلة في ملعب المزايدين على أحداث الحسيمة، هم نفسهم الذين انبروا اليوم يجزؤون مخرجات وخلاصات تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان، فتراهم يتحدثون عن أنصاف الحقيقة حسب نزوع النفس وإملاءاتها. والفرق ليس كبيرا بين أصحاب هذا التوجه وبين مسيري تلك الصفحات الفايسبوكية الأجنبية التي أرست دعائم البروباغندا العدمية والتصعيدية حول أحداث الحسيمة، كما أن البوْن بينهم ليس شاسعا مثلما يعتقد الرأي العام. فكلاهما يرى بأن الحقيقة لا تكتمل إلا بتحميل المسؤولية كاملة للدولة ولمؤسساتها الأمنية، وأن كل من يصدح بخلاف ذلك، أو يزعم بنقيض هذا الطرح، فهو إما أنه يقول نصف الحقيقة أو أنهم من قبيلة “العياشة” و “عملاء المخزن” .. وكأننا أصبحنا عملاء في بلادنا ومع مؤسساتنا الوطنية.