تتميز الخطب الملكية بالصراحة والوضوح، وخاصة خلال الخمس سنوات الأخيرة، في تناول مختلف القضايا والمواضيع الوطنية والدولية. فسواء تعلق الأمر بإشكاليات التعليم والإدارة والقضاء، أو بالواقع الحزبي والسياسي وتدبير الشأن المحلي والوطني، فإن جلالة الملك يحرص على وضع النقط على الحروف، وتسمية الأمور بمسمياتها، تشخيصا ونقدا وتوجيها، عسى أن يعتبر المسؤولون عن هذه القطاعات. إلا أن خطاب العرش لهذه السنة يأتي في سياق وطني خاص، مطبوع بالعديد من الانتظارات، على خلفية المطالب الاجتماعية لساكنة منطقة الحسيمة. وخطاب العرش لهذه السنة، لم يخيب التطلعات، لا من حيث المواضيع التي تطرق لها، ولا من حيث قوة مضمونه، وأسلوبه المباشر، الذي قد يوحي للبعض بالتشاؤم، وبخيبة الأمل، أو حتى فقدانه، لأنه الكلام صادر عن ملك البلاد. ولكن جلالة الملك يوضح بأننا نعرف من نحن وإلى أين نسير، ونتوفر على المنظور البعيد المدى، وعلى الإرادة القوية والصادقة، والتلاحم الوثيق بين العش والشعب، وبفضل كل هذه الخصائص، استطاع المغرب تجاوز الصعاب، ورفع شتى التحديات التي واجعته عبر تاريخه العريق. لقد باح جلالة الملك في هذا الخطاب بكل ما في صدره، من انشغالات، ومن آمال وتطلعات، من خلال اعتماد منظور استراتيجي شامل، في تحليل واقع الحال. فقد أثار جلالة الملك ما يسكت عنه العديد من المسؤولين : لماذا يعيش المغرب على وقع مفارقات صارخة يصعب فهمها أو القبول بها. ففي الوقت الذي يحظى فيه المغرب بالثقة والمصداقية على الصعيد الجهوي والدولي، ويجلب أكبر الشركات العالمية للاستثمار، فإن الواقع والأرقام تصدم المغاربة قل غيرهم، كلما تعلق الأمر بالقطاعات الاجتماعية، حتى أصبح من المخجل أن يقال بأن ذلك يقع في مغرب اليوم. إذ لا يعقل ألا يساهم التقدم الملموس الذي تحقق في العديد من المجالات، كالفلاحة والصناعة والطاقات المتجددة وغيرها، في تحسين المعيش اليومي للمواطن. وأمام هذا الوضع يقف جلالة الملك بكل صراحة على بعض المشاكل التي يعاني منها المواطن المغربي، ومنها الإدارة، والمجالس المنتخبة، والأحزاب السياسية، وغيرها. وهكذا، فقد وقف جلالة الملك على العوائق التي تعاني منها الإدارة العمومية، بكل مسؤوليها ومستوياتها، مقارنة بالقطاع الخاص، سواء من حيث ضعف الحكامة والنجاعة، أو من حيث مستوى جودة الخدمات التي تقدمها للمواطنين، مستغربا ضعف الكفاءة وروح المسؤولية لدى موظفي القطاع العام، الذين يوثرون الحصول على راتب شهري، على قلته، بدل الجد والاجتهاد كوسيلة للارتقاء الاجتماعي. وفي هذا الإطار، قدم جلالة الملك المراكز الجهوية للاستثمار كنموذج لهذا الفشل الإداري. فعوض أن تجد الحلول لتحفيز الاستثمار، فهي تشكل مشكلة وعائقا أمامه. وهنا يلقي جلالة الملك الضوء على مكن الداء : فالمسؤولون السياسيون والإداريون لا يستطيعون مواكبة التطور السياسي والتنموي للمغرب، ولا ينعكس ذلك على تعاملهم مع التطلعات والانشغالات الحقيقية للمغاربة. فالمغرب يعاني، وبشكل كبير، من العقليات التي لا تريد أن تتغير، ومن القدرة على التنفيذ والإبداع التي لم تتطور. بل أكثر من ذلك، يؤكد جلالة الملك، فعندما تكون النتائج إيجابية، يتهافتون على وسائل الإعلام، لتحقيق المكاسب السياسية والشخصية من وراء ذلك، وعندما لا تسير الأور كما ينبغي، يختبؤون وراء القصر الملكي، وكأنه هو المسؤول الوحيد عن هذه البلاد. والواجب، يضيف جلالة الملك، يقتضي أن يقوم يتلقى المواطنون أجوبة مقنعة، وفي آجال معقولة، عن تساؤلاتهم وشكاياتهم، مع ضرورة شرح الأسباب وتبرير القرارات،…. وهو ما يدفع المواطنين للتساؤل، ولهم كل الحق في ذلك : إذا كان لا بد أن يلجؤوا إلى ملكهم وطلب مساعدته في حل مشاكلهم وإنصافهم وقضاء أغراضهم، فما الجدوى من وجود المؤسسات، وإجراء الانتخابات، وتعيين الحكومة والوزراء، وغيرهم من المسؤولين، إذا كانوا هم في واد، والشعب وهمومه في واد آخر ؟ وهنا يرجع جلالة الملك إلى جوهر الإشكالية السياسة بالمغرب، أي عزوف المغاربة عن الانخراط في العمل السياسي، وعن المشاركة في الانتخابات… ولمن كان يتساءل ويبحث عن جواب، فجلالة الملك لا يتردد في قولها جهرا : عدد من المواطنين لا يثقون في الطبقة السياسية، لأن بعض السياسيين أفسدوا السياسة، وانحرفوا بها عن جوهرها النبيل. كما أن تصرفات عدد من المسؤولين الإداريين والمنتخبين، على حد سواء، هي التي تزكي الفكرة السائدة لدى عموم المغاربة بأن التسابق على المناصب هو بغرض الاستفادة من الريع واستغلال السلطة والنفوذ. وهو ما تؤكده بعض الأمثلة الحية على أرض الواقع، إلا أن ذلك والحمد لله، لا ينطبق على الجميع النسؤولين. ولا يقف جلالته عن هذا الحد. ولأنه مغربي كجميع المغاربة، يحس بما يحسون، ويضره ما يضرهم، فقد انضم إليهم في هذا الموقف، ليؤكد أنه كملك المغرب غير مقتنع باطريقة التي تمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين… متسائلا بعد هذا الاعتراف الصريح : فماذا بقي للشعب ؟ وهنا يصرخ جلالة الملك صادقا في وجه المسؤولين : “كفى”… ولأن هذه الكلمة لا تشفي غليله رغم حمولتها القوية، فقد أضاف عليها مرادفتها بالدارجة المغربية “باراكا”… حتى يصل صداها إلى كل المغاربة دون استثناء…. ويضيف لها الشرط : إما أن تقوموا بمهامكم كاملة، وإما أن تنسحبوا… وهنا الأمر ليس للاختيار، وإنما للحسم… لأن جلالة المك يزن كلامه، ويعرف ماذا يقصد…. فلا يمكن أن تبقى الأمور على هذا المنوال، لأن جلالته يعرف بأن للمغرب نساؤه ورجاله الصادقون، الذين تحركهم روح الوطنية وحس المسؤولية… ولا يريدون إلا خدمة وطنهم ومواطنيهم…. ولكي يوضح الأمور، وإن كانت لا تحتاج إلى أي توضيح، يتساءل جلالة الملك : ما معنى المسؤولية إذا غاب عن صاحبها أبسط شروطها، وهو الإنصات إلى انشغالات المواطنين ؟ لأن مسؤولية وشرف خدمة المواطنين تبدأ من الاستجابة لحاجياته البسيطة، إلى إنجاز المشاريع كيفما كان حجمها، مذكرا جلالته بمنظوره الحكيم، الذي لا يفرق بين مشاريع صغيرة وأخرى كبيرة، وإنما بمدى أهميتها بالنسبة للسكان، مستدلا بمثال حفر بئر وبناء سد وأهمية كل منهما بالنسبة للمواطن…. ولأن جلالة الملك تربى على خدمة أبناء شعبه، فهو لا يستطيع أن يتصور كيف يمكن لمسؤول أن يخرج من بيته، ويقابل الناس، وهو يعرف أنهم يعرفون بأنه ليس له ضمير… متسائلا باستغراب : ألا يخجل هؤلاء من أنفسهم، رغم أنهم يؤدون القسم أمام الله والوطن والملك ؟ ثم يخرج جلالة الملك بالخلاصة المنطقية وهي محاسبة أو إقالة أي مسؤول ثبت في حقه تقصير أو إخلال في النهوض بمهامه، مشددا على ضرورة تطبيق أحكام الدستور، ولاسيما ما يتعلق منها بربط المسؤولية بالمحاسبة. لأن القانون، كما يطبق على جميع المغاربة يجب ان يطبق أولا على كل المسؤولين دون استثناء أو تمييز…. لأنه لا فرق بيم المسؤول والمواطن في حقوق وواجبات المواطنة، ولا مجال للتهرب من المسؤولية أو الإفلات من العقاب… ولأنه ينطلق من منظور شامل، فقد ألح جلالة الملك على ضرورة التفعيل السليم للدستور، مبرزا أن الأمر يتعلق بمسؤولية جماعية تهم كل الفاعلين المعنيين. كما يؤكد جلالة الملك أن النظام السياسي المغربي يعد من الأنظمة السياسية المتقدمة، إلا أنه يعاني من مشكل التطبيق، وأن جلالته يحرص كل الحرص على احترام اختصاصات المؤسسات وفصل السلط. وفي هذا الصدد، يشدد جلالة الملك أنه لن يقبل بأي تراجع عن المكاسب الديمقراطية، ولن يسمح بأي عرقلة لعمل المؤسسات، مؤكدا أن الدستور والقانون واضحان، والاختصاصات لا تحتاج غلى تأويل… وهو رد صريح على الذين يلوحون بوجود تراجع عن المكاسب الديمقراطية، والتفاف على الدستور الجديد. غير أن كل هذه الادعاءات لا أساس لها من الصحة. والعيب يوجد في المؤسسات والمسؤولين الذين لا يمارسون اختصاصاتهم، وتختبؤون وراء منعهم من القيام بمعملهم، والواقع أنهم عاجزون القيام بها، وإلا فمن يمنعهم من تقديم استقالتهم… فالواقع أثبت بأن عددا من المسؤولين لا يقومون بمهامهم، ويتركون قضايا المواطنين عرضة للضياع. وهو ما يجعل جلالة الملك يتحمل مسؤولياته الدستورية لصيانه مصالح الناس. فالمغرب، يختتم جلالة اللمك، يجب أن يبقى فوق الجميع… فوق الأحزاب، وفوق الانتخابات، وفوق المناصب الإدارية.