هي ملاذ لكل باحث عن الهدوء والسكينة، تطل على المحيط الأطلسي وتحظى بمناخ يبعث على الاسترخاء حد النخاع، مبانيها نصفها اتخذت زرقة السماء في يوم صاف، ونصفها الآخر اكتست بالأبيض الناصع بياض الثلج، أما جدارياتها ففي كل موسم صيف تُزين برسوم فنانين تشكيليين من مختلف المدارس والأجيال والجنسيات، وكل من يزورها يغرم بجمالها ويقع في حب تضاريسها وأزقتها وأسوارها التي تشهد على تاريخ ضارب في القدم. قد يذهب تفكير الكثيرين، لتشابه المدينتين، إلى مدينة الصويرة الواقعة في جنوب المغرب، إلا أن الحديث اليوم عن مدينة أصيلة الواقعة بشمال المملكة، تحديدا بجنوب مدينة طنجة على بعد حوالي 46 كيلو مترا، هذه المدينة ضرب تاريخها في عمق الفينيقيين والرومانيين لأزيد من ألفي سنة، إذ يقول المؤرخون إنها استقبلت أفواجا من الفينيقيين والقرطاجيين، قبل أن تعيش تاريخا رومانيا باسم “زيليس” وهو الاسم الذي يرجح اشتقاق الاسم الحالي منه. ومدينة أصيلة الصغيرة عرفت على مدى 40 سنة على أنها مدينة الثقافة والفنون، حيث ارتبطت شهرتها بموسمها الثقافي الصيفي الذي ازدان مع نهاية سبعينيات القرن الماضي، والذي يقام في شهر يونيو من كل عام، هذه التظاهرة الثقافية جعلت من المدينة محجا لشخصيات فكرية وصناع قرار من دول مختلفة يفتنهم بعدها الثقافي وطبيعتها الساحلية وعمرانها الأنيق والبسيط، حيث يعاد عند حلول الموسم عمليات تلوين جدران المنازل و الأزقة فيها باللون الأبيض والأزرق ليتسنى لها الاحتفاظ بألوانها الزاهية. تعاقب على المدينة حملات استعمارية عديدة، فحط بها النورمانديون القادمون من صقلية من أجل مراقبة الحركة التجارية على المحيط الأطلسي، واستعمرتها البرتغال التي كانت بمثابة قوة بحرية في القرن ال15، أما في عهد الاستعمار، فقد عاشت المدينة تحت النفوذ الإسباني بحيث كان الإسبان يستعمرون الشمال والفرنسيين يستعمرون وسط المغرب فيما الجنوب كانت من نصيب المستعمرتين معا. وخلال هذه المرحلة، تمكن القائد الريسوني الثائر في وجه المستعمر، من اتخاذ المدينة مركزا للسلطة خاض فيها جولات من الصراع مع الإسبان، واستطاع بسط هيمنته على مناطق واسعة بمنطقة جبالة بشمال المغرب . وتطلق على المدينة التي يعد الأمازيغ السكان الأولون بها، أسماء مختلفة منها اسم أزيلة الذي أطلقه عليها الملك الأمازيغي بطليموس، أما اليونان والفينيقيين فقد أطلقوا عليها اسم زيليس أو زيلي، في حين سماها الإسبان أرزيلا، إلى أن أطلق العرب المغاربة عليها إسم أصيلة، وتقول إحدى الروايات أن كل هذه الاشتقاقات قد تعود إلى اسم أزيلا الذي يعني الجمال باللغة الأمازيغية. ويقارب تعداد ساكنة أصيلة التي يعود تاريخ إنشائها إلى عام 1500 قبل الميلاد، إلى 32 ألف نسمة، وفق آخر إحصائيات رسمية، وتزخر بمعالم تاريخية وعمرانية كثيرة، تعزز هويتها كمركز ثقافي، ومن بين أهم المعلمات التاريخية برج “القمرة”، وهو مركز مراقبة يطل على المحيط الأطلسي ، وقيل أن ملك البرتغال دون سيباستيان انطلق منه لخوض معركة وادي المخازن، حيث هزمت جيوشه على يد الملك السعدي أحمد المنصور. وفي أقصى زاوية للمدينة القديمة المطلة على البحر، يسمو قصر الريسوني بفخامته، نسبة إلى القائد الريسوني الذي بناه بداية القرن 20، والذي أصبح مكانا تقام فيه تضاهرات ثقافية وفنية كما يقيم فيه أبرز ضيوف وشخصيات منتدى أصيلة للثقافة طول فترة المهرجان، ومؤخرا فقد عرفت المدينة بناء وتشييد مجموعة من الحدائق التي حملت أسماء كتاب عرب وأفارقة كحديقة تشيكايا أوتامسي ومحمود درويش والطيب صالح ومحمد عابد الجابري وغيرهم من الكتاب و الأدباء. ويمكن الدخول إلى أحياء المدينة القديمة التي تعتبر فضاءً ساحرا بدروبها الضيقة وأزقتها الأنيقة وأبوابها ونوافذها المتلفعّة بزرقة مُشعة واخضرار براق، عبر ثلاثة أبواب هي باب القصبة وباب البحر وباب الحومر، وتوجد بداخلها قيسارية لمنتجات الصناعة التقليدية، وساحة ” القمرة ” التي تقام بها سهرات الهواء الطلق خلال الموسم الثقافي للمدينة، وساحة أخرى تشرف على البحر يسميها الأهالي ساحة ” الطيقان ” تؤدي إلى برج” القريقية ” الشهير الذي يطل على المحيط، والذي يمكن من خلاله الاستمتاع بغروب الشمس ومشاهدة ميناء المدينة. وتتمتع المدينة بشريط ساحلي بطول 17.2 كيلومتر، لكن تطغى عليه الشواطئ الصخرية والتي تمثل مصايد ممتازة لعشاق الصيد بالصنارة كما تتوفر على شواطئ رملية جميلة كشاطئ سيدي مغايث – العوينة – سيدي أحمد الزواق – پاراديس وكهف الحمام. كما تتواجد على طول الساحل عدة صخور تمثل مناطق مهمة لتعشيش الطيور البحرية في مقدمتها طيور النورس.