عديدة هي الشخصيات التي بصمت على مسار متميز في حياتها المهنية والخاصة، ونجحت في تقديم أعمال رائدة أو تحقيق إنجازات مهمة، نقلتها إلى عالم الشهرة وأدخلتها في قلوب الناس جيلا بعد جيل. وخلال هذه السلسلة الرمضانية، سيغوص “برلمان.كوم” بقرائه في عالم شخصيات طبعت تاريخ المغرب المعاصر في مجالات متعددة، الفن والرياضة والفكر والسياسة والعمل الاجتماعي، بالإضافة إلى المال والأعمال. “برلمان.كوم” وليقربكم أكثر منها، ارتأى تقديم نبذة عن تلك الشخصيات مسلطا الضوء على حياتها وأهم أعمالها، والأحداث التي أدخلتها سجل التاريخ المغربي المعاصر من بابه الواسع. في هذه الحلقة، سنقدم نبذة عن حياة الزعيم السياسي لحزب “الاستقلال”، والوطني الصادق والحكيم الذي يعد أحد أبرز قيادات تحالف الكتلة الديموقراطية التي تزعمت المطالبة بالإصلاح والديموقراطية مطلع تسعينيات القرن الماضي في المغرب. المولد والنشأة ولد محمد بوستة بمدينة مراكش سنة 1925، في وقت كان فيه المغرب يرزح تحت الحماية الفرنسية. المسار الدراسي تابع تعليمه الابتدائي والثانوي بمدينة مراكش عاصمة يوسف بن تاشفين، وأكمل دراسته الجامعية بالديار الفرنسية في جامعة السوربون الباريسية، في تخصص القانون والفلسفة. الوظائف والمسؤوليات بعد أن أنهى بوستة دراساته الجامعية، عاد إلى المغرب وفتح مكتبا للمحاماة بمدينة الدارالبيضاء سنة 1950، وأصبح في ما بعد نقيبا للمحامين، وتخرج من مكتبه محامون مشهورون، منهم رئيس الوزراء السابق عباس الفاسي. منذ فجر الاستقلال شغل الراحل مناصب مختلفة، فقد عمل وكيلا في الشؤون الخارجية في عهد حكومة أحمد بلفريج سنة 1958، وعين وزيرا للوظيفة العمومية والإصلاح الإداري سنة 1961. بعد ذلك شغل بوستة منصب وزير الخارجية في حكومة أحمد عصمان، غير أنه سرعان ما قدم استقالته منها إلى جانب علال الفاسي ومحمد الدويري سنة 1963. وعاد مرة أخرى ليتقلد منصب وزير الخارجية في الفترة 1977-1983. وفي العهد الجديد عينه الملك محمد السادس رئيسا للجنة الملكية لإصلاح مدونة الأسرة. المسار السياسي وهو لايزال تلميذا في سن الطفولة، انخرط بوستة مبكرا في العمل الوطني، وأهلته تجربته في ذلك ليكون من بين المؤسسين لحزب الاستقلال، وينتخب عضوا بمكتبه التنفيذي منذ سنة 1963. وعلى إثر وفاة علال الفاسي الزعيم التاريخي لحزب الاستقلال سنة 1972، قرر المؤتمر التاسع للحزب إعادة العمل بمنصب الأمانة العامة، وتمَّ انتخاب محمد بوستة بالإجماع أمينا عاما للحزب، وبقي كذلك حتى المؤتمر 13 في فبراير من سنة 1998 حيث رفض أن يستمر في قيادة الحزب ليخلفه عباس الفاسي. برز اسمه للمرة الأولى ضمن التشكيلة الحكومية لأحمد بلفريج عام 1958 كوكيل في الشؤون الخارجية، وشارك محاميا في أغلب المحاكمات السياسية التي عرفها المغرب إبان فترة الصراع بين القصر والمعارضة، وآمن دوما بأن إطفاء الحرائق يسبق البحث عمن أوقدها. جاب أغلب دول العالم لشرح تطورات ملف الصحراء، ولحشد الدعم للقضية التي شغلته، وطرح تأسيس مجلس استشاري موحد بين المغرب والجزائر وتونس لتقوية العلاقات بين هذه البلدان. عرف بمواجهته الصارمة لإدريس البصري، وزير الداخلية، أيام الملك الراحل الحسن الثاني، خاصة أيام اشتداد الأزمة بين المعارضة والحكومة. استدعاه الملك الراحل الحسن الثاني لمّا حاول فتح الباب لتجربة التناوب، بعد حديثه عن تهديد سكتة قلبية للمغرب، وعرض عليه تشكيل الحكومة لكنه رفض بسبب تدخل إدريس البصري في “إفساد الحياة السياسية وتزوير الانتخابات”، وانتقد تغول وزارة الداخلية وتحولها إلى “أم الوزارات”. أسهم في فك هيمنة السياسيين المنحدرين من أصول فاسية على قيادة الحزب (اللجنة التنفيذية)، وأدخل لها لأول مرة شخصيات من مراكش وغيرها. عينه الملك محمد السادس رئيسا للجنة الملكية الاستشارية المكلفة بمراجعة قانون الأحوال الشخصية، بعد جدل كبير بين “المحافظين” و”الحداثيين”، بسبب مشروع حكومي سمي “الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية”، وانقسم حولها المجتمع المغربي، وهي اللجنة التي انبثقت عنها “مدونة الأسرة”. دعا بوستة في 11 يناير 2004 الشباب المغربي لاستلهام روح وثيقة المطالبة بالاستقلال لاستكمال تحرير باقي الأجزاء المغتصبة من التراب المغربي، ودعا كذلك لوقف مسلسل المفاوضات مع جبهة البوليساريو بخصوص نزاع الصحراء المغربية وطالب بتنزيل المشروع المغربي القاضي بتطبيق الحكم الذاتي في الصحراء. استمر على رأس حزب الاستقلال عشرين سنة، وكان له تأثير عليه من خلال عضويته في مجلس الرئاسة (الحكماء). وكان آخر ما قام به الراحل في حياته السياسية، قبل أن تسوء حالته الصحية، ويدخل المستشفى العسكري بالرباط، تزعمه أواخر 2016 الدعوة إلى استقالة الأمين العام لحزب الاستقلال حميد شباط، بسبب تصريحات للأخير قال فيها إن موريتانيا تاريخيا أرض مغربية. وتضمن البيان الذي أصدره بوستة مع الأمين العام السابق لحزب الاستقلال عباس الفاسي وآخرين "نجزم ونعلن أن السيد حميد شباط أثبت أنه غير مؤهل ولا قادر على مواصلة تحمل مسؤولية الأمانة العامة لحزب الاستقلال". الجوائز والأوسمة تسلم محمد بوستة عام 2003 من الملك محمد السادس وسام العرش، وحصل في 16 فبراير 2012 على وسام “نجمة القدس” من السلطة الفلسطينية تقديرا لدوره في نصرة القضية الفلسطينية. الوفاة فارق محمد بوستة الحياة الدنيا إلى دار البقاء يوم الجمعة 17 فبراير 2017 عن سن ناهز 92 عاما، مخلفا وراءه رصيدا فكريا وسياسيا حافلا بالمنجزات، وسيتذكره المغاربة دائما باعتباره رجلا من رجالات عصره الذي بنى مجده بالوطنية الصادقة ونضالاته المشهود بها من أجل الحرية والكرامة والتعادلية.