هنا باريسفرنسا، عاصمة الفن والشعر و العشق والجمال والعطور الفواحة؛ هنا باريس عاصمة الأنوار عاصمة وجوه الحداثة فيكتور هيغو و موليير ومونتيسكيو وجون جاك روسو وميشيل فوكو؛ هنا باريس عاصمة “السترات الصفراء” والاحتجاجات العنيفة؛ هنا العنف حيث لا يوجد لا سيد قطب ولا ابن تيمية ولا طالبان الذين حطموا تماثيل تاريخية؛ هنا لا إخوان مسلمون، هذه الوجوه التي يمكن أن تكون سندا فكريا لحالات نفسية عنيفة، تلصق لها كل أنواع العبث بالجمال؛ هنا باريس حيث يقتل الإبداع وتدمر آثار الحضارة والتمدن.. هنا فرنسا، إحدى وجوه الحداثة الغربية، التي قدست العقل وجعلته مصدر كل بناء وتصور للدولة والمواطنة. غير أننا ونحن في حضرة الحداثة لا ينبغي أن نتناسى أن هذه الحداثة نفسها هي من أحلت سفك الدماء واستبعاد الناس والقتل مع عمليات الإمبريالية والحروب العالمية الكبرى، وهي نفسها من يتاجر رموزها اليوم بالدم مقابل صفقات السلاح والطاقة. في مشهد أشبه بفيلم سينمائي هوليودي للزومبي zambies، شاهد العالم انتشارا مخيفا وزحفا عنيفا رهيبا على معالم باريس التاريخية، على مرأى ومسمع من ذلك الجندي المجهول، رمز التضحية والدفاع عن القيم، ورمز معاناة ملايين البشر، تحت بهاء قوس النصر الباريسي في شارع الاليزيه معبد الجمال والرقة واللطف، زحفا من أبناء فرنسا ضد فرنسا وضد رموز حضارتهم وتاريخ جمهوريتهم الثورية العريقة. ونحن نشاهد كل ذلك الكم من العنف والمواجاهات الصدامية، التي تحولت إلى انتقام من فرنسا، ومن صناع الجمال والثروة، تتبادر إلى أذهاننا أسئلة جوهرية ومركزية. ما هي المرجعية القيمية لكل هذه الكراهية ولماذا كل هذا العنف؟ هل فشل النموذج الغربي الفرنسي في استيعاب حركة الإنسان عندما اهتم كثيرا بالرفاه على حساب القيم؟ من أين جاء كل هذا الحقد الدفين على كل معالم مدنية وحضارة فرنسا؟ هل أفلس التعليم والإعلام في التأطير والتكوين على المواطنة وعلى السلمية في الاحتجاج؟. أسئلة تحتاج إلى عقول الفلاسفة وعلماء الاجتماع لمقاربتها وإعطاء التفسيرات الضرورية حولها. غير أن ما يهمنا هو دور المرجعيات القيمية الأخلاقية التي يساهم الدين والثقافة والتاريخ والسياسة والايديولوجيا والقبيلة في صناعة السلوك الفردي والجماعي داخل الدولة والمجتمع. عناصر تتوفر عندنا كضابطة للسلوك ومؤطرة للغضب الذي قد يزج بالفرد إلى إنتاج العنف. عندما يحافظ المغرب مثلا على دور الدين في الحياة العامة، عن طريق تدعيم رمزية وجوده بمختلف الوسائل الإعلامية كالقنوات التلفزية والمؤسساتية كمجالس العلماء وغيرها، فإن المغاربة يعون جيدا أن لا يوجد فكر أو مذهب بإمكانه ضبط وتهذيب السلوك أكثر من القيم الدينية المتسامحة. مقارنة بسيطة بين الاحتجاجات في فرنسا وفي المغرب أو في تونس أو في مصر، نرصد فيها حجم “الهم” العميق الذي حمله المحتجون لصيانة الشيء العمومي والممتلكات الخاصة. نرصد حرصا شديدا على الحفاظ على السلمية وعلى عدم الاستجابة لأي نوع من الاستفزازات والاختراقات العنيفة، في وقت كان بإمكان المحتجين في مصر مثلا، أيام التجاذب حول السلطة بين معسكري الإخوان والجيش، أن يحرقوا القاهرة بأكملها لو قام كل محتج بإشعال عود ثقاب واحد وألقى به على الأرض. أيضا هذا ما عيناه جميعا في الحسيمة أيام احتجاجات الريف وغيرها. كان الحرص شديدا على الممتلكات والمنشآت، نظرا لوجود حاجز نفسي، مؤطر بقيم مرجعية دفينة في الشخصية، حال دون ذلك. ونحن نتابع ما يجري في فرنسا اليوم نقف على وجود قطيعة فعلية بين المحتجين وبين الدولة. قطيعة ساهم في تشكلها غياب السياسة وغياب خطاب القيم لفائدة خطاب الأرقام و الحرص الحثيث على الرفاهية الفردية.. قطيعة سارعت في إخراج حركة جماعية غير منظمة وغير واضحة الأهداف والمطالب، مطالب غير منسجمة تترنح ما بين ضرورة تراجع الضرائب وما بين مطالب العدالة الاجتماعية، وما بين رحيل إيمانويل ماكرون… قطيعة ساهم في تشكلها بشكل واضح عالم الانترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي. قطيعة تم التعبير عنها برفض الحوار مع الدولة، أحد أكبر قيم الحداثة الديمقراطية والمواطنة، وبعمليات تخريب لمنشآت عمومية وتاريخية وممتلكات خاصة مست بحريات مواطنين وفئات فرنسية منتجة. في فرنسا ماكرون، تعرضت السياسة و الأيديولوجيا الحزبية إلى تهميش خطير، اقتات منه دعاة الفوضى الفكرية والتحرر المتطرف. تهميش أخرج فرنسا من اتفاق وعقد إجتماعي تاريخي، و أخل بقواعد ممارسة تدبير الدولة. تلك القواعد التي جعلت من السياسة قطبا محركا ومنتجا للسلطة. فرنسا ماكرون حنطت الأحزاب، و لم تعد السياسة هي من تنتج السلطة ورجال الدولة، فوقعت القطيعة بين حاجة المجتمع للسياسة، وبين منافع فئات مهتمة بالربح الاقتصادي، فغاب المخاطب المقنع والمؤطر القاعدي والوسيط الاجتماعي، فأصبحت المواجهة مباشرة مع رأس الدولة. درس السياسة كضرورة لإنتاج السلطة بدأ الفرنسيون يستوعبونه جيدا و يعيدون النقاش بشأنه وبشأن طبيعة النظام السياسي ككل، هو درس لنا نحن أيضا في المغرب.