خلال هذه السلسلة الرمضانية، سيغوص “برلمان.كوم” بقرائه في عالم شخصيات طبعت تاريخ المغرب المعاصر في مجالات متعددة، الفن والرياضة والفكر والسياسة والعمل الاجتماعي، بالإضافة إلى المال والأعمال. "برلمان.كوم" وليقربكم أكثر منها، ارتأى تقديم نبذة عن تلك الشخصيات مسلطا الضوء على حياتها وأهم أعمالها، والأحداث التي أدخلتها سجل التاريخ المغربي المعاصر من بابه الواسع. في هذه الحلقة، سنقدم نبذة عن حياة الزعيم السياسي الراحل عبد الكريم الخطيب الذي يعتبر واحدا من رجالات المغرب القلائل الذين أثروا الحياة السياسية والعلمية والثقافية بالمغرب، بوطنية صادقة مشهود له بها، وذلك لما عرف عنه من دفاعه عن الثوابت الوطنية والعمل بمنهج الوسطية والاعتدال بين الدين والسياسة. الميلاد والنشئة: ازداد عبد الكريم الخطيب ذات شهر مارس من سنة 1921 بمدينة الجديدة حاضرة دكالة، نشأ وترعرع وسط أسرة متدينة، والده هو الحاج عمر الخطيب، الذي كان يشغل وظيفة ترجمان إداري، وكان رجل دين عرف عنه الزهد في حياته، أما أمه فهي مريم الكباص التي عرفت بقوة شخصيتها وغزارة ثقافتها، وكانت من النساء القلائل اللواتي حفظن القرآن عن ظهر قلب. المسار الدراسي: تابع الخطيب تعليمه الابتدائي والثانوي بالمغرب، وانتقل إلى الجزائر حيث درس الطب في العاصمة الجزائرية، ليشد الرحال بعد ذلك نحو كلية الطب بالسوربون، وعمل في مستشفى “فرانكو موزولمان” لمدة 6 سنوات. وخلال متابعته لتعليمه العالي في مجال الطب، زاوج الخطيب بين تحصيل العلم وبين تحركاته السياسية المبكرة في إطار تنظيمات طلابية وجمعوية نصرة لقضايا المغرب الذي كان يرزح وقتها تحت نير الإستعمار. وبعودته من باريس سنة 1951 أصبح الدكتور الخطيب أول طبيب جراح في المغرب، وعمد إلى فتح عيادة بطريق مديونة بالدار البيضاء. المسار السياسي: انخرط الخطيب في صفوف المقاومة المغربية ضد الوجود الفرنسي منذ بداية الخمسينيات، ونظرا لمعرفته بأحوال الدول الأوروبية فقد تم تكليفه بالعلاقات الخارجية وتأمين الأسلحة. كان من أهم المؤسسين للحركة الشعبية إلى جانب المحجوبي أحرضان سنة 1959، وعملا جنبا إلى جنب إلى حدود سنة 1966، حيث تأججت الخلافات بين الرجلين. وخلال المؤتمر الخامس للحزب الذي انعقد سنة 1967 انشق الخطيب وأسس حزبا آخر من رحم الحركة الشعبية أطلق عليه اسم الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية في شهر فبراير من نفس السنة. وفي سنة 1973 أسس مركزية نقابية تابعة لحزبه الجديد اختار لها اسم “الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب”، وحصلت الحركة الشعبية الدستورية على ثلاثة مقاعد في الانتخابات التشريعية ليونيو 1977. ومن أهم مواقف الدكتور الخطيب معارضته لقرار الحسن الثاني بحل البرلمان وإعلان حالة الطوارئ سنة 1965، واعتذاره عن المشاركة في الحكومة سنة 1965. المسؤوليات والوظائف: انتخب في عام 1956 مسؤولا أعلى لجيش التحرير، وعين وزيرا للعمل والشؤون الاجتماعية عام 1960 ثم وزيرا مكلفا بالشؤون الأفريقية عام 1961، وانتخب بعد ذلك رئيسا للبرلمان سنة 1965. في سنة 1967 وبعد انشقاقه عن الحركة الشعبية سيصبح الدكتور الخطيب الأمين العام للحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية فوزيرا في حكومة محمد كريم عمراني سنة 1972. وبعد المسيرة الخضراء وانطلاق المسلسل الديمقراطي نجح في كسب عضويته من جديد في البرلمان إثر الانتخابات التشريعية التي جرت سنة 1977. وكانت آخر مسؤولية حزبية للراحل عبد الكريم الخطيب هي انتخابه أمينا عاما لحزب العدالة والتنمية (الاسم الجديد للحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية بعد اندماج أفراد من جماعة الإصلاح والتجديد بها سنة 1998). الخطيب وإدماج الإسلاميين في العمل السياسي: التحاق أعضاء وقياديي “حركة الإصلاح والتجديد” بالحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية بعدما فشلوا في تأسيس “حزب التجديد الوطني” سنة 1992 ذي التوجهات الإسلامية، كان ثمرة لقاءات مطولة مع الدكتور الخطيب لعناصر توجت بفتح أبواب حزبه أمام الوافدين من الإسلاميين شريطة دخولهم كأفراد وليس كتنظيم، فأصبحت الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية إطارا شرعيا مارست عبره جماعة الإصلاح والتجديد نشاطها السياسي. مع دخول أفراد من جماعة الإصلاح والتجديد في الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية جرت محاولات لتغيير اسمها حتى تعبر عن الوضع الجديد، وفي نهاية سنة 1998 أصبح اسم هذه الهيئة السياسية “حزب العدالة والتنمية”. الاختيارات الفكرية للخطيب: يعد الدكتور عبد الكريم الخطيب واحدا من رجالات المغرب الكبار، فهو يعتبر شخصية تاريخية ورمزا من الرموز السياسية في المغرب، اختار توجها إسلاميا معتدلا لحركته منذ انسلاخها عن الحركة الشعبية في نهاية الستينيات، وتكرس ذلك التوجه مع انفتاح الحركة على جماعة “حركة الإصلاح والتجديد” واندماجها في حزب الدكتور الخطيب. توجهات الدكتور عبد الكريم الخطيب الإسلامية وتشبثه بمنهجية وسطية منفتحة على ثقافات وشعوب العالم، جعلته إلى جانب اهتمامه بقضايا الإسلام والمسلمين في العالم، مساندا لقضايا التحرر، فبالإضافة إلى دعمه لحركات التحرر في المغرب الكبير، وخاصة الجزائر، وتأسيسه لجنة عليا للتنسيق بين المقاومتين المغربية والجزائرية، ساند حركات التحرر في إفريقيا خاصة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بجنوب إفريقيا بقيادة زعيمه “نيلسون مانديلا”، الذي حافظ على علاقات متينة معه، كما ساند القضية الفلسطينية، وعمل على تأسيس الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني في منزله. الوفاة ونهاية رحلة الحياة: فارق الدكتور عبدالكريم الخطيب الحياة الدنيا إلى دار البقاء يوم 27 شتنبر من سنة 2008 مخلفا وراءه إرثا سياسيا وإنسانيا سيظل موشوما في تاريخ المغرب المعاصر، فكان الراجل بذلك وسيظل مثالا للمناضل الشهم، والمقاوم الفذ، والطبيب الإنساني.