أثارت قضية تطبيق مسطرة الإكراه البدني لاستخلاص الغرامات المالية الصادرة في مجال السلامة المرورية، وخصوصا تلك المتعلقة بالمخالفات التي يرصدها الرادار الثابت، سجالا قانونيا وحقوقيا في الآونة الأخيرة. فقد انبرى عدد من المسؤولين الحكوميين يبحثون عن حل لهذه المشكلة، التي يتقاطع فيها القانون والواقع وحقوق الإنسان، ولسان حال كل واحد منهم يصدح بالعبارة التالية: “أنا الوحيد المؤهل لحل هذا المشكل، وأنا الحريص على حماية المواطنين من هذه الزلة القانونية والعملية”. في بداية الأمر، سارعت النيابة العامة، ممثلة في رئيسها لإصدار منشور داخلي موجه لممثلي الحق العام بمختلف محاكم المملكة، يطلب منهم مراجعة كافة أوامر الاعتقال الصادرة في ملفات الإكراه البدني المتعلقة بالغرامات، للتأكد من مدى سلوك المسطرة القانونية بشأنها، خصوصا في الشق المتعلق بتبليغ المخالفين في عناوينهم السكنية. وما لبثت أن توصلت النيابات العامة بهذا المنشور، حتى سارع وزير العدل إلى المطالبة بعقد اجتماع على أعلى مستوى، آملا في إيجاد حل لهذه المشكلة العملية، مُقترحا تطبيق مسطرة مماثلة لتلك التي اعتمدتها مصالح الأمن والجمارك بخصوص استيفاء الديون العمومية بالمعابر الحدودية، والتي كانت قد وضعت -في وقت سابق- حلا لاعتقال الملزمين بالإكراه في مراكز الحدود بمجرد تسديد المبالغ المستحقة لمأمور الجمارك، باعتباره محاسبا عموميا، بينما تتكفل مصالح الأمن الوطني بإلغاء مذكرات البحث الصادرة في حق المكرهين فور الوفاء بمبلغ الدين أو الغرامة. وزارة التجهيز والنقل واللوجيستيك، التي تشرف عمليا على الرادارات الثابتة وتمسك قواعد بياناتها، سكتت عن الكلام المباح، وابتلعت لسانها ردحا من الزمن، قبل أن يخرج الوزير اعمارة بتصريح غريب وعجيب مؤداه أن وزارته لا علاقة لها بهذا الموضوع! فالمسؤولية، بحسب السيد الوزير، تقع على وزارة العدل باعتبارها المشرفة على ملفات الإكراه البدني، وعلى وزارة الداخلية التي تشرف على الأمن المكلف بالتنفيذ. وبصرف النظر عن عدم مواكبة السيد الوزير للتطور المفصلي الذي عرفه التنظيم القضائي للمملكة، بعد استقلال النيابة العامة على وزارة العدل، وتسلم السلطة القضائية لجانب كبير من سلطات الإشراف والتدبير على قضاة تطبيق العقوبة وغيرهم، فإنه من المؤسف، بل ومن المثير للشفقة، أن تجد وزيرا يتنصل من مسؤولية القطاع الذي يديره، ويقول للمغاربة بوجه مكشوف “ما شي سوقي”. فأين هو التضامن الحكومي؟ وأين هي المسؤولية المشتركة والتضامنية لأعضاء الحكومة في المشاكل المتعلقة بمصالح المواطنين؟ وإذا كانت خيبة الأمل التي أفرزتها تصريحات الوزير اعمارة مفهومة ومبررة، فهو وزير سياسي ويخاف على شعبية حزبه في قضية تهم شرائح كبيرة من المجتمع، فإن تسرّع باقي المسؤولين الآخرين يبقى غير مستساغ من الناحية المنطقية والقانونية. ف”تليّين ملفات الإكراه البدني” كما ادعت وزارة العدل هو اجتهاد غير مسبوق ولا نعرف لحد الآن ما المقصود به. هل سيتم تمييز قضايا الإكراه البدني في مخالفات السير والجولان عن باقي الغرامات والإدانات النقدية؟ وهل ستتم مراجعة المسطرة المعتمدة في تطبيق الإكراه من طرف مختلف محاكم المملكة؟ كما أن مراجعة أوامر الاعتقال الصادرة عن النيابة العامة في هذه الملفات كما جاء في منشور رئيس النيابة العامة، تطرح بدورها عدة تساؤلات لدى الباحث القانوني والحقوقي ببلادنا. فهل “المراجعة” تعني إلغاء تلك الأوامر وإعادة مسطرة الإكراه من جديد، أم أنها تعني إرجاء المسطرة إلى غاية إيجاد حل لهذه الإشكالية المستجدة؟ وبغض النظر عن المقصود بمنطوق منشور النيابة العامة، فإن السؤال المحوري المطروح: هو كيف سيتم تطبيق قانون السير والجولان إذا لم يتم استخلاص الغرامات المتعلقة بالمخالفات التي يرصدها الرادار الثابت؟ وكيف سيتم زجر المخالفين إذا لم يكن هناك استيفاء للغرامات المسجلة في حقهم؟ وما هي الغاية والجدوى من الرادارات الثابتة، التي كلفت الدولة ميزانية ضخمة، إذا لم يكن بوسعها تفعيلها؟ فحوادث السير في تزايد مستمر ببلادنا، وخسائرها المادية والبشرية في تصاعد مضطرد، والرادار الثابت باعتباره واحدا من آليات المراقبة الأوتوماتيكية أضحى جزءًا من المشكلة بعدما كان في السابق جزءًا من الحل. فالحكومات السابقة راهنت على الرادار الثابت لتدعيم النزاهة وتوطيد آليات المراقبة، في حين يأتي مسؤول حكومي وقضائي، في الوقت الراهن، بمنشورات وتصريحات غير مؤسسة قانونيا ليعطل مهامه والغاية من تنصيبه. نحن مع التطبيق السليم للقانون. ونحن ضد اعتقال المواطنين خارج القانون. لكن مخرجات التطبيق الأمثل لقانون السير والجولان تقتضي أولا التناغم الحكومي، بحثا عن حل مندمج لمسألة استيفاء الغرامات المرتبطة بالمخالفات المرورية. فقبل تنصيب الرادارات الثابتة، كان حريا بوزارة النقل والتجهيز واللوجيتسيك، التي تخفى وزيرها وراء الأعذار الواهية، أن تنسق مع السلطات القضائية المختصة ووزارة الداخلية لبلورة تصور مشترك لاستخلاص هذه الغرامات، التي تبقى ضرورية لردع السائقين المتهورين الذين يقتلون الأبرياء في طرق المملكة الشريفة. وإلا ما حاجتنا بالرادار إذا لم يكن بمقدورنا استخلاص قيمة المخالفات التي يرصدها، وكأني أقول بلسان الشاعر “ما حاجتي بك في النور …إذا لم أجدك في العتمة”. فمن بين حسنات النقاش العمومي الذي أثاره الرأي العام حول هذه القضية، أنه كشف القناع عن طريقة معالجة بعض المسؤولين للقضايا التي تهم عيش المغاربة وحرياتهم الفردية والجماعية. فالكل يتنصل من المسؤولية ويرميها في ملعب الآخر، وكأننا كرة “أسمال بالية” يتقاذفونها بأرجلهم. فالنيابة العامة، كان من واجبها أن تخرج إلى المواطنين وتقول لهم، بكلام صريح، أنا المسؤولة عن تطبيق مسطرة الإكراه البدني في الشق المتعلق بالتنفيذ، وأنا المسؤولة عن انتداب الشرطة القضائية للقيام بالإيداع في السجن في حالة عدم الأداء، وأنا المسؤولة عن استخلاص غرامات السير عن طريق الإكراه، وليس المسؤول هو شرطي المرور أو كاتب الضبط أو غيرهم. ووزير التجهيز والنقل واللوجيستيك، كان جديرا به أن لا يتملص من مسؤوليته، وكأنه طفل يتنكر من عدم أداء فروض الإملاء في القسم الابتدائي، وكان عليه أن يقول لنا، نحن المغاربة، هذه هي المشكلة، وهذا هو الحل الجماعي الذي نتدارسه مع باقي الوزراء والمسؤولين. أما أن يقول إن المشكل هو من اختصاص وزارتي العدل والداخلية، فهذا تهرب مُوغل في الجبن السياسي. لأن الأمن لا يصدر أحكام الإكراه البدني، ولا يراقب مشروعيتها، ولا يقدّر مدة الإجبار في قضايا الإكراه البدني. فالأمن ينفذ أوامر كتابية بالاعتقال، يفترض أنها خضعت لمسطرة قضائية سليمة. وفي الأخير، لا يسعنا إلا أن نتطلع إلى غد ناظر، لنعرف ماذا كان يقصد رئيس النيابة العامة في منشوره بعبارة “مراجعة أوامر الاعتقال”، وماذا كان يقصد وزير العدل بعبارة “تليين ملفات الإكراه البدني”. أما وزير التجهيز والنقل واللوجيستيك فلا نترجى منه شيئا.. لقد قال كلمته ومضى.. غير عابئ بمشاكل المغاربة.